الاجتهاد: من باب التفقه في الدين .. ففي الكافي عن النبي ص: (اُفٍّ لكلّ مُسْلِمٍ لا يُفَرِّغُ نفسَه في كلّ جُمُعَةٍ لأمر دينه ، فيَتعاهَدَه ويسألَ عن دينه..). من المسائل التي صارت جدلا … في الفترة الأخيرة .. مسألة نكاح الرضيعة والاستمتاع بها … وهي تحتاج إلى توضيح ورد للشبهات المثارة حولها… وإذا عرف السبب بطل العجب كما يقال …
وسأبين بعض الأمور التخصصية في الاثناء -ان شاء الله – بطريقة سلسة وواضحة إجابة لبعض المؤمنين الذين يراسلون هذا المقصر يطلبون التوضيح…
مسألة العقد على الرضيعة عانت من امرين :-
1- إنها افتراض فقط أسس على فكرة مثالية ليست عملية أو تطبيقية في الوقت الحاضر ..
كان في ما مضى من الزمان لا توجد دور لإيواء المشردين والأيتام ومن مات أهله وانقطع عن دياره … وكان أهل المنزل الواحد تعيش فيه ثلاث عوائل أو أقل أو أكثر… وبالنتيجة تعاملوا مع بعض التشريعات بالطريقة التي تناسب حياتهم …
2- إن الحكم في الرسالة العملية لا يكون مدعوما بفلسفة الحكم أو حكمة التشريع أو حتى رواية المعصوم …وان كثيراً من الاحكام قدمت ضمن صور جزئية وليست بشكل صيغة عامة… بل قدمت بصيغة محدودة تبعاً للأبواب الفقهية، ففي باب العقد شيء وفي باب آخر شيء، ولم تعط لها صيغة عامة يمكن للمقلد أن يستفيد منها في نطاق واسع… كما أشار إلى ذلك السيد الشهيد باقر الصدر…
في ضوء ذلك ندخل إلى مسألة نكاح الرضيعة:
1- إن مسألة نكاح الرضيعة ابتليت بها فتاوى العامة والخاصة، شيعة وسنة، بل إن بعض أهل السنة أباح نكاح الرضيعة وهذه مشكلة كبيرة جدا. انظر (روضة الطالبين 5/314)..
ولكن لدى الفقهاء من الإمامية فالمجمع عليه الثابت أنه يحرم وطي الزوجة قبل اكمال التسع … وما بعد التسع تفاصيل أخرى ليس هنا محلها المناسب (من الرشد والنضج الجسمي وغير ذلك)..
بل توجد عدة روايات عن الائمة عليهم السلام ومنها روايات معتبرة تمنع من من الوطي قبل التسع وتحرمه …
ولو كان وطأ البنت بعقد قبل تسع سنوات … لو فعل ذلك حرمت عليه مؤبداً وعليه الغرامة … هذه روايات موجودة وفتاوى كثيرة في هذا المجال..
إذن توجد حرمة في الوطأ ولو قيل بأنه يوجد عقد على الرضيعة .. فهذا لا يعني جواز وطئها …. وهذا المقدار متفق عليه بين الفقهاء ..
2- الان الكلام في سائر الاستمتاعات …. كما هو مذكور
قال الفقهاء إن الصغيرة ممكن أن يعقد عليها، باعتبار أن المباشر للعقد عنها هو وليها … ولا إشكال في ذلك ..
– الان نسأل: إذا كان يمكن العقد على الصغيرة، باعتبار أنه عقد صدر من أهله ووقع في محله وهو ولي الصغيرة … هل يمكن الالتزام بلوازم العقد من الوطي والاستمتاعات
خرج الوطئ عن الجواز بتحريم المعصوم لانه توجد روايات في ذلك، ولكن لم يرد تحريم الاستمتاعات من الصغيرة. واكرر لم يرد شيء من هذا القبيل .. وحيث لم يرد منع ، فهل يمكن لنا كفقهاء أن نقول بجواز الاستمتاعات…
الان الفقهاء اختلفوا، إلى جهتين:- جهة مانعة وجهة مجوزة… المانعة اعتبرت ان هذا خلاف الفطرة والعقلاء يمجونه ويعتبرونه من الانحراف عن فلسفة الزواج في الاسلام …. ولذلك لا يجوز الاستمتاع مثل الوطئ.
تعال إلى المجوزين لهذه الاستمتاعات من باب ان العمومات من جواز العقود وإباحتها تشمل الصغيرة…
المشكلة ولدت من شيء … هو انهم يجوزون ذلك في باب العقد ولكنهم يحرمونه من جهات اخرى وفي أبواب اخرى، فيكون ممنوعا بالنتيجة :- بالنظر إلى أمور :-
1- يحرم أصل العقد وتسقط ولاية الولي:-
لأن العقد على الصغيرة من طرف الولي يساوق المصلحة للرضيعة أو الصغيرة، لان الولاية مشروطة بالخلو عن المفسدة وعدم الإقدام على الضرر …
وعليه فان كانت المصلحة بهذا المعنى غير متوفرة في هذا التزويج فيحرم بلا إشكال… ويكون التزويج حينئذ حرجياً وليس للولي الولاية في تلك الموارد ويبطل عقده (بالعبارة الفقهية الفنية يصير العقد فضولياً موقوف على رضا الصغيرة عندما تبلغ)..
والمسألة واضحة :- فالحال هنا ان الواقع يقول انه ينافي مصلحتها … فينتفي العقد من اساسه ولا يجوز العقد عليها ولا يجوز الاستمتاع بها لانتفاء العقد عليها، وما معنى الاستمتاع بصغيرة لا تدرك واي مصلحة في ذلك… ولذلك رأيت في بعض الفتاوى مَن صرح بأن مثل ذلك لا يقوله احد ولا يفتي به فقيه !…
اذن بالنظر إلى تشقيق العبارة هكذا يقول في الرسالة العملية :- إن كان العقد في مصلحتها فيجوز … وإن لم يكن في مصلحتها يبطل. والواضح من الواقع الذي نعيشه انه في غير مصلحتها … وهذا التفريعات (إن كان كذا… وإن كان كذا …) من الافتراضيات لا اكثر.
2- في باب لا ضرر ….
ولتوضيح ذلك:
ان توجد قواعد اعلائية في الفقه … هذه القواعد حاكمة على بقية الاحكام … فتتقدم عليها … يعني الوضوء بالماء يسقط اذا خاف على نفسه، أو ماله، من لص، أو سبع، أو نحو ذلك… فترى ان الحكم الاولي بالوضوء سقط لتقدم قاعدة العسر والحرج عليه … وكذلك الميتة تحرم على المسلم لكن لو خاف على نفسه الموت كان له ان يقدم (لا ضرر) ويأكل بمقدار دفع الضرر عن نفسه …
اذن توجد قواعد اعلائية …. وفي المقام، يجوز العقد ولوازمه غير المحرمة (اي الاستمتاع) في باب العقد . ولكنها تحرم من باب لا ضرر وخاصة مع مرافقة ذلك للاذى النفسي على الصغيرة وتزداد الأمور فساداً لو كانت هذه الصغيرة مدركة لذلك، ونحو تلك القواعد..
3- من باب الفقه الاجتماعي …
وبصراحة فان الفقيه الذي لا يؤمن بهذه النظرية يوقع نفسه والأمة في إحراجات او في تخلف عن مستوى الاسلام ومواكبة الواقع الذي أراده لنا آل محمد صلوات الله عليهم … وممكن مراجعة بحث لهذا المقصر (ماهية الفقه الاجتماعي: تحليل المفهوم وقواعد الاستنباط) في مجلة الاستنباط … العدد 8 .
هذه النظرية الاجتماعية في الفقه شيد بعض اسسها السيد باقر الصدر -رحمه الله- وهو الذي اجترح المفهوم لها واعطاها الانطباع الذي هي عليه الان … وللأسف غيبت هذه النظرية عن إنجازاته. وتبعه في منهجه الاستنباطي هذا بعض أعلام العصر منهم استاذنا الشيخ اليعقوبي، وهذه المحاولة تقدّم الفقه بالإطار الواقعي الذي يتفاعل فيه مع الحياة الإسلامية كلها…
المهم ان (الفقيه الفردي) يتصور حالة فردية يريد ان يجيب عنها فيقول بالإباحة، مثلا يبيح التعامل بشركات التسوق الهرمي ، او بيع السلاح مثلا …. ولكن (الفقيه الاجتماعي) ينظر إلى المجتمع بكامل أفراده والى الامة بكيانها العريض ثم يفتي لها لا انه ينظر إلى فرد يعمل بتكليفه بل إلى كل الامة التي تؤمن بالإسلام …
فيرى (الفقيه الاجتماعي) ان هذه الشركات عبارة عن كذبة تسويقية الغرض منها نهب اموال الناس والهروب بها خارج البلاد.. من خلال دراسات وأرقام يقرأ عنها ويدرسها … فيمنع من التعامل معها … او بيع السلاح الفردي وان كان جائزا مثلا ، ولكن تصدير هذه الفتاوى للامة يوجب وقوع سلاحهم بيد اعدائهم وما يترتب عليه من فوضى … فيمنع بيع السلاح لجهات مجهولة … وهكذا تختلف الفتوى في النظر الاجتماعي عن النظر الفردي… ومنها هذه المسألة في الرضيعة … فهي (حتى لو كانت جائزة) على مستوى الفرضية كما رأينا إلا انها تصطدم بالفطرة والنفرة الاجتماعية وتهوين الدين وتهوين المشرع الإسلامي بالطريقة الافتراضية المذكورة… فيمنع منها اساساً … لما مرّ ولاعتبارات كثيرة في مبادئ الخط الاجتماعي…
ولذلك … وبصراحة اقولها ، أنا مع الفقيه الاجتماعيّ الذي يحذف هذه الأمور من الرسالة العملية وان كان يمتلك الفقيه المبررات الفنية والفقهية لها ، لكنها تسبب اشكاليات في الفهم وتعقيد في الحكم … خصوصا وان بعض الاحكام لا تفهم في باب واحد، بل من خلال مجموعة مداخلات وتشقيقات تصعب على المجتمع وتبتعد بالحكم عن مبادئ الإسلام وروح الفقه ..