الاجتهاد: وفي حزيران عام 1963 م اطلَّ شهر محرم الحرام. فبادر الإمام الخميني للاستثمار هذه الفرصة في تحريك الجماهير ودفعها لمواجهة النظام الملكي المستبد. وفي (عاشوراء) انطلق مئات الآلاف من المتظاهرين في طهران وهم يحملون صور الإمام، وتجمعوا امام قصر المرمر (محل إقامة الملك) ورددوا ـ لاول مرة في العاصمة ـ شعار الموت للديكتاتور.
ثم تلتها مظاهرات اخرى في الايام اللاحقة، تجمع فيها المتظاهرون في الجامعة والسوق المركزي (البازار) وفي مقابل السفارة البريطانية معلنين عن دعمهم لنهضة الإمام.
وفي عصر يوم عاشوراء لعام 1383 هـ. (3 حزيران 1963 م) القى الإمام في المدرسة الفيضية خطابه التاريخي، والذي كان البداية لقيام الخامس من حزيران.
وقد خصص سماحته القسم الاعظم من خطابه لاستعراض المصائب التي الحقتها العائلة البهلوية بالبلاد، وفصح العلاقات السريّة بين الملك واسرائيل. وفي هذا الخطاب اطلق الإمام صرخته مخاطباً الملك بالقول: ايها السيد! اني انصحك! يا جناب الملك ! يا حضرة الملك! اني انصحك، بأن تكف عن ممارساتك هذه! انهم يستغفلونك.
ولست ارغب ان يبادر الجميع للتعبير عن شكرهم لله في اليوم الذي تُنحى عن السلطة.. فإذا كانوا يلقنونك ما تقول، فاني ادعوك ان تفكر قليلاً، واستمع لنصيحتي.. فما هي العلاقة بين الملك واسرائيل حتى تطالبنا مديرية الا من بعدم التعرض لاسرائيل.. فهل الملك اسرائيلي؟
وقع خطاب الإمام كالمطرقة على روح الملك الذي كان ما اصيب به من جنون القدرة والتكبر الفرعوني علي لسان الخاصة والعامة. لذا اصدر اوامره بكم صوت الثورة هذا، فبادرت قوات امنه اولاً لا عتقال جمع من انصار الإمام في ليلة الرابع من حزيران، وفي فجر يوم الخامس من حزيران داهم المئات من رجال الكومندوالذين تمَّ ارسالهم من طهران، منزل الإمام الخميني لاعتقاله، في وقت كان الإمام يؤدي نافلة الليل، ونقل على الفور الى طهران ليودع في معتقل (نادي الضباط) ثم نقل في غروب ذلك اليوم الى (سجن قصر).
انتشر خبر اعتقال الإمام الخميني بسرعة في مدينة قم وضواحيها، فانطلق الرجال والنساء نحومنزل قائدهم وهم يرددون شعار الموت أو الخميني الذي ملأ ارجاء المدينة.
وقد بلغ الغضب الشعبي حدّاً دفع رجال الشرطة في البداية الي الفرار، الا انهم عادوا لمواجهة الجماهير بعد ان تسلحوا بمختلف التجهيزات العسكرية، وبعد أن تم ارسال قوات دعم من المعسكرات المحيطة بالمدينة.
وبينما كانت جموع الجماهير تغادر حرم حضرة المعصومة عليهِماالسَّلاٰم فتحت قوات النظام التي استقرت خارج الحرم المطهر نيران اسلحتها الاوتوماتيكية، ولم تمض عدة ساعات على المواجهة بين الجماهير وقوات النظام، حتي دار حمام الدم في المدينة، ولم يكتف النظام بذلك، فقد ارسلت عدة طائرات مقاتلة للتحليق في سماء المدينة واختراق حاجز الصوت لادخال الرعب والهلع في قلوب الجماهير.
تمَّ مواجهة الانتفاضة بالسلاح والنار للسيطرة على الاوضاع. بعدها بادرت العجلات العسكرية لجمع اجساد الشهداء والجرحى من الشوارع والازقة لنقلهم بسرعة الى اماكن غير معلومة. وفي غروب ذلك اليوم كانت مدينة قم تعيش حالة النكبة والحزن.
في صباح يوم الخامس من حزيران كان خبر اعتقال الإمام قد وصل الى طهران؛ مشهد؛ شيراز وسائر المدن مما فجر اوضاعاً مشابهة في تلك المدن. انطلقت مجاميع الناس من اهالي (ورامين) والمناطق المحيطة بطهران نحوالعاصمة.
ولما كانت دبابات النظام وآلياته وقواته المسلحة قد احاطت بالعاصمة للحيلولة دون وصول المعارضين اليها، فقد اشتبكت قوات النظام مع تلك المجاميع في تقاطع (ورامين) مما ادى الى سقوط العديد من القتلى والجرحى من الاهالي.
كذلك اقيم تجمع جماهيري حاشد في السوق المركزي بطهران وفي مركز المدينة، راح يردد شعار الموت أو الخميني وهو في طريقه الي قصر الملك.
كما انطلقت سيول الجماهير من جنوب مدينة طهران متوجهة نحومركز العاصمة يتقدمهم طيب الحاج رضائي والحاج اسماعيل رضائي ـ وهما اثنان من فنوات منطقة جنوب طهران – وقد اعتقل هذين الاخوين فيما بعد، وفي 2 تشرين الثاني 1963 م تم اعدامها ونفي انصارهما الى مدينة بندر عباس.
لقد كشف النديم الدائم للملك (الفريق الركن حسين فردوست) في مذكراته، النقاب عن استخدام افضل الخبرات الامنية والسياسية الأمير كية آنذاك للقضاء على الانتفاضة، وكذلك عن الهلع الذي اصاب الملك والبلاط وقادة الجيش والسافاك في تلك الساعات، وكيف اتخذ الملك وخبراته قرار سحق الانتفاضة.
يقول فردوست: قلت لأويسي (قائد فرقة الحرس الخاص): بأنَّ السبيل الوحيد هو ان تقوم بتسليح جميع الطباخين والخدام وعمال التنظيف والحراس وغيرهم الموجودين في فرقتك … .
كتب اسد الله علم رئيس الوزراء في مذكراته يصف ما خاطب به الملك ذلك اليوم قائلاً: لوكنا تراجعنا لكانت الفوضى عمت ايران بأسرها ولتعرض نظامنا للسقوط المهين. وآنذاك كنت قد ذكرت لكم ـ الملك ـ بأننا يجب ان نصّر على مواجهة هذا الموقف حتى وإن تطلّب الامر تنحيتي عن موقع المسؤولية والاعلان عن استنكاركم لما فعلت، ثم الحكم عليّ بالاعدام والقاء تبعة ذلك علي عاتقي من اجل انقاذكم .
على أيّ حال، اُعلنت الاحكام العرفية في الخامس من حزيران في كلٍّ من طهران وقم، وعلى الرغم من ذلك فإن تظاهرات واسعة انطلقت في الايام اللاحقة وكانت تنتهي كل مرة بالمواجهة الدامية.
كان الخامس من حزيران 1963 م يوم انطلاقة الثورة الاسلامية للشعب الايراني.
بعد تسعة عشر يوماً من الاعتقال في سجن قصر، تمّ قل الإمام الخميني الى معتقله الجديد في معسكر (عِشْرَتْ آباد).
بعد يومين من انتفاضة الخامس من حزيران، وصف الملك ذلك القيام الشعبي بأنه فوضى وعمل وحشي نجم عن اتحاد الرجعية السوداء والحمراء، وسعى لربط ما حدث بالخارج ونسبة الي اشخاص امثال جمال عبد الناصر .
ولم يخف على احد حينها تهافت الادعاءات التي اطلقها الملك. وعلى العكس تماماً من ادعاءات الملك تلك، فإن حزب تودة وسائر الشيوعيين الايرانيين اصرّوا في كتاباتهم ومواقفهم المعلنة على اعادة وتكرار وجهة نظر موسكوحول أحداث الخامس من حزيران والتي كانت تصرح بها من خلال الاذاعة والصحف الصادرة في الاتحاد السوفيتي والمتمثلة في اعتبار تلك الانتفاضة حركة رجعية عمياء للوقوف بوجه الاصلاحات التقدمية التي كان الملك يرغب في تنفيذها .
كذلك فإن احداً لم يصدق الادعاء الكاذب للملك، والذي اراد من خلاله توجيه الاتهام الى جمال عبدالناصر رغم كل محاولات السافاك ودسائسه في هذا السبيل. فالاستقلال التام لانتفاضة الخامس من حزيران، كان بدرجة من الوضوح لم تتمكن معه امثال هذه الترهات الواهية من الطعن فيه.
وباعتقال قائد النهضة وممارسة القتل الوحشي بحق الجماهير في الخامس من حزيران عام 1963 م، تكون النهضة قد اجهضت في الظاهر.
وفي محبسه امتنع الإمام الخميني عن الردِّ على اسئلة المحققين، معلناً بوضوح وشجاعة بأنَّ الهيئة الحاكمة في ايران والسلطة القضائية تفتقد باجمعها الى الشرعية القانونية والصلاحية الرسمية، وفي زنزانته الانفرادية في معسكر عشرت آباد لم يفرط الإمام الخميني بالفرصة التي سنحت له فراح يكثر من مطالعة كتب التاريخ المعاصر؛ منها: تاريخ الحركة الدستورية في ايران. وبعض مؤلفات (جواهر لال نهرو).
بعد اعتقال سماحته انطلقت الاصوات المعارضة الواسعة من قبل علماء الدين ومختلف طبقات الشعب ومن شتى انحاء البلاد مطالبة باطلاق سراح قائدها. فقام جمع من العلماء الاعلام بالسفر الى طهران للاعلان عن معارضتهم لاعتقال الإمام.
وكان الخوف من اقدام النظام على تصفية الإمام يثير القلق بين الجماهير ويدفعها لاظهار ردّ فعل قوي. وقد تعرض بعض العلماء الذين تجمعوا في طهران لهجوم ازلام السافاك، وتمَّ اعتقالهم وايداعهم السجن لمدة من الزمن.
وعندما رأي الشاه بأنَّ انتفاضة الخامس من حزيران وجهت ضربة للاستقرار والضمانات التي اعطاها لأميركا، حاول ان يقلل من أهمية تلك الانتفاضة ويُظهر بأنَّ الاوضاع عادية وخاضعة لسيطرته.
من جانب آخر كان الغضب الجماهيري نتيجة استمرار اعتقال الإمام في تنامٍ مطرد. لذا اضطر النظام في الثاني من آب 1963 م الى نقل الإمام من معتقله ليوضع تحت الاقامة الجبرية في منزل تحاصره قوات الامن في منطقة (الداوديّة) بطهران. وبمجرد اطلاع اهالي طهران على انتقال القائد، اخذوا يتوافدون علي منطقة الداوديّة. ولم تمرَّ عدّة ساعات علي تجمع الاهالي حتى اضطر النظام الى تفريق الجموع ومحاصرة المنزل بشكل علني بواسطة رجال الشرطة.
في مساء الثاني من آب نشرت صحف النظام خبراً مختلقاً مفتعلاً يشير الي التوصل الي اتفاق بين مراجع التقليد والمسؤولين في الحكومة، ولم يكن بمقدور الإمام الخميني الاطلاع على الخبر أو تكذيبه، غير ان العلماء الاعلام كذبوا من خلال بياناتٍ اصدروها آنئذٍ وقوع مثل هذا الاتفاق أو التفاهم.
وقد تميز البيان الذي اصدره آية الله المرعشي النجفي رَحمَهاللهُ بحدّة اللهجة والتأكيد على فضح اساليب النظام، فكان من البيانات البالغة التأثير.
بعد هذه الاحداث تم نقل الإمام مخفوراً الى منزل في محلة (قيطريّة) بطهران وبقي تحت الاقامة الجبرية هناك الى يوم اطلاق سراحه 7 نيسان 1964 م.
وفي الثلث الاول من عام 1964 تصور النظام بأنَّ القسوة والحزم اللذين واجه بهما الجماهير في حادثة الخامس من حزيران، قد أديا الى تنبيه الجماهير ودفعا المجاهدين الى اختيار جانب السكوت، لذا حاول الايحاء بأن وقائع العام الماضي قد تمّ نسيانها.
وفي مساء السابع من نيسان 1964 م تمَّ ـ ومن دون اعلان مسبق ـ اطلاق سراح الإمام الخميني ونقله الى قم. وبمحض اطلاع الجماهير علي الامر عمت مظاهر الفرح مدينة قم بأسرها، وأُقيمت الاحتفالات البهيجة في المدرسة الفيضية وسائر الاماكن، ودامت عدة أيام.
ولم تمر سوى ثلاثة أيام على اطلاق سراح الإمام الخميني حتى بادر سماحته الى ابطال كل التصورات والدعايات التي روّج لها النظام، وذلك من خلال خطابه الثوري الذي القاه بعد اطلاق سراحه مباشرة؛ إذ جاء فيه: لا معنى للاحتفال اليوم. مادام الشعب علي قيد الحياة، فانه لن ينسي مصيبة الخامس من حزيران .
وتناول قائد الثورة في خطابه ابعاد انتفاضة 15 خرداد بالتفصيل. وفي رده علي ما نشرته الصحف الاجيرة من اكاذيب قال سماحته: كتبوا في افتتاحية احدى الصحف ان تفاهماً قد حصل مع علماء الدين، وان علماءالدين يؤيدون ثورة الملك والشعب البيضاء. أيّ ثورة هذه؟ وأيّ شعب ؟ … ان الخميني لن يساومهم حتى وان اعدموه … ولا يمكن تنفيذ الاصلاحات تحت اسنّة الحراب .
ولما كان السافاك قد اقدم على مؤامرة بث الفرقة وايجاد شرخ في صفوف المجاهدين في الحوزة العلمية ـ وذلك من خلال ايجاد الخلافات بين العلماء والمراجع ـ فقد تعرض الإمام الخميني في خطابه الذي القاه في المسجد الاعظم بقم بتاريخ 15 نيسان 1964 م الى هذه المسألة هادفاً إحباط تلك المؤامرة قائلاً:
اذا وجه أحدهم إهانةً لي، أو لطمني على وجهي، أو صفع اولادي، اقسم بالله تعالى بأني لا ارضى ان يهبّ احدُ لمواجهته والدفاع عني، لست ارضى، انني اعلم بأن بعضهم يهدفون ـ اما عمداً أو جهلاً ـ الى بث الفرقة في هذا المجتمع.. انني ومن موقعي هذا أُقبِّل ايادي جميع المراجع، من كان منهم هنا أو في النجف أو في سائر البلاد، في مشهد وطهران، واينما كانوا. اني أُقبِّل ايادي جميع علماء الاسلام. ان هدفنا اسمى من هذه الامور، اني امدُّ يد الاخوة الى جميع الشعوب الاسلامية، والى جميع المسلمين في مشارق الارض ومغاربها .
وفي هذا الخطاب كشف الإمام ايضاً النقاب عن العلاقات السريّة بين الملك واسرائيل وأطلق صرخته: أيتها الجماهير! أيّها العالم! اعلموا بأنَّ شعبنا يخالف أيّ اتفاق مع اسرائيل، إن من يقوم بذلك هو ليس شعبنا، ليس علماءنا، فإن ديننا يمنعنا من ابرام أيّ اتفاق مع اعداء الاسلام .
وفي هذا الخطاب ايضاً عبّر سماحته عن الملك بكلمة التافه فقال موجهاً الخطاب اليه بالقول: لا يلتبس عليكم الامر. فحتى لوداهنكم الخميني، فإنَّ الامة الاسلامية لن تداهنكم. لا تتوهموا فاننا مازلنا في الخندق نفسه الذي كنا فيه، نعارض كل اللوائح المخالفة للاسلام، ونقف في وجه تجبركم … ان شعبنا المجيد مستاءٌ غاية الاستياء من اسرائيل وعملائها ومن الحكومات التي تصالح اسرائيل .
وفي الذكرى السنوية الاولى لانتفاضة الخامس من حزيران، اصدر الإمام وسائر المراجع بياناً مشتركاً، كما صدرت بيانات مستقلة عن الحوزات العلمية تم فيها تجليل ذكرى الانتفاضة واعلن يوم ذكراها يوم حداد عام .
وفي شهر تموز عام 1964 م تمّت محاكمة المجاهد الكبير آية الله الطالقاني والمهندس مهدي بازركان ـ احد قادة حركة تحرير ايران ـ والذين أعلنوا عن دعمهم لانتفاضة الخامس من حزيران في محكمة عسكرية وحكم عليهم بالسجن لمدد طويلة. فاصدر الإمام الخميني بياناً حذّر فيه الجماهير قائلاً: ان على المواطنين ان يتوقعوا أياماً صعبة . كما اقترح سماحته ان يعقد علماء الدين جلسات اسبوعية منتظمة لمتابعة اهداف النهضة وتوجيه الحركة الشعبية.
□ مواجهة لائحة الحصانة القضائية
وفي جانب آخر، كان الملك ـ وتحت الضغط الأميركي – مصمماً على تنفيذ الاصلاحات التي اُعدت في البيت الابيض، متصوراً ان المذابح والمعتقلات والمحاكمات، قد ادت الى ازاحة ثقل قوات المقاومة من طريقه.
ولما كان ينظر من الاصلاحات ان تقود الى تحقيق الهيمنة الأميركية علي البلاد وتمكينها من جلب خبرائها للتواجد بصورة مباشرة في سائر المجالات الاقتصادية والعسكرية وفي مختلف المواقع الحساسة في النظام الشاهنشاهي ، لذا فمن الخطوات الاولى التي كان ينبغي تنفيذها هي ازالة الموانع الحقوقية والقانونية امام وجود القوات الأميركية في ايران وضمان امنها واطلاق العنان لها. من هنا احتل موضوع احياء نظام الحصانة (الحصانة السياسية والدبلوماسية والقضائية للمواطنين الأميركان في ايران) مكانه في جدول الاعمال. فكان اقرار لائحة الحصانة من قبل مجلسي الشيوخ والشورى رصاصة الخلاص التي اطلقت على استقلال ايران المحاصرة المضطهدة.
ان القسوة التي مورست في سحق المناضلين وسجنهم ونفيهم، والحكم البوليسي للملك، كانت قد حبست الانفاس في الصدور وحالت دون ان يرتفع صوت معارض.
في هذا الجوالمضطرب عقد الإمام الخميني العزم علي اداء رسالته التاريخية والانتفاضة مرة اخرى، فاختار يوم السادس والعشرين من تشرين الاول ـ يوم مولد الملك الذي كانت تقام فيه الاحتفالات الاستعراضية وتنفق الاموال الطائلة ـ كيوم لفضح النظام. وقام بابلاغ ذلك عن طريق الرسائل والمبعوثين الي علماء المدن الاخرى.
وفي محاولة لاخافة الإمام الخميني وثنيه عن عزمه علي القاء خطاب في ذلك اليوم، قام الملك بارسال مبعوثه الخاص الي قم. غير ان الإمام رفض استقباله، مما اضطر المبعوث الي ابلاغ رسالة الملك الي السيد مصطفى نجل الإمام البكر.
وفي اليوم الموعود، ودون الاكتراث بالتهديدات، القى الإمام الخميني واحداًمن اشهر خطاباته في حشد كبير من علماء الدين واهالي مدينة قم وسائر المدن. كان ذلك الخطاب التاريخي ـ في الحقيقة ـ ادانة للحكومة الأميركية على تدخلاتها غير القانونية في شؤون البلد الاسلامي ايران، وفضحاً لخيانات الملك.
ابتدأ الإمام ـ وبصلابة لا توصف ـ خطابه بهذه الكلمات: … لقد سُحقت عزتنا لقد صودرت عظمة ايران ومجدها … لقد سحقت عظمة الجيش الايراني. لقد طرحوا على المجلس قانوناً جديداً، يُلحقنا بمعاهدة فينا، ويمنح المستشارين العسكريين الأميركيين وعوائلهم، وموظفيهم الفنيين والاداريين وخدمهم، حصانة تحول دون محاكمتهم إذا ارتكبوا ايّة جناية في ايران … ايها السيد! اني احذرك. ايها الجيش الايراني اني احذركم … ايها السياسيون الايرانيون، اني احذركم … اقسم بالله: مأثوم من لا يصرخ … والله من لا يرفع صوته يرتكب كبيرةً … يا قادة الاسلام، هبوا لنجدة الاسلام. يا علماء النجف انقذوا الاسلام.. يا علماء قم لبوا صرخة الاسلام .
وفي هذا الخطاب بالذات قال الإمام الخميني مقولته المشهورة: … أميركا اسوأ من انجلترا … انجلترا اسوأ من أميركا.. والاتحاد السوفيتي اسوأ من كليهما، بعضهم اسوأ من بعض، بعضهم اخبث من بعض، غير اننا اليوم مضطرون للوقوف بوجه هؤلاء الخبثاء، بوجه أميركا.. فليعلم الرئيس الأميركي بانه اشدّ الناس بعضاً لدي ابناء شعبنا … كل مصائبنا بسبب أميركا، كل مصائبنا بسبب اسرائيل، واسرائيل ربيبة أميركا .
وفي ذات اليوم (27 تشرين الاول 1964 م) اصدر الإمام الخميني بياناً ثورياً كتب فية: ليعلم العالم بأن كل المصائب والمشكلات التي يتعرض لها الشعب الايراني والشعوب الاسلامية، انما هي من الاجانب ومن أميركا.
ان الشعوب الاسلامية مستاءة من الاجانب عموماً ومن أميركا خصوصاً … أميركا التي تدعم اسرائيل وانصارها، أميركا التي تسلّح اسرائيل لتشرّد العرب المسلمين .
وبذا فقد اثمرت جهود الإمام الخميني لفضح مؤامرة الحصانة في دفع ايران الى حافة الثورة من جديد في تشرين الاول عام 1964 م، غير أن الملك بادر وبسرعة لمواجهة لموقف مستفيداً من تجربته في انتفاضة الخامس من حزيران.
هذا من جانب، ومن جانب آخر كان العديد من العناصر الدينية والسياسية البارزة والمدافعة عن نهضة الإمام يقبعون في تلك الايام في السجن أو المنفى. كذلك فإن عدداً من مراجع التقليد والعلماء الاعلام ممن ساهموا في أحداث الخامس من حزيران كانوا قد انسحبوا من الميدان تدريجياً والتزموا الصمت يدفعهم الى ذلك الحفاظ على مصالحهم. وقد استمر الامر بهذا النحوحتى عام 1979 عام انتصار الثورة.
من جانب آخر وبناءً على الوثائق التاريخية التي تمَّ نشرها بعد انتصار الثورة الاسلامية، فإن بعضاً من امثال السيد شريعتمداري، كانوا قد سعوا وقتئذ الى دفع بعض انصارهم ومؤيديهم لانتحاء جانب الصمت وعدم مناصرة دعوة الإمام الخميني مستفيدين من نفوذهم ومواقعهم لتحقيق ذلك.
ان الخطر الاساسي الذي كان يهدد النظام الملكي هو وجود الإمام الخميني، الذي لم تجد معه أيّ حيلة لا جباره على السكوت.
فهو الآن قائد محبوب ومعروف لجميع المجاهدين من الشعب الايراني، وهو مرجع تقليد لكثير من المسلمين. ولما كانت التجربة السابقة قد اثبتت بأن اعتقاله داخل البلاد سيضاعف من مشاكل النظام، ولما كان الاقدام على تصفيته جسدياً سيؤدي الى تفجير اوضاعٍ لا يمكن التنبؤ بعواقبها، لذا اتخذ النظام قراراً بنفيه الى خارج البلاد.