الاجتهاد: ذهبت ذات مساء إلى مسجد الهندي وهو مسجد يقع في سوق القبلة في النجف ومن أشهر مساجدها، كان يقيم صلاة الجماعة فيه المرحوم آية الله السيد أبو الحسن الاصفهاني مرجع التقليد العام في عصره،
ثم فوض لآية الله الشيخ موسى الخوانساري أمر إقامة الصلاة فيه تلك الأيام كما كان يلقي دروسه فيه أيضاً؛ وكان عدد آخر من كبار الفقهاء والعلماء يلقون دروسهم فيه أيضاً، فكان المرحوم آية الله الحكيم يلقي فيه دروسه الفقهية على مستوى بحث الخارج.
في تلك الليلة كان آية الله المرحوم الشيخ محمد الكاظميني يلقي درسه المعتاد في أصول الفقه على مستوى بحث الخارج، فجلست في زاوية من المسجد أستمع لدرسه الذي كان يلقيه بصوت جهوري، وأثناء ذلك رأيت سيداً من أهل العلم تبدو عليه سيماء الجلالة وقد دخل المسجد ووقف خلف أحد الأعمدة – وكان عريضاً ، ثم فرش سجادة صلاة بيضاء صغيرة من جيبه وأخذ يصلي، وقد لاحظت من محل جلوسي ملامحه – بمعونة مصابيح المسجد الضعيفة – فرأيته طويل القامة ذات طلعة وسيمة ولحية متوسطة الطول سوداء وعمامة متوسطة الحجم أصغر من عمائم بعض علماء النجف وأكبر من عمائم فضلاء حوزة قم التي رأيتها فيما بعد، فكانت عمامته بحجم مناسب.
كنتُ أنظر تارة إلى صلاة هذا العالم الجليل الوقور وأمعن النظر إلى هييئه، وتارة أخرى أنظر نظرة سريعة إلى آية الله الكاظميني وقامته الضخمة وبدنه الجسيم ولحيته الكئة البيضاء كبياض الثلج وقد أحاطت بوجهه الأحمر، وكان صوته الجهوري بتردد في أرجاء المسجد وهو عادة يلقي درسه باللغة الفارسية الممزوجة بالعبارات العربية كما هي عادة بعض مدرسي السطوح العالية فيمزج كلامه الفارسي بعبارات عربية من قبيل: وهو ما أردناه، فالمستفاد مما ذكرنا… وكان الطلبة يحيطون به على شكل حلقة وقد جذبهم ببيانه وجعلهم يلتزمون الصمت الكامل، فإذا ارتفع صوت أحدهم وهو يعرض إشكالاً على ما يقول أجبره على السكوت فوراً بجواب متين ومقنع .
في غضون ذلك أتم ذلك السيد الجليل صلاته – وكانت ركعتين فهي إذ صلا تحية المسجد بدون شك – ثم انحنى ـ وهو جالس وبيده مسبحة يردد الأذكار بعد الصلاة – وأخذ بالإصغاء لما يقول هذا المدرس الجليل من مشاهير أساتذة حوزة النجف؛ وبعد لحظات من الإصغاء أحاط بالموضوع الذي يتحدث عنه الأستاذ فأثار – وهو جالس في مكانه وعلى حالته تلك ـ إشكالاً دقيقاً استحوذ على اهتمام آية الله الكاظميني الذي التفت إلى الجانب الأيمن لكي يرى من هو الذي يطرح هذا الإشكال من مكان بعيد عن حلقة الدرس فعرفه بعد أن شاهد قسماً من بدنه فأجاب على الإشكال لكن هذا السيد العالم لم يقنع، وأشكل على الجواب، فأجاب آية الله الكاظميني بصوت أقوى واستمر النقاش حدود خمس دقائق بين الطرفين كل من مكانه دون أن يقنع السائل، أو يتردد المجيب في الجواب،
كان المشهد طريفاً للغاية والطلبة الحاضرون _ وكنت أعرف معظمهم وهم من العلماء والفضلاء المعروفين في حوزة النجف – يتابعون هذا النقاش وينظرون تارة إلى الظاهر من بدن العالم المستشكل من خلف عامود المسجد، وتارة إلى الأستاذ المجيب الذي قال بالتالي : أيها السيد لا يمكن متابعة النقاش على هذه الحالة! إذا كنت مصراً على إشكالك فاقترب منا لمتابعة النقاش بحالة أفضل فأجاب هذا العالم الجليل بلهجة خاصة تعبر عن شدة احترامه للأستاذ: “تفضلوا بالجواب من مكانكم إنني أسمع قولكم وأعرض ما عندي”.
أثار هذا الموقف تعجب الحاضرين وعلت همهمة في المسجد، ثم انتهى النقاش وجمع العالم سجادته الصغيرة وخرج قبل انتهاء الدرس بحالة خاصة من الوقار وهو مطرق إلى الأرض.
وقد انتهى درس آية الله الكاظميني بعد (٤٥) دقيقة، فقمت من مكاني مع قيام الطلبة واقتربت منهم، فوجدتهم جميعاً يتحدثون عن مشهد ذلك النقاش الذي احتدم بين أستاذهم وبين ذلك السيد العالم الجليل، وبعضهم كان يبتسم ضاحكاً من طريقة وشكل هذا النقاش، وبعضهم الآخر لم يكونوا مرتاحين للأمر، وبعضهم الثالث سيطر عليهم التعجب من إصرار السيد على الإشكال الذي طرحه ..
ثم سألت أحد الحاضرين كان يعرفني: من هو هذا السيد؟ فقال: ماذا تفعل أنت هنا؟ أولم تعرفه؟! إنه سماحة الآغا الحاج روح الله الخميني (1)
(1) حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي الدواني، كتاب ( الإمام الخميني في مرأة الذكريات). ص : ٤٤
المصدر: كتاب قبسات من سيرة الإمام الخميني في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية ، إعداد: غلام علي رجائي.
نبذة عن الكتاب
يختص هذا الجزء من هذه الموسوعة كتاب (الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية) بعرض لطائفة من الذكريات التي تبين جوانب من سيرة الإمام في الوسط الحوزوي في اثنتين من أهم الحوزات العلمية الشيعية هما حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة.
ولا يخفى أن لهذه الحوزات دوراً مهماً ومحورياً في حفظ الإسلام والدفاع عنه وترويجه وتعريف الناس بأحكام مدرسة أهل البيت في الحوادث الواقعة المستجدة وفي شؤونهم الحياتية المختلفة وخدمتهم وقيادتهم على الصراط المستقيم, فهي التي تخرج الفقهاء الذين هم حصون الإسلام, والعلماء الربانيين الذين يبلغون رسالات ربهم ويخشونه ولا يخشون سواه, وطلبة العلم المجاهدين المرتوين من فقه الكتاب والسنة المحمدية النقية التي حفظها أئمة العترة النبوية الطاهرة- صلوات الله عليهم أجمعين
هوية الكتاب:
اسم الكتاب: الإمام في ميدان التعليم الحوزوي والمرجعية
النشر: الدار الإسلامية بيروت – لبنان
إعداد: علي الرجائي
عدد الصفحات: 162 صفحة