الاجتهاد: قال المحدث الكاشاني في مفاتيح الشرائع: الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة في الغناء ، ويقتضيه التوفيق بينها، اختصاص حرمته وحرمة ما يتعلق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني أمية، من دخول الرجال عليهن، واستماعهم لصوتهنّ، وتكلّمهنّ بالأباطيل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها.
يظهر ما في رأي المحدث الكاشاني(1)(1091هـ) ومن تبعه في حكم الغناء ؛ فإنه مما لا يمكن المساعدة عليه بوجه من الوجوه؛ فإنه خص حرمة الغناء بما اشتمل واقترن بالمحرَّمات الشرعية.
فقال في مفاتيح الشرائع(2): الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة في الغناء، ويقتضيه التوفيق بينها، اختصاص حرمته وحرمة ما يتعلق به من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء كلها بما كان على النحو المعهود المتعارف في زمن بني أمية، من دخول الرجال عليهن، واستماعهم لصوتهنّ، وتكلّمهنّ بالأباطيل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب وغيرها.
وبالجملة ما اشتمل على فعل محرم، دون ما سوى ذلك؛ لما يشعر به قوله: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال». وذكر نحو ذلك في المحجة البيضاء، كما سبق.
وقد تبع المحدث الكاشاني في هذا الرأي أستاذنا السيد كاظم الحائري في مقالته(3) عن الغناء، فقال: «وقد تلخص من كل ما ذكرناه أن الغناء وحده ليس حراماً، وإنّما يحرم إذا اقترن بدخول الرجال أو الموسيقى. وإن الغناء بالقرآن ونحوه بلا موسيقى ليس حراماً، ولا مكروهاً». لكنه استدرك أخيراً وقال: وقد ثبت بظواهر بعض النواهي السابقة حرمة الغناء اللهوي.
واستدل السيد الأستاذ على كلامه الأول بروايتين:
الأولى: صحيحة أبي بصير المتقدمة قال: قال أبو عبد الله×: أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال
وقد روى هذه الرواية المشايخ الثلاثة، إلا أنه في الكافي(4) والتهذيب(5) والاستبصار(6) وردت كلمة (ليست) بدون العطف بالواو على ما سبقها، وفي الفقيه(7) مع العطف بالواو، كما أثبتناها عن الوسائل.
وكيف كان فتقريب الاستدلال بهذه الرواية على عدم حرمة الغناء غير المقترن بدخول الرجال هو: إن قوله: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» بمثابة التعليل لجواز الغناء في الأعراس، فيثبت به جوازه مطلقاً، إذا لم يقترن بدخول الرجال.
ويلاحظ على ذلك:
أولاً: بما ذكره الأستاذ نفسه من احتمال أن يكون قوله: «ليست…» بمثابة التقييد لجواز الغناء في الأعراس، لا التعليل؛ إذ لم يتصدره أدوات التعليل لكي يكون ظاهراً فيه، وخصوصاً على نسخة العطف بالواو، كما في الفقيه. فالرواية مجملة من هذه الجهة.
وثانياً: إن تقييد حرمة الغناء بذلك مخالف للإجماع الذي أثبتنا حجيته فيما نحن فيه. والإجماع الحجة يفيد اليقين الذي لا يتزلزل بهذه الرواية وأمثالها.
وثالثاً: بما أشرنا إليه من أن المستفاد من الآيات والروايات هو أن حرمة الغناء بمناط اللهو والباطل والزور. وهذا يتحقق ولو من دون اختلاط الجنسين. وتقييده بعدمه غير عرفي وغير معقول. فلاحظ ـ مثلاً ـ صحيحة الريان بن الصلت المتقدمة، فهل تجد فيها قابلية التقييد بذلك؟
ورابعاً: إن تقييد جميع الروايات الواردة في تحريم الغناء، البالغة حدّ الاستفاضة، بل التواتر، سواء ما ورد منها في تفسير الآيات أم غيرها، بهذه الرواية الواحدة غير مقبول عرفاً أبداً؛ فإنه من أوضح مصاديق تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يعقل تقييد كل تلك الأخبار الكثيرة بهذه الرواية.
الثانية: رواية علي بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: لا بأس به، ما لم يزمر به(8).
وهذه الرواية انفرد بها علي بن جعفر في مسائله، ونقل عنها الحميري في قرب الإسناد، عن عبد الله بن الحسن، عنه. إلا أن في قرب الإسناد: «ما لم يُعصَ به» بدلاً من «ما لم يزمر به». ولكن ما في الأخير غير معتبر؛ بجهالة عبد الله بن الحسن.
وقد أفاد السيد الأستاذ بأن هذه الرواية تدل على جواز الغناء الخالي عن الموسيقى، حتى في غير القرآن.
أقول: إن الجواب التفصيلي عن هذه الرواية سيأتي إن شاء الله في بحثنا عن مستثنيات حرمة الغناء.
ولكن نسجل عليها هنا الملاحظات التالية:
الأولى: ورد في بعض نسخ كتاب المسائل «ما لم يؤمر به»، بدلاً من «يزمر». وقد أشار إلى ذلك محقِّقو الكتاب المذكور(9). كما ورد كذلك في الوسائل. ومعه فلا يصح الاستدلال بالحديث.
الثانية: إن قوله: «ما لم يزمر به» ليس بمعنى ما لم يقترن الغناء بالمزمار ـ كما أفاد الأستاذ ـ، بل بمعنى: ما لم يكن الصوت بنفسه صوتاً مزمارياً، كما ذكر السيد الخوئي(10). وهو الأنسب والأوفق لأدلة حرمة الغناء، من الإجماع والآيات والروايات. والمراد بذلك هو أن الغناء يجوز ما لم يكن بصوت مزماري، وهو الصوت واللحن المطرب اللهوي الباطل. فتكون الرواية موافقة لما قدمناه من حرمة الصوت اللهوي، دون غيره، ولا أقل من احتمال ذلك، الموجب للإجمال، وعدم صحة الاستدلال.
الثالثة: إن مورد هذه الرواية هو الفطر والأضحى والأفراح، ولا ينبغي التعدي عنه إلى غيره، والفتوى بعدم حرمة الغناء غير المقترن بالموسيقى مطلقاً.
الرابعة: يرد على هذه الرواية ما أوردناه على الرواية السابقة من الملاحظات الثلاثة الأخيرة.
هذا كله بناء على صحة النسخة الواصلة إلينا من كتاب علي بن جعفر، وإلا فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع. والحق أنها غير معتبرة، وليست بحجة، كما سيأتي بعض الكلام عن ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.
فاتَّضح عدم صحة ما ذهب إليه المحدِّث الكاشاني، وما استدل به السيد الأستاذ؛ لإثباته ونصرة مذهبه.
ثم إن السيد الأستاذ(حفظه الله)، بعدما استنتج من الروايتين عدم حرمة الغناء غير المقترن بدخول الرجال والموسيقى، ذكر أنه ثبت بظواهر بعض النواهي حرمة الغناء اللهوي. وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره في تعريف الغناء، من أنه الصوت المطرب، وأن المفهوم منه ما كان مستعملاً عادةً للتلهي والتلذذ، ويستعمل لذلك، كانت النتيجة حرمة الغناء مطلقاً، سواء اقترن بدخول الرجال والموسيقى وأمثالها من المحرمات أم لا؛ لأن الغناء إذا كان صوتاً لهوياً، وثبتت حرمة ذلك، صارت النتيجة حرمة مطلق الغناء. وهذا ما يتعارض تماماً مع ما توصل إليه من عدم حرمة الغناء غير المقترن بما ذُكر.
هل هناك دليل على جواز الغناء؟
وفي ختام البحث نشير إلى أنه لا يوجد أي دليل في مصادرنا الروائية والفقهية ـ ولو رواية ضعيفة ـ يدل على جواز الغناء بشكل مطلق. فاحتمال جوازه مطلقاً لا ينبغي أن يتطرق إلى ذهن الشيعي بعد تلك الأدلة الدامغة على حرمته. نعم، ورد جوازه في غناء المغنية في الأعراس ونحوه ـ كما تقدمت الإشارة إلى مدركه ـ، لكن إذا ثبت ذلك فهو تخصيص لحرمته المطلقة، وليس دليلاً على إباحته مطلقاً. هذا ما عندنا.
وأما ما عند العامة فقد أوردوا روايات نسبوها إلى النبي الأكرم‘ تدل بظاهرها على جواز الغناء، ولو اقترن بالآت اللهو واللعب. ولأجلها ذهب بعضهم إلى إباحة الغناء، بل اشتهر بينهم ذلك، كما تقدم.
فمن تلك الروايات ما خرّجوه في سننهم وصحاحهم عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله‘، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله‘، فأقبل عليه رسول الله‘، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، فلما سألت النبي‘ قال: أتشتهين تنظرين؟ قلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة، حتى إذا مللت، قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي»(11).
ومنها ما رووه أن أمة سوداء أتت إلى النبي‘ بعد رجوعه من بعض مغازيه، فقالت: إني كنت نذرت إن ردَّك الله سالماً أن أضرب عندك بالدف وأتغنّى، فقال لها النبي‘: إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل عليّ، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليه، فقال رسول الله‘: إن الشيطان يخاف منك يا عمر…»(12).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة. وغيرها من الأحاديث والروايات التي تشهد متونها على فسادها وسقمها. وليست هي إلا كسائر أحدايث الفضائل المختلفة الموضوعة للرفع من شأن بعض الصحابة، ولو كان على حساب النبي الأكرم‘ وأخلاقه وزهده وحكمته وعصمته…. فلا حاجة إذاً في البحث عن أسنادها ومدركها، والبحث عن معارضتها لما روي عن أهل بيت النبي الأعظم^ بأسانيد صحيحة من حرمة الغناء، وتنزيه ساحة رسول الله‘ عن هذه الخزعبلات والترهات والأباطيل.
ومما يلفت النظر في روايات أصحابنا في المقام عن الأئمة أنه مع اشتهار مثل هذه الأخبار الموضوعة، وكثرة القائل بها، عند أبناء العامة، لم يرِدْ أيُّ حديث يردّ أو يؤيد مثل تلك الأخبار، أو يدل على حلية الغناء والملاهي ـ كما أشرنا ـ، الأمر الذي يدل على أن أئمة الهدى لم يتقوا في هذه المسألة عن العامة، ولم يداروهم فيها، كما اتقوا في بعض المسائل، مما يكشف عن حرمة الغناء حرمة شديدة، لاتقية فيها ولا مداراة ولا تساهل، كما في الخمر وشبهه، فتدبر.
الهوامش
(1) رأي الإمامية في حكم الغناء
لا يظهر من المتقدمين من الإمامية أي خلاف في حرمة الغناء، بل صرح كثير منهم بها. ولذلك قال في الجواهر([34]): بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، والسنة متواترة فيه، وفيها ما دل على أنه من اللهو واللغو والزور المنهيّ عنها في كتاب الله، فيتفق حينئذٍ الأدلة الثلاثة على ذلك، بل يمكن دعوى كونه ضرورياً في المذهب، فمن الغريب ما وقع لبعض متأخِّري المتأخرين، تبعاً للمحكيّ عن الغزالي، من عدم الحرمة فيما لم يقترن بمحرَّم خارجي…».
وقد وردت الفتوى بتحريمه في فقه الرضا×([35]) والمقنع للشيخ الصدوق(381هـ)([36])، والكافي للحلبي(447هـ)([37])، والمقنعة([38]) للشيخ المفيد(413هـ)، والخلاف([39]) للشيخ الطوسي(460هـ)، حيث قال: الغناء محرم، يفسق فاعله، وترد شهادته، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هو مكروه، وحكي عن مالك أنه قال: هو مباح. والأول هو الأظهر؛ لأنه سئل عن الغناء؟ فقال: هو فعل الفساق عندنا…. ثم قال: دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم…. ونحو ذلك قوله في المبسوط([40]): فالغناء عندنا محرم، يفسق فاعله، وترد شهادته، وقال بعضهم: هو مكروه، فأما ثمن المغنيات فليس بحرام إجماعاً؛ لأنها تصلح لغير الغناء من الاستمتاع بها وخدمتها…. كما حرَّمه في النهاية([41]) أيضاً. ومثله فتوى ابن البراج(481هـ)([42])، وابن إدريس(598هـ)([43])، والمحقق، والعلامة، والشهيدين…. ولم يتبين لي الخلاف في حرمة الغناء إلا من الفيض الكاشاني(1091هـ)([44])، حيث خصَّ حرمته بما إذا كان مشتملاً على الحرام، وما كان معهوداً في زمن بني أمية من دخول الرجال عليهنّ، واستماعهم لصوتهنّ، وتكلّمهن بالأباطيل….
وقد نسب هذا القول في كثير من الكلمات إلى المحقق السبزواري(1090هـ) في كفاية الأحكام. ولكن الموجود فيه ليس ذلك، فإنه استثنى أولاً الغناء في قراءة القرآن الكريم عن الحرمة، ولم يستبعد حمل روايات حرمة الغناء على ما كان شائعاً في ذلك الزمان، وهو الغناء على سبيل اللهو الباطل، واشتماله على المحرمات، ثم قال ثانياً: فإذاً لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوهما، ثم إن ثبت إجماع في غيره كان متبعاً، وإلا بقي حكمه على أصل الإباحة، وطريق الاحتياط واضح»([45])، فهو لم يُفْتِ بتخصيص الحرمة بذلك، كما أفتى المحدث الكاشاني، إنما لم يستبعد حمل روايات الحرمة على المقترن باللهو والملاهي.
(2) مفاتيح الشرائع 2: 21.
(3) مجلة فقه أهل البيت، العدد40.
(4) الكافي 5: 120.
(5) التهذيب 6: 357.
(6) الاستبصار 3: 62.
(7) من لا يحضره الفقيه 3: 161.
(8) الوسائل 17: 122.
(9) مسائل علي بن جعفر: 156.
(10) مصباح الفقاهة 1: 309.
(11) صحيح البخاري 2: 2.
(12) أخرجه غير واحد، منهم: الترمذي في سننه 5: 283.
المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان: الغناء والموسيقى وآلات اللهو / مجلة نصوص معاصرة