اقتصاد المعرفة طريق الابتكار والسعادة

اقتصاد المعرفة طريق الابتكار والسعادة .. د. جاسم الفارس

إن مفهوم (الاستهلاك) في إطار اقتصاد المعرفة يختلف عنه في إطار الاقتصاد التقليدي، فإذا كان الاستهلاك التقليدي يعتمد السلع المادية لمرة واحدة، فإن الاستهلاك في اقتصاد المعرفة يعتمد سلعة (المعرفة) غير القابلة للنفاد، وهو بالتالي يعمل على تحويل الأفكار العلمية إلى إنجازات مادية تحقق منافع اقتصادية للمجتمع، لقد كانت فكرة الصعود إلى القمر حاجة غير قابلة للتحقق في يوم ما…

الاجتهاد: يتحدد موقع الإنسان في الإسلام في ضوء مبدأ الاستخلاف، الذي يقوم على قوله تعالى: ﴿ وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ﴾ [البقرة: 30 ] وهي أرقى مكانة وضع فيها الإنسان على مر التاريخ.

يستمد الإنسان فاعلية هذه المكانة من القرآن الكريم الذي حدد المضامين الأساسية لهذا الدور بوعي الدين والتمسك به، وممارسة العلم ومتابعة المعرفة، فالاستخلاف دين وعلم.. وما مشكلات الأمة وتخلفها إلا من التقصير الكبير في إدراك الاستخلاف ومقاصده في إعمار العالم.

ولأن الاستخلاف دين وعلم، فهو يرسم حدود النهضة الحضارية، باعتماد العلم ومنطقه في صياغة نشاطات الأمة المتعددة السياسية والاجتماعية والثقافية.
تحتاج الأمة اليوم إلى إحداث ثورة في المفاهيم كافة، وأهم هذه المفاهيم هو(الاستخلاف)، لأنه المفهوم الجامع لقوتين، النهضة والتقدم. ولذلك فإن (ثورة الاستخلاف) تعد ضرورة شرعية وحضارية، فشرعيتها مستمدة من التمسك بالقرآن الكريم مصدراً أساسياً للشريعة، وحضاريتها مستمدة من وجوب تطبيق أحكام القرآن الكريم وإعادة إعمار العالم في ضوئه، مستنيرين بهدي الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بناء حضارة الإسلام.

ويقف النشاط الاقتصادي في مقدمة النشاطات التي تحتاج الاهتداء بمضمون (الاستخلاف)، لينضبط أداؤه بالمنهج الرباني والأسس الربانية والأحكام الربانية.
ومن بين عناصر النشاط الاقتصادي، يقف (الاستهلاك) في مقدمة تلك العناصر؛ لأنه العنصر الذي يعيد تجديد عناصر النشاط الأخرى، الإنتاج والتبادل والتوزيع.
إن الاستهلاك، قيد الدراسة، لا يعتمد مفهوم (الاستهلاك) التقليدي، بوصفه (الإنفاق الذي يوجه لشراء السلع والخدمات النهائية بغية إشباع الرغبات والحاجات الإنسانية على مختلف مستوياتها) إنما يعتمد (المعرفة) بوصفها السلعة الأكثر تأثيراً في حركة الحضارة اليوم.. والتي بدخولها النشاط الاقتصادي قسمت تاريخ الفكر الاقتصادي إلى عصرين…اقتصاد ما قبل اقتصاد المعرفة، واقتصاد المعرفة..

يسعى البحث إلى تحليل أبعاد (استهلاك المعرفة) وتأثيرها في عملية الابتكار على الأصعدة كافة، وصولاً إلى تحقيق النهضة الإسلامية التي تحقق السعادة الحقيقية للإنسان في الدارين بتضافر العلم والدين.

يقوم البحث على فرضية مفادها «إن استهلاك المعرفة مطلب شرعي يقود إلى الابتكار وتحقيق سعادة الدارين .»
وبغية الوصول إلى إثبات أو نفي الفرضية قسمنا البحث على المباحث الآتية:
المبحث الأول: نظرية الاستهلاك الإسلامية.
المبحث الثاني: سلع المعرفة والثروة.
المبحث الثالث: المعرفة والسعادة.

اعتمد البحث منهجي الاستنباط والاستقراء اللذين يتكاملان ويتضافران في إدارة البحث الاقتصادي، فحين نتبع المنطق في تحليل الظاهرة الاقتصادية فإننا نستخدم الاستنباط في متابعة آليات عمل الظاهرة، وحين نضع التعميمات والوقائع الاقتصادية المتعددة من خلال السرد التاريخي أو الملاحظة، فإننا نستخدم المنهج الاستقرائي لأننا سننتقل من الخاص إلى العام.
وانتهى البحث بخاتمة تضيء آفاق التحول إلى اقتصاد المعرفة في ضوء استيعاب مفهوم الاستخلاف ونظرية الاستهلاك بالمنظور الإسلامي الجديد.

المبحث الاول: نظرية الاستهلاك الإسلامية

إن مفهوم (الاستهلاك) في إطار اقتصاد المعرفة يختلف عنه في إطار الاقتصاد التقليدي، فإذا كان الاستهلاك التقليدي يعتمد السلع المادية لمرة واحدة، فإن الاستهلاك في اقتصاد المعرفة يعتمد سلعة (المعرفة) غير القابلة للنفاد، وهو بالتالي يعمل على تحويل الأفكار العلمية إلى إنجازات مادية تحقق منافع اقتصادية للمجتمع، لقد كانت فكرة الصعود إلى القمر حاجة غير قابلة للتحقق في يوم ما..

غير أنها كانت مقدمة ضرورية لاكتشاف المركبة الفضائية. عندما تغير منهج التفكير واتسعت آفاق المعرفة بوصفها نشاطاً اقتصادياً بتراكمها التاريخي الأفقي والعمودي، ولذلك فإن التعامل الجاد مع المعرفة بوصفها نشاطاً اقتصادياً يقود إلى طفرات حضارية ضرورية.

تمتلك الأمة العربية إمكانات معرفية وتقنية، غير أنها لا تمتلك القدرة على إزالة المعوقات التي تعيق تقدمها ونهضتها. ذلك لأنها لم تفعّل مبدأ (الاستخلاف(، بتحويله إلى مؤسسات معرفية وعلمية وأخلاقية ترتقي بالإنسان إلى المكانة التي أرادها الله عز و جل يعززها بالإبداع والابتكار والإيمان الحقيقي الفعّال.

إن حسن استخدام مبدأ (الاستخلاف) الذي يعد الدين والعلم جوهره الأساسي، يقود إلى إنماء النزعة الابتكارية عند الإنسان المسلم.. وإن حسن تفعيل مبدأ الاستخلاف يعد ضرورة شرعية وحضارية، تتمثل شرعيته في الاستجابة لأحكام الله تعالى، وحضاريته في تضافر جهود الفرد والدولة والمجتمع بغية خلق الفعل الاجتماعي ليكون فضاءً معرفياً قرآنياً، وبِنية صالحة للابتكار، أو ليكون الابتكار جزءا من حاجات الإنسان والمجتمع الأساسية.

إن محاولة اكتشاف علاقة جديدة بين الاستهلاك والابتكار يعني إعادة النظر في منظومة مفاهيم الاستهلاك الذي سيصبح في عملية اقتصاد المعرفة )عملية استيعاب المعرفة ومنتجاتها، بغية تطوير الطاقات الابتكارية عند الفرد والمجتمع(، يتجلى هذا المفهوم من خال إدراك العلاقة بين العقل والمعرفة، وبين الفعل و المعرفة، فكيف يستهلك العقل المعرفة؟ وكيف تستهلك المعرفة العقل؟

إن إدراك استهلاك المعرفة يعد القاعدة الأساسية لإنماء الابتكار وإنتاج الجديد، ذلك أن المعرفة تتميز بفارق جوهري يكمن في كونها ذات جوانب محسوسة، تتجى في صورة نظريات ونظمواكتشافات علمية، وإنجازات تكنولوجية، ونتاج إبداعي، ومن الطبيعي أن توفر كل هذه التجليات مداخل عدة لكشف النقاب عن لغز المعرفة. فالمعرفة هي منظارنا الذي به نكتشف العالم، هي جوهرة البصيرة.

صارت نظرية الاستهلاك- في علم الاقتصاد بمدارسه الوضعية – جزءاً من تاريخ الفكر الاقتصادي، بعد سيادة (اقتصاد المعرفة) الذي قسم ذلك التاريخ إلى قسمين، اقتصاد ما قبل اقتصاد المعرفة، واقتصاد المعرفة ابتدأ بمقالات الاقتصادي الأمريكي F.Hayke ) ) في العلاقة بين الاقتصاد والمعرفة بين سنوات 1930 و 1940 ثم تبعه (مارك بوارت)، الذي كتب عن اقتصاد المعرفة سنة 1977 ، ثم أعقبه (رومر) سنة 1986 ، فكتب عن اقتصاد المعرفة في معرض رفضه للنظريات النيوكلاسيكية التي اعتمدت عناصر الإنتاج التقليدية المعروفة موضحاً أن ﴿المعرفة) عنصر إنتاج خاص له أهمية كبيرة في علم الاقتصاد.

وفي ضوء هذا التطور، يرى الباحث أن نظرية الاستهلاك المعاصرة ينبغي أن تهتم باستهلاك المعرفة، كونها السلعة الأكثر كفاءة في الحفاظ على الحياة، وتنشيط الابتكار، ودفع عملية التقدم إلى الأمام، فضلا عن أن المعرفة ومفرداتها تأخذ حيزاً كبيراً في القرآن الكريم بدءاً من ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: 1]. مروراً بكل الآيات التي تؤكد على التفكير والتدبر والنظر والتذكر.. التي ترسم آفاق خلافة الإنسان في الأرض، وتحدد آليات إنجازها على وفق هدى الله عزّ و جلّ مستفيدة من ﴿تسخير) الله تعالى الكون للإنسان، بغية إعمار الأرض، في أقوم صورة.

في ضوء هذا التصور فإن البحث في نظرية استهلاك المعرفة يعد ضرورة شرعية وحضارية مرة أخرى، فمن حيث الضرورة الشرعية، فإن الاهتمام بآيات المعرفة وأدواتها مطلب إلهي، ومن حيث الرورة الحضارية، فإن الحضارة المعاصرة حضارة علم ومعرفة وبحث علمي وابتكار وتطوير.

إن صياغة نظرية استهلاك إسلامية سلعتها الأساسية المعرفة، ينبغي أن تهتم بجملة من القضايا منها:
-1 عقلانية المستهلك المسلم.
-2 السلع المعرفية.
-3 المعايير الأخلاقية لسلوك المستهلك.

ومن حيث العقلانية، فإن المستهلك المسلم ينطلق من أسس الشريعة في تحديد طبيعة العقلانية التي يمكن صياغتها في الآتي:

أ- النجاح، وهو جزء من المنظومة الأخلاقية الإسلامية وأعلاها الفضيلة، التي تتطلب موقفا إيجابيا من الحياة ومن البشر، والنجاح هو أكثر العناصر كفاءة في السياسة الأخلاقية الإسلامية، ويتمثل النجاح في إطار العقلانية الإسلامية، بالسعي لإنجاز دور ﴿الخلافة) الذي وضع الله تعالى الإنسان فيه للاستفادة من تسخير الكون، بغية تحقيق ﴿عمارة الأرض)، التي تعني تحقيق أرقى مستويات النمو المادي والروحي في المجتمع، وهذا يعني تحقيق أرقى مستويات النمو المادي والروحي في المجتمع، وهذا يعني تحقيق أزكى المنافع الاقتصادية للمجتمع. إن تحقيق المنفعة الاقتصادية يعد أحد الفضائل الإسامية، إذا كان متوازناً ومتسقاً مع جوانب الحياة الأخرى، إذا ما قصد به الخير.

ب- البعد الزمني لسلوك المستهلك: يربط الإسلام دائما بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الاخر، وإن الإيمان بالحساب في الحياة الأخرى يعني أن الزمن عند الإنسان المسلم لا يتوقف في الحياة الدنيا، وإنما سيمتد إلى ما بعد الموت، فالحياة قبل الموت وبعده هما جزءان متكاملان مترابطان، إن لهذا الاعتقاد أثر فعال في حياة المستهلك المسلم، فأي عمل يختاره المستهلك المسلم له بعدان، أثر مباشر لهذا العمل في الحياة الدنيا والأثر الأبعد في الحياة الأخرى، وفي ضوء هذه الحقيقة فإن المنفعة المستقاة من مثل هذا العمل، هي مجموعة القيم الحالية لهذين الجزأين، أما التأثير الثاني فهو إن عدد الاستعمالات الممكنة للوحدة الواحدة من الدخل والمتاحة للفرد يزداد زيادة بحيث يشمل الوجوه التي تنتج آثارها في الحياة الآخرة وحدها دون أن يكون لها أي نفع مادي في هذه الدنيا.

إن بذل المعرفة مجاناً للمجتمع يدخل في هذا المعنى، فبذل المعرفة على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والباحثين بغية الارتقاء بالمجتمع إلى الأفضل دون مقابل يعد من الأعمال التي تظهر نتائجها في الحياة الآخرة، وإن المنفعة المتحققة من هذا الإنفاق هي واحدة من أخلاقيات الاستخلاف غير المادية والمتمثلة في تعميق الوعي بالشريعة وأبعادها العلمية والمعرفية والأخلاقية والحضارية.. فإذا كان ضرورياً أن نذر ورثتنا أغنياء ولا نتركهم فقراء عالة على المجتمع كما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص في رواية البخاري، كذلك لا ينبغي أن نترك ورثتنا جهلاء، إنما نغنيهم بالعلم والمعرفة ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾]الزمر: 9[.

المبحث الثاني: سلع المعرفة و الثروة

في إطار اقتصاد المعرفة فإن سلع المعرفة هي الصناعات الإبداعية ومنها الصناعات الترفيهية والثقافية التي غمرت العالم، فالثروة لم تعد البيت والسيارة والمأكل والملبس وما إلى ذلك، إنما صارت المعرفة هي أحد أهم مصادر الثروة وأشكالها، فالمعرفة اليوم ونتائجها تعد الثروة الأكثر أهمية في إدارة شؤون الحياة الفردية والاجتماعية وقد أكد القرآن الكريم على المعرفة وأهميتها ومفرداتها في آيات تجاوزت الآلف.

السؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما متضمنات استهلاك المعرفة؟
يتمثل استهلاك المعرفة في مؤشرات التعليم وهي:
-1 معدل الأمية في المدينة.
-2 معدل الأمية في الريف.
-3 معدل الانتساب إلى المراحل الدراسية كافة.
-4 معدل الأمية للمرأة المتزوجة والعزباء.
-5 معدل الأمية للرجال.
-6 معدل الأساتذة وكفاءاتهم.

يعاني الوطن العربي من معدلات عالية جداً على صعيد الأمية، الأمر الذي يعني أن استهلاك المعرفة في درجات متدنية جداً، فقد تبين أن هناك 70 مليون أمي في الوطن العربي، منهم 45 مليون امرأة وطفل، كما ورد في تقرير اليونيسيف سنة 2004 م.

إن قلة استهلاك المعرفة يعني تدني المستوى الحضاري للمجتمع، مثلما يمثل تدني مستوى المعيشة من غذاء وملبس ومسكن إلى زيادة الفقر المادي، في حين أن زيادة استهلاك المعرفة يعني خلق مجتمع المعرفة من خلال جملة من المؤشرات هي:
-1 زيادة النمو الاقتصادي.
-2 تحقيق العدالة والإنصاف.
3 الارتقاء بمستوى التعليم والعلوم.
-4 تطور أنظمة الابتكار والإبداع وتكنولوجيا المعلومات والإتصالات.

فما هي النتائج المترتبة على استهلاك المعرفة؟
يحقق استهلاك المعرفة الخلاّق جملة من النتائج هي على النحو الآتي:
-1 ابتكار نواتج وسلع وطرائق جديدة.
-2 تعديل في نوعية السلع وأسعارها وجودتها.
-3 تعديلات جذرية على البرامج التعليمية من دور الحضانة إلى مؤسسات التعليم العالي.
-4 تعديلات جذرية في نظام الإدارة واللامركزية الإدارية، نتيجة التطورات الحاصلة في نظم معالجة المعلومات والإتصالات، مما يسمح بالإتصال بالحكومة الإلكترونية.
-5 تغرات واسعة ومتسارعة في هيكلية العمالة ونوع فرص العمل وعددها.
-6 الطلب المتزايد على معارف جديدة.
-7 بروز فرص عمل جديدة لم تكن متاحة في الاقتصاد الكلاسيكي.
-8 تعديلات جذرية على هيكليات مختلف قطاعات الإنتاج.
-9 تغيرات جذرية في عمل الإدارة وفي الأعمال المكتبية المترافقة معها.
-10 تسارع نمو تكنولوجيا المعلومات والإتصالات.
-11 تزايد عمليات الابتكار والإبداع في مجالات المعرفة والثقافة.
-12 الانتقال من نقل المعرفة إلى ابتكارها.
-13 انتشار واسع للشركات الصغيرة وشركات العائلة لعدم الحاجة إلى مواد أولية وإلى طاقة كبيرة، ولا إلى مراكز عمل واسعة.

في إطار الاقتصاد التقليدي، فإن الاستهلاك هو استعمال السلعة من قبل الفرد لإشباع حاجاته ورغباته، والاستهلاك هنا هو المرحلة الأخيرة من النشاط الاقتصادي، والسلع المقصودة هنا هي السلع المادية من الخبز والسكر واللحم والخضراوات وأثاث المنزل والملابس وما إلى ذلك.

في الاقتصاد المعرفي الذي بات يسهم الاقتصاد العالمي بمعطياته المتميزة، تعد المعرفة ومنتجاتها من الصناعات الإبداعية، هي السلعة الأكثر رواجاً وتأثيراً في إدارة النشاط الاقتصادي والاجتماعي. لذلك يسعى البحث إلى طرح أنموذج استهلاك إسامي يعتمد (المعرفة) السلعة الأساسية، وكيف نتعامل معها بغية الارتقاء بالإنسان والمجتمع والدولة نحو القيم والاحكام التي ارادها الله تعالى سبيلا للسعادة في الدارين. ذلك أن السعادة بالمنظور الإسلامي هي أهم منتجات المعرفة ببعديها الروحي والمادي، حيث يجتمع العقل والحس والإيمان في إدارة مستلزمات النفس الإنسانية.

في الاقتصاد التقليدي يميل نظام السوق الحر إلى تخصيص الموارد الإنتاجية لنمط الطلب الاستهلاكي على السلع والخدمات، إذ تعمل دخول الأفراد وإنفاقهم الاستهلاكي مقياساً لرغبات المستهلكين ومؤشراً لاتجاهاتها بالنسبة لأنواع السلع والخدمات وكمياتها المطلوبة، والفكرة القائلة بأن طلب المستهلك تحدده منفعة كل سلعة بالنسبة له تمثل نواة النظرية الاستهلاكية المحدثة.

واضح جداً أن السلع المقصودة في الفكر الكلاسيكي، هي السلع التقليدية كالخبز والملابس والأثاث وما إلى ذلك. أما في اقتصاد المعرفة فإن السلعة المقصودة هي (المعرفة) والصناعات الإبداعية التي هي إدراك حقائق الوجود والوحي من خال عمليات الإدراك والتفكر العقلي الذي يصوغ السلوك الإنساني الفردي، ويحدد قواعد الاجتماع البشري، ذلك أن السلوك البشري يرتبط بالبنية العقلية والمعرفية للإنسان ويصدر عن وعي بجملة العلاقات والظروف والاعتبارات الثقافية.

و المعرفة بوصفها حالة ذهنية تتعلق بميدان خاص من المعلومات المتفاعلة مع التكنولوجيا التي يزداد تأثيرها ازدياداً كبراً عند تقاسمها كما توضحها المعادلة الآتية:
K = (I+T).S
حيث K: المعرفة. I: المعلومات. T: التكنولوجيا. S: التقاسم.

في ضوء كل مفاهيم المعرفة السائدة حالياً والسابقة، فإنها تمتاز بخصائص متميزة: فهي سلعة إنتاجية لنشاطات مزدوجة، فهي من جهة تكون سلعة إنتاجية لنشاطات ذات مردود اجتماعي مرتفع جداً، وهي بالتالي تشكل آلية قوية للنمو الاقتصادي، ومن جهة أخرى، فإنها تطرح مشكلات من حيث تخصيص الموارد والتنسيق الاقتصادي ما تعيق نشر المعارف، ولتوضيح هذه الازدواجية ولابد من ذكر خصائص المعرفة بوصفها سلعة اقتصادية.

 1 – المعرفة سلعة يصعب التحكم بها، وتولد تأثيرات خارجة، فهي سلعة غير قابلة للحصر، أي أنه من الصعب جعلها حصرية والتحكم بها بطريقة خاصة، فالمعرفة والمعلومة تتسرب باستمرار من الكيانات التي أنتجتها، فتكون مفيدة لمستهلكين آخرين دون أن يتحملوا تكلفة الأبحاث والتنمية، فهي هنا بمثابة (الوفورات الخارجية)التي تفيد المجتمع دون أن يتحمل تكلفة إنتاجها.

2 – المعرفة سلعة غير تنافسية، غير قابلة للنفاد في الاستعمال، ولهذه الخاصية بعدان، الأول، بوسع العنصر الرجوع إليها مرات لا متناهية دون أي تكلفة، والثاني، أنه بإمكان عناصر لامتناهية من استخدام المعرفة ذاتها دون أن يحرم أحد منها، ولهذه الخاصية تأثير مهم في التكاليف والأسعار، كون الكلفة الهامشية/ الحدية، للاستخدام متقدمة، لا يستطيع الاقتصاد الالتزام بقواعد تحديد الأسعار على قاعدة التكاليف الهامشية بما أن استخدام المعرفة المتاحة يكون مجانياً، فيصبح التعويض المالي عن كون المعرفة مستخدمة مرات عدة ممكناً جداً.

3- إنها سلعة تراكمية من حيث إن كل معرفة قد تكون العامل الأساسي في إنتاج معارف جديدة، أي أن المعرفة ليست سلعة استهلاكية فقط، بل هي كذلك سلعة إنتاجية قادرة على توليد سلع جديدة تكون بحد ذاتها قابلة للاستخدام إلى ما لا نهاية.

4- لا تخضع لمسألة الندرة أو تدخل في إطار المشكلة الاقتصادية، لأنها متوفرة دائماً وبأشكال متعددة.
5 – لا تخضع لقانون تناقص المنفعة، لأن الزيادة في استهلاكها يؤدي إلى زيادة في المنفعة.
6- يتحدد مستواها حسب المستوى الاجتماعي والثقافي للفرد.. فهي عند العلماء تدخل في (الضروريات) وعند المستويات الاجتماعية المتعلمة تدخل في (الحاجيات)
وعند العامة هي من (الكماليات) التي ينظر إليها على أنها مصدر من مصادر المتعة الفكرية.. كما هو الحال في الألعاب الإلكترونية وغيرها.
8-  الطلب على المعرفة أحادي المرونة دائماً لأنه لا يتأثر بالسعر زيادة أو نقصاناً فعشاق المعرفة لا يهمهم ارتفاع ثمن كتاب مهم وضروري عند قارئه، أو يبذلون النقود من أجل إنجاز مشروع علمي مهم.. وهذا يبدو واضحاً في سياسات البحث والتطوير، والدول المتقدمة تؤكد هذه الرؤية، فالإنفاق على البحث العلمي يشكل أعلى النسب من الدخل القومي.

المبحث الثالث: المعرفة والسعادة

المعرفة بوابة الابتكار والسعادة.. إنها السلعة الضرورة التي بها نغيّ العالم، إنها القوة التي وهبها الله تعالى لآدم في أول قرارات التكوين الأولى للعالم.. وبها صار خليفة في الأرض.. وبها تصنع ثقافة الابتكار والإبداع، إن خلق الشروط الضرورية الكامنة في بناء مجتمع المعرفة يقود إلى تطوير عمليات الابتكار والإبداع في القطاعات الاقتصادية كافة، ذلك أن استهلاك المعرفة بوعي واهتمام يقود إلى بناء المواهب الشخصية وتزويدها بالمعارف الأمر الذي ينتج عنه تطور صناعي وزراعي وفني، وإن أهم الشروط الضرورية لتطور الابتكار والإبداع هي (الحرية) و (الرفاه الاقتصادي) وهذان أمران مرتبطان بجملة من المعطيات، النمو الاقتصادي وإشباع الحاجات وتوزيع للمداخيل وتشكيل لمستويات اجتماعية ومنافع ونفقات اجتماعية..

المعرفة ثورة يجتمع فيها الابتكار والإبداع والسعادة،، ذلك لأنها سلعة تعين على تجاوز صغائر الأمور.. وتشغل العقل الإنساني بقضايا الجمال والخير والسلام الحقيقي، سلام الروح وسلام المجتمع وسام العالم، إنها ابنة الحكمة التي تطالبنا دائما بالسؤال العظيم (ما العمل؟) ومن لم يشغله هذا السؤال.. لا يشعر قيمة المعرفة، ولا قيمة السعادة..

المعرفة شجاعة في مواجهة النفس والواقع.. وتشكل هذه الفضيلة التي حدد الله تعالى ملامحها في القرآن الكريم، بالصدق والتقوى والإخلاص، مميزات الإنسان الفعّال في تحقيق قيم الاستخلاف التي بها تكتمل سعادة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم.

شغل مفهوم (السعادة) الفكر الإنساني منذ اليونان وإلى يومنا هذا، ذلك لأن السعادة تعد أقصى غايات الفعل الإنساني في الوصول إلى الرضا.. تختلف (السعادة) عن (اللذة)، فاللذة هي جزئية ومتعددة حسب طبيعة الوسيلة التي تمارسها، إذ هناك لذة الأكل، ولذة الشرب، ولذة النكاح، وما إلى ذلك، لذلك تعددت اللذات، غير أن (السعادة) هي واحدة كلية، وهي حالة نفسية تستوعب كيان الإنسان كله.

إن السعادة لا ترتبط نشاطا جزئيا بعينه، بل تقترن في العادة بالتآزر الشامل لكل مظاهر النشاط الإنساني، إنها تجيء مصاحبة لحالة الانسجام الكلي الذي قد يتحقق بين الوظائف النفسية للفرد.

ارتبطت السعادة عند أرسطو بالأخلاق، إذ الأخلاق عنده علم عملي يبحث في أفعال الإنسان من حيث هو إنسان، ويهتم بتقرير ما ينبغي عمله وما ينبغي تركه، لتنظيم حياة البشر وتدبيرها على أحسن وجه، حينها تعرض أرسطو لمفهوم (السعادة)، إذ بدأ دراسته بقوله: إن كل فعل بشري لابد من أن يهدف إلى (خير) ما، لأن (الغاية) تطبع بطبيعتها حياة الموجود البشري بأكملها، لكننا لابد من أن ننتقل في سلسلة (الغايات) من (خير) إلى (خير) حتى تصل في خاتمة المطاف إلى (خير أقصى) يكون هو وحده الكفيل بإشباع إرادتنا وتوجيه حياتنا، وتحقيق سعادتنا، وقد سلّم أرسطو لسقراط وأفلاطون بأن (الخير الأقصى) هو السعادة.

غیر أن أرسطو يؤكد حقيقة أن أسمى فعل يمكن أن يحققه وحده الكائن البشري، لابد أن يكون هو ذلك الفعل الذي يختص به الإنسان وحده، وهذا الفعل المتميز هو (الفكر) فهو الفعل الأوحد الذي يتميز به الإنسان بوصفه كائناً ناطقا،ً وبهذا ارتبطت السعادة عنده بالفكر بوصفه إنجازاً عقلياً متميزاً.

وإذا انتقلنا إلى الفكر الإسامي نجد أن ابن الخطيب على سبيل المثال يقرر أن النفس إذا ابتعدت عن الشرور والظلم، وأصلحت أخلاقها وضبطت شهواتها تحققت لها السعادة، وهذا معناه مرضاة الله عز وجل الذي معها تتحقق السعادة، في حين يرى الفارابي أن السعادة هي نتاج الأفعال الجميلة وإلهيئات والملكات التي تصدر عن هذه الأفعال، وهذه الأفعال هي مضامين الفضيلة، والفكر عند الفارابي من أفعال العقل الجميلة. ويرى إخوان الصفا أن السعادة غاية الإنسان، وتتحقق ببلوغ درجات الكال العقلي الذي قوامه العلم والأخاق، ويرى ابن طفيل أن السعادة تكمن في التشبه بالله، من خلال أفعال الإنسان في العلم والحكمة والعدل وما إلى ذلك.

في حين يرى الغزالي أن السعادة تتمثل في (الخير الأعظم)، ويذكر أنواع الخيرات على النحو الآتي:
-1 خيرات النفس وهي أربعة: الحكمة والقوة والجمال والشجاعة.
-2 خيرات البدن وهي أربعة: الصحة والقوة والجمال وطول العمر.
-3 الخيرات الخارجية وهي أربعة: المال والأهل والعز وكرم العشيرة.
-4 الخيرات التوفيقية وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده.

والفضيلة عند الغزالي في مجاهدة النفس وردها إلى التوسط والاعتدال، والخير الأعى في الآخرة هو السعادة، والطريق إلى هذا الخير الأعى من خلال (العلم والعمل) والعمل شرط السعادة، لأن المراد به تحصيل الفضيلة، والعلم هو الشرط الثاني الذي يحقق كمال النفس بمعرفة الحقائق.
نلاحظ أن السعادة بالمنظور الإسامي هي معرفة الله، ومعرفة مخلوقاته كافة، ومعرفة الله تكون بالعقل والقرآن والنبوة، ومن بين حقائق القرآن والنبوة هي العلم والمعرفة والعقل، بهم نعرف حقائق الكون المسطور، والكون المنظور، بغية الارتقاء بالإنسان إلى مستوى (الخلافة﴾بغية إنجاز عمارة الأرض على أتم وجه.

وإذا أردنا تعميق وعينا بمفهوم السعادة بالمنظور القرآني.. فلابد من استيعاب مقوماتها في القرآن الكريم وهي:
-1 خشية الله عز وجل والخضوع له بحسن العبادة.
-2 اتباع الرسول ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران310 ].
-3 تحقيق معنى الأخوة ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10 ].
-4 التعاون ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ … ﴾ [المائدة: 2].
-5 المساواة ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…﴾ [الإسراء: 70 ].
-6 المسؤولية والإحساس بأهميتها ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38] -7 العدالة، وهي النابعة من أمر الله عز وجل وحكمه ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ…﴾ [النحل : 90 ]. فيكون لكل فرد حقه في الحياة حسب قدرته.
-8 الحرية ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256 ].
-9 احترام الإنسان ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32 ].
-10 العلم، في إدراك آيات الله في الخلق والأمر ﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4].
-11 التفكر، وهو لب العبادة العقلية﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…﴾ [آل عمران: 191].
-12 ذكر الله، وهي أكبر العبادات ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ…﴾ [العنكبوت: 45 ].
-13 التسامح ﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34 ].

وفي هذا يتضح جوهر (الاستخلاف) الذي أرشد الله تعالى به الإنسان في تكليفه بالخلافة، فهو المنهج الكفيل بحسن الأداء لهذا التكليف في ما أنزل إليه من وحي مبيّن لما ينبغي أن يفعل، وما ينبغي أن يترك، وكان هذا الوحي سلسلة متلاحقة، آخرها القرآن الكريم، وبمقتضى هذه الخاتمة أفسح للعقل مجال واسع في الإرشاد لتحقيق الخلافة، تبيّناً لما وسعه الوحي نصاً من تعاليم، وتصوراً لما يسعه فيما يتعلق بمستجدات الحياة على أساس من هديه العام، وتنزيلاً لكل ذلك في واقع الحياة.

ونظرا لما أصبح العقل بهذا المعنى من نوع اشراك مع الوحي في قيادة الحياة الإنسانية، فإنه فسح مجالاً في الفكر الإسامي للمناظرة بين العقل والوحي فيما لكل منهما دور في إنجاز الخلافة سواء على مستوى التأسيس، أم على مستوى الفهم والتنزيل، ووقع في هذا المجال ما هو متضارب في التأويل تغليباً للعقل تارة وتغليباً للوحي تارة أخرى، وتوفيقاً بينهما ثالثة.

إن قرار الله عز وجل بعد أن أكمل خلق العالم هو خلق الإنسان، العزيز على الله تعالى.. فكان احتفالاً ربانياً مهيبا تبينه الآيات الكريمات ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (۳۰) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (۳۱) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿۳۲﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ أَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (۳۳) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿۳۴﴾ [البقرة: ٣٠ – ٣٤].

لقد تضمن هذا الإعلان الإلهي المهيب الحقائق الآتية:

-1 ﴿ نِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ تفيد أن هذا الكائن بحكم (الجعل﴾ الإلهي، هو (خليفة) بمقتضى الخلقة والحياة والفكر.
-2 هذا الكائن هو الإنسان.
-3 إن الخلافة ليست عبودية فقط، إنما هي علم كذلك، وبهذا العلم فضل الله تعالى الإنسان على غيره من المخلوقات.
-4 علم (الأسماء كلها)، علمه أسماء الأشياء التي سيستخدمها في حياته وعمارة الأرض، با في ذلك خصائصها وعناصرها وكيفياتها وسائر صفاتها، لأن هذه العناصر والكيفيات والخصائص والصفات هي أيضاً أشياء تحمل أسماء.
-5 إن السجود لآدم إقرار واعتراف له بالخلافة في الأرض، إن هذا التكريم أحد أهم الحوافز لمواصلة (عمارة الأرض).
وفي ضوء هذا كله، فإن ممارسة النشاط الاستهلاكي للمعرفة يعد أحد أهم أفعال العقل في نهضة الأمة، وفي عمارة الأرض، وسيادة الأمن والسلام العالميين.

لقد رافقت المعرفة مراحل التاريخ وتحولاته في صناعة العصور.. بها طور الإنسان النار، وبها نقى الذهب، وبها طوّر الماء، وبالمعرفة جعل الله الإنسان خليفة في الأرض ليعمرها بالحب والعلم والسلام.
لقد كانت المعرفة أحد أهم أدوات بناء الحضارة الإنسانية، ومن خلالها انتصر الفلاسفة والأنبياء للإنسان، حين أكدوا إمكانية المعرفة طريقاً للتجاوز والارتقاء والسمو الأخلاقي.
وإن مشاغل المعرفة في الحضارة الإنسانية كانت منصبة على سعادة الإنسان بوصفها أرقى درجات الحكمة، أو بعبارة أخرى، كان جدل الحكمة/السعادة، غاية المعرفة وأسمى اهدافها، فالمعرفة كانت ينابيع تتفجر من قلوب صناعها إلى قلوب عشاقها، وكان عبقها يعطر أرواح من تمر في فضائهم.

لقد تميزت الحضارات الإنسانية بما صنعته نظريات المعرفة من مفاهيم عكست تصوراتها للوجود والإنسان والعالم، لأن في ظل غياب الوعي بنظرية المعرفة، تضطرب الرؤيا، ويصيب المفاهيم الغبش والارتباك، فيرتبك الوعي، وبالتالي يرتبك الفعل، لأن المعرفة الدقيقة القائمة على ضبط مصادرها وأنواعها وأهدافها ومناهجها تقود إلى فعل معرفي منضبط مبدع خلاق.
واليوم في ظل زيادة الاهتمام باقتصاد المعرفة تثار أسئلة أمام العقل العربي خاصة والإسلامي عامة، تحدد إجاباته عليها موقعه في العصر الحديث، ماذا نعرف؟ كيف نعرف؟ لماذا نعرف؟

إن معطيات الفكر العربي الإسلامي بعامة، والاقتصادي فيه بخاصة، لا تمتلك إجابات واضحة ودقيقة على هذه التساؤلات، الذي يمتلكه استعارات معرفية من زمن غير زماننا، ومن مكان غير مكاننا، سواء في ذلك الإساميون والقوميون والليبراليون والماركسيون. لم يتمكن هؤلاء من توظيف هذا التنوع المعرفي في وحدة حضارية تتبلور حول هدف مركزي واحد، (النهضة الحضارية).. لم يتمكنوا من الحوار الخلاق في فضاء حضاري يضع أسس نهضة اقتصادية ترتقي بالأمة إلى مستوى المنافسة والعطاء أكثر، لاسيما وأن الاقتصاد هو أكثر الميادين حيوية وأناقة في جمع المصالح والربح والكفاءة والعدالة والإنصاف، وهي مبتغى الجميع.

ربما نمتلك آراءً صحيحة عن اقتصاد المعرفة بحكم الاستعارة من الغير، لكننا لا نمتلك معرفة صحيحة عن اقتصاد المعرفة منضبطة بمفاهيم ومناهج تنظم مسرتها، وإذا امتلكنا هذه، فإننا لا نمتلك القدرة على تحويل النظرية إلى فعل، أي لا نملك القدرة على تحويل الاقتصاد التقليدي إلى اقتصاد معرفة، لأننا نفتقر إلى الروط الموضوعية فضلا عن الكثير من الذآتية للانتقال إلى اقتصاد المعرفة، الأمر الذي يستوجب وعي قواعد التحول إلى اقتصاد المعرفة الذي يعد الخطوة الضرورية لعملية التحول،

ويمكن الإشارة إلى أهم قواعد التحول إلى اقتصاد المعرفة على النحو الآتي:

1 – القواعد المعرفية:

أ- بناء نظرية معرفة تستوعب الواقع العربي الإسلامي وتنظم نسقه الحضاري.
ب- تطوير المؤسسات التي تحول المعرفة إلى فعل.
ت- تطوير المؤسسات القانونية التي تحمي الفعل المعرفي وتحمي الحق وتحمي الحضارة.
ث- توفير فرص استيعاب نظم إنتاج المعرفة في جامعات العالم المتقدمة، من خلال عقد الاتفاقيات الإستراتيجية معها.

-2 القواعد العلمية:

أ- تطوير نظرية علمية تفسر مكونات العلم وشروط إنتاجه في ضوء الوحي.
ب- تنظيم التفاعل العلمي مع مؤسسات العلم العالمية.
ت- إعادة صياغة علاقة جامعاتنا مع الجامعات العالمية الرصينة عن طريق فتح بوابات الاستثمار العلمي في مؤسساتنا العلمية.
ث- توفير فرص استيعاب أنظمة إنتاج العلم.
ج- إعادة تنظيم العلاقة مع الكفاءات العلمية في الخارج با يعزز دعمها للتحول الحضاري بعامة، والاقتصادي بخاصة.

3 – القواعد السياسية:

أ- إعادة رسم السياسة العامة للدولة بعامة، والسياسة الاقتصادية بخاصة، بما يعزز دورها بوصفها قوة اجتماعية قادرة على توفير الشروط اللازمة لنهضة اقتصاد المعرفة. والمهمة الأساسية الجديدة للدولة هي (صناعة الحرية) والابتعاد عن التدخل في الشأن العلمي خاصة والاقتصادي بعامة.

ب- اعتماد مبدأ (دولة المعرفة) وهي الدولة التي تبني مؤسسات المعرفة وتدفع المواطنين باتجاه الإبداع والتغيير، من خلال السياسة التربوية التي تبنى على مبدأ الإبداع والتغيير. ومن الأمور المهمة جداً في هذا المضمار، تدريس مادة الإبداع في المراحل الدراسية كافة، وسن قوانين حماية الحرية والإبداع بمستوياته كافة، دولة تعلم الأجيال كيف تفكر، وكيف تصنع الفكر.

ج- خلق فضاء قانوني يعمل على جمع المؤسسات العلمية والتربوية والقانونية والاجتماعية على مبدأ التعاون من أجل الابتكار والإبداع. من خلال الآتي:
– دعم الأبحاث التي تخطط للتنمية الحضارية.
– دعم براءات الاختراع ماليا وقانونيا.
– دعم المنشورات العلمية وإيصالها إلى أبعد مركز في البلاد.
– دعم الجهود التقنية بالقانون والأموال.
– توفير مؤسسات شبكة المعلومات عن فعاليات البلد ومكوناته الاقتصادية والثقافية والعلمية والسكانية.

4 – لقواعد الاقتصادية:

أ- بناء سياسات إنفاق تضع في الاعتبار أولوية دعم السياسة التربوية والعلمية الهادفة إلى صناعة المعرفة، وخلق القدرة على الفعل المعرفي الكفوء.
ب- تحقيق تراكم رأسمالي يستثمر في حقول المعرفة والتكنولوجيا في المراحل الدراسية كافة، وفي المؤسسات العلمية المستقلة.
ت- تطوير القطاع الخاص لإمكاناته الذآتية باعتماد سياسة علمية معرفية أساساً لفعله، والعمل على تطوير مهارات العاملين فيه على وفق أرقى ما يقدمه التطور العلمي والتقني والمعرفي.

ث- تطوير سياسة مالية تعتمد المعرفة منطلقاً عن طريق إدخال مفردات المالية والاقتصاد المالي في الدراسة الإعدادية والجامعية بفروعها كافة.
إن الوطن العربي في ضوء الإحصاءات التي ترسم ملامحه الحضارية، يقف في آخر الدنيا، لا يملك إلا استنساخ التجارب الحضارية باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة التي تجاوزت حدود التخلف الحضاري إلى الإسهام الفعال في إدارة اقتصاد المعرفة خاصة والاقتصاد الإسلامي عامة. فالاستنساخ يفقد رونقه وأثره بعد حين.

إن الهوّات كبيرة في وطننا العربي وكثيرة: هوّة في استعمال العقل في إدارة شؤون الحياة. وهوة في استعمال الدين في إدارة شؤون الدنيا والآخرة. وهوّة في استعمال الجامعة في بناء الحضارة، وهوّة في استعمال المدرسة في بناء الجامعة. وهوّة في استعمال القانون في بناء الحضارة. وهوّة في استعمال الحق في بناء القانون. وهوّة في استعمال الحرية في بناء المجتمع. وهوّة في استعمال المجتمع في بناء الإنسان. وهوّة في بناء الإنسان ليكون خليفة في الأرض.

لذلك فإن التحول من الاعتماد على الموارد إلى الاعتماد على المعرفة بوصفها سلعة، تدرس في إطار نظرية استهلاك إسامية معاصرة، وتحت مظلة اقتصاد المعرفة، يساعد في ردم هذه الهوّات وغيرها كثير، حتى تكون تجربتنا في اقتصاد المعرفة وصناعته، تجربة ذآتية مبدعة وخلاقة، تسهم في إضاءة فضاءات المعرفة في العالم. با تحققه من قيامها بالاستخلاف الحق في إدارة شؤون الحياة.

قائمة المصادر

القرآن الكريم.
-1 أحمد السيد النجار وأخرون، دولة الرفاهية الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 2، 2006 .
-2 أحمد صبور (د). ، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، الأكاديميون العرب والسلطة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط 2، 2001 .
-3 أسامة أمين الخوالي وآخرون، تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع مؤسسة عبد الحميد شومان، مركز دراسات العربية ومؤسسة عبد الحميد شومان، بيروت، لبنان، ط 2، 2001 .
-4 جون هارتلي (محرر) ،الصناعات الإبداعية، ترجمة بدر السيد سليمان الرفاعي،سلسلة عالم المعرفة ( 339 ) ، الكويت، 2007 .
-5 راجح عبد الحميد الكردي(د. )، نظرية المعرفة نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، المعهد العالمي للفكر الإسامي، مكتبة المؤيد، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1412 ه/ 1992 م.
-6 زكريا إبراهيم (د. )، المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، القاهرة، ط 3، 1980 م.
-7 عبد الحسن الحسيني، التنمية البشرية وبناء مجتمع المعرفة، قراءة في تجارب الدول العربية وإسرائيل والصين وماليزيا، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، لبنان، ط 1، 1429 ه/ 2008 م.
-8 عبد الحميد النجار (د. )، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، بحث في جدلية النص والعقل والواقع، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2، 1413 ه/ 1993 م.
-9 عبد المنعم السيد عي(د. )، مبادئ الاقتصاد الجزئي، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الجامعة المستنصرية، بغداد، العراق، (د.ط ت).
-10 فاروق الدسوقي (د. )، استخلاف الإنسان في الأرض، المكتب الإسلامي، بيروت، مكتبة فرقد الخاني، الرياض، ط 1، 1406 ه/ 1986 م.
-11 فتحي حسن ملكاوي، نحو نظام معرفي إسامي، حلقة دراسة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، الأردن، 1420 ه/ 2000 م.
-12 فرانشيسكو خافير كاريللو (محرر)، مدن المعرفة، المداخل والخبرات والرؤى، ترجمة د. خالد علي يوسف، سلسلة عالم المعرفة ( 381 )، 2011 .
-13 الكسندر روشكا، الإبداع العام والخاص، ترجمة د. غسان عبد الحي أبو فخر، سلسلة عالم المعرفة ( 144)، الكويت، 1410 ه/ 1989 م.
-14 مرال توتليان (د. )، مؤشرات اقتصاد المعرفة وموقع المرأة من تطورها، المعهد العربي للتدريب والبحوث الإنسانية، (د. ط)، 2006 .
-15 منذر القحف (د. )، الاقتصاد الإسامي، دراسة تحليلية للفعالية الاقتصادية في مجتمع يتبنى النظام الاقتصادي الإسامي، دار القلم، الكويت، ط 2، 1401 ه/ 1981 م.
-16 نبيل عي )د.(، العقل العربي ومجتمع المعرفة، مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول، سلسلة عالم المعرفة ) 370 (، الكويت، 2009 .
-17 ياسر العمادي، إدارة المعرفة وتكنولوجيا المعلومات، دار السحاب للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 1، 2009 .
-18 يوسف كرم )د.(، تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط 5، 1389 ه/ 1970 م.

 

أستاذ الاقتصاد الإسلامي المساعد – جامعة الموصل – كلية الإدارة والاقتصاد

المصدر: قدم البحث في أعمال الدورة الرابعة لمنتدى فقه الاقتصاد الإسلامي، التي تنظمها دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، بالتعاون مع مركز دبي لتطوير الاقتصاد الإسلامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky