إنّ المتابع لمسار الاستدلال الفقهي ـ باتّجاهيه الاُصولي والأخباري ـ يلمس التعامل الباهت مع السنّة الفعلية للمعصومين(عليهم السلام) ، فلم تلقَ العناية التامّة ولم يتمّ الإفادة منها كما ينبغي، بل تمّ استبعاد النسبة الأكبر من السنّة العملية عن ساحة الممارسة الاجتهادية والاستنباط الفقهي، واُوكلت مهمّة الاعتناء بها بالدرجة الاُولى الى المجال التاريخي ومباحث السيَر، وربّما تُرك منها شيء يسير الى المجال الأخلاقي.
الاجتهاد: إنّ السنّة الشريفة من حيث كونها دليلاً على الحكم الشرعي يقع البحث عنها في علم الاُصول لإثبات أصل دليليتها وتحديد دلالاتها وتعيين طرق إثباتها .
الخطّ البياني لمنسوب البحث الاُصولي للسنّة العملية :
لقد استقرّ التبويب الاُصولي على تخصيص مجال مُحدّد لبحث السنّة الشريفة ـ مُضافاً الى البحوث المشتركة بينها وبين القرآن الكريم كمباحث الدليل اللفظي ، ومضافاً الى المواضع المتفرّقة ـ ألا وهو ما يُطرح ضمن البحث عن الدليل الشرعي غير اللفظي، حيث يُتعرّض عادة الى فعل المعصوم وتقسيمه تقسيماً ثلاثياً الى الأقسام المعروفة ( الفعل، والترك، والتقرير )، وأيضاً ما يُطرح في طرق إثبات السنّة سيما ما يتعلّق بأبحاث خبر الواحد . .
فيما نجد أنّ قدماء الاُصوليين كانوا يُخصّصون للسنّة الفعلية مساحات بحثية أوسع ؛ إذ لو راجعنا كتاب ( الذريعة الى اُصول الشريعة ) للسيّد المرتضى [ 355 ـ 436 هـ ] لرأينا مساحة مُعتدّ بها مُخصّصة لبحث أفعال المعصوم(عليه السلام) وسنّته العملية، فقد خُصّص لذلك سبعة فصول (1) ، وأمّا كتاب ( عُدّة الاُصول ) للشيخ الطوسي [ 385 ـ 460 هـ ] فمن مجموع اثني عشر باباً قد خُصّص باب مستقلّ تحت عنوان ( في ذكر جملة من أحكام الأفعال ، وما يُضاف إليها ، واختلاف أحوالهم )، اشتمل على ستّة فصول (2)
وكذلك حينما نراجع كتاب (معارج الاُصول) للمحقّق الحلّي [ 60 2 ـ 676 هـ ] نجد أنّه يُخصّص الباب الخامس من مجموع عشرة أبواب تحت عنوان ( في الأفعال )، يقع تحته فصلان (3)، وأيضاً ( تهذيب الوصول الى علم الاُصول ) للعلامة الحلّي [ 726 هـ ] نجد أنّه يُخصّص المقصد السادس من مجموع اثني عشر مقصداً تحت عنوان ( في الأفعال )، يقع تحته خمسة مباحث (4) . . بيد أنّ البحث الاُصولي حول السنّة الفعلية تمّ اختزاله فيما بعد بشكل مُلفت للنظر من دون أيّ مبرّر منطقي، وبدا يظهر عليه الضمور، وأخذ بالتراجع فضلاً عن أن يكون قد طالته يد التطوير والتكامل حتّى آل أمره الى ما هو عليه الآن . .
مستوى التعامل الفقهي مع السنّة العملية :
إنّ المتابع لمسار الاستدلال الفقهي ـ باتّجاهيه الاُصولي والأخباري ـ يلمس التعامل الباهت مع السنّة الفعلية للمعصومين(عليهم السلام) ، فلم تلقَ العناية التامّة ولم يتمّ الإفادة منها كما ينبغي ، بل تمّ استبعاد النسبة الأكبر من السنّة العملية عن ساحة الممارسة الاجتهادية والاستنباط الفقهي ، واُوكلت مهمّة الاعتناء بها بالدرجة الاُولى الى المجال التاريخي ومباحث السيَر ، وربّما تُرك منها شيء يسير الى المجال الأخلاقي . .
فمن جهة خسر بذلك الفقه شطراً مهمّاً من السنّة الشريفة التي كان يُمكنها أن تُثريه وتُعينه في مهمّته سواء على صعيد رفد الفقه
بالشواهد العملية الداعمة للسنّة القولية ، أو على صعيد إعانة الفقه على تحقيق أهدافه الكبرى؛ باعتبار أنّه كلّما اتّسعت دائرة مصادر الاستنباط اتّسعت حركة البحث الاجتهادي نقضاً وإبراماً وتوفّرت المادّة للمناورة أكثر، سيما وإنّ السنّة العملية تمتاز بامتيازات خاصّة بها لا تتوفّر في الأدلّة النظرية، ومن المطمأنّ به أنّها قادرة على ملء بعض الفراغات على صعيد البحث الفقهي ، بل إنّ انخفاض سطح التعامل مع السنّة العملية للمعصوم(عليه السلام) ينعكس بشكل وآخر على مستوى الإفادة من السيرتين المتشرّعية والعقلائية ، ويُفقدنا قسطاً وافراً منهما . .
ومن جهة اُخرى فقد فات السنّة عمليات الغربلة والتحقيق الذي يُمارَس في الدائرة الفقهية والتي امتدّت قروناً ؛ حيث عكف الفقهاء على تنقيح السنّة القولية سنداً ومتناً ودلالة، بخلاف السنّة العملية التي حُرمت من ذلك، وهذه خسارة كبرى لا يُمكن تداركها بسهولة، فلو اتُّخذ قرار بتوسعة البحث الفقهي للسنّة العملية فسوف نحتاج الى فترة زمنية طويلة حتّى يُمكن بلورة الرؤى حولها وتقعيد القواعد المرتبطة بها ، من قبيل:
1 ـ قواعد لتحديد الدوالّ العملية وبيان أقسامها المختلفة، وتحديد دَور القرائن المؤثّرة في تحديد دلالات الأفعال وأنواعها، وهل ثمّة سياقات خاصّة للأفعال كما هو الحال في الأقوال ؟
2 ـ تعيين دلالات الأفعال ، وأبعاد تلك الدلالات ، وكيفية تعيين المختصّ بالمعصوم(عليه السلام) أو المختصّ بالظروف التي عاشها خاصّة من غير المختصّ ، ووضع اُسس لكيفية تنويع الممارسات العملية والسلوكية للمعصوم(عليه السلام) ، فثمّة أفعال فردية ، وثمّة أفعال اجتماعية . .
3 ـ تحديد طرق إثبات السنّة العملية ، فإنّه مضافاً الى طرق الإثبات المشتركة بين كلّ أقسام السنّة ، هل تختصّ السنّة العملية بطرق معيّنة دون غيرها ؟
الغفلة عن بعض السنن العملية ذات السمة العامّة :
إنّ السنن التي يُعنى بها البحث الاُصلي وكذا الفقهي عادة هي السلوكيات الفردية للمعصوم(عليه السلام) ، ولا يرى شيئاً وراء ذلك ، فيما نجد هناك سلوكيات للمعصوم(عليه السلام) لكن ذات سمة عامّة لم تُسلّط عليها الأضواء ، من ذلك مسائل الحرب والسلم والمعاهدات السياسية وكيفية إدارة المجتمع والإشراف عليه، فمثل ذلك بحاجة الى بحث ودراسة لمعرفة أبعاد هذه الممارسات من أجل اكتشاف الحيثيات التشريعية فيها ، ومن المفيد هنا أن نفتح بعض النوافذ لنطلّ من خلالها على بعض الأبحاث المثمرة في مجال السنن ذات السمة العامّة :
1 ـ دراسة الحروب والغزوات التي قام بها النبي(صلی الله عليه وآله) ، واستخلاص نتائج ذلك ، كتحديد الأسباب التي دعت للقيام بتلك الحروب والغزوات ، فهل كانت حروباً استباقية أو كانت ردّات فعل لتجاوزات من قِبَل الخصوم ؟
وبعبارة اُخرى : هل الحروب التي شنّها النبي(صلی الله عليه وآله) كانت بعنوان ما يُسمّى ب ـ ( الجهاد الابتدائي ) أو ( جهاد الدعوة ) ؟ أو إنّها كانت بعنوان ( الجهاد الدفاعي ) ؟ أو كانت بعنوان آخر غيرهما ؟ وهل كانت ثمّة ظروف خاصّة تُبرّر التصدّي للحرب آنذاك أوْ لا ؟ وهل تُوجد خصوصية للنبي(صلی الله عليه وآله) في تصدّيه للحرب من حيث هو نبي ومعصوم أوْ لا ؟
وهل كانت تلك الحروب تُشنّ ضدّ الكيانات السياسية كالحكومات المناوئة فقط أو كانت حروباً شاملة تُشنّ ضدّ الكيانات والشعوب وعامّة الناس أيضاً ؟ وما هي السلوكيات التي تمّت بها إدارة الحروب من قِبَل النبي(صلی الله عليه وآله) ؟ ما هي السلوكيات التي اعتمدها النبي(صلی الله عليه وآله) لما بعد الحرب ؟ وما هي التدابير التي اتّخذها(صلی الله عليه وآله) قبل الحرب ؟ وما هي الفوارق الحكمية بين الحرب مع غير المسلم وبين الحرب مع المسلم المحاربين والمفسدين والمتمرّدين ؟
2 ـ دراسة موارد الصلح والمعاهدات التي التي قام بها النبي(صلی الله عليه وآله) ، وهل كان مضطرّاً إليها أو كان مختاراً ورجّحها على خيار الحرب ؟ ما هي بنود تلك المعاهدات ؟ فهل اشتملت على الاتّفاق على مصالحات وهدنات دائمة أو كانت كلّها مؤقّتة ومحدودة المدى ؟ وهل كانت تطال قضايا أساسية وستراتيجية من الدرجة الاُولى أو كانت تطال مساحات ثانوية ومن الدرجات الدانية ؟ وهل تضمّنت شيئاً من التنازلات العقَدية أو السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية أو غيرها أم لا ؟
3 ـ إنّ مسائل الحرب والسلم كما يُمكن بحثها بشأن النبي(صلی الله عليه وآله) ، يُمكن بحثها بشأن سائر المعصومين(عليهم السلام) ، كالإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أو الإمام الحسن الزكي(عليه السلام) ، بل إنّ لتجربة هذين الإمامَين الهمامَين(عليهما السلام) خصائص وامتيازات وظروفاً متفاوتة مع التجربة النبوية ؛ باعتبار أنّ هذا القسم من التجربة النبوية كان مع الخارج غير المسلم وغير الإسلامي ، وأمّا تجربة الإمامَين علي والحسن(عليهما السلام) وقعت في الداخل المسلم أو الإسلامي ، إذن ، فموضوع كلّ من التجربة النبوية وتجربة الإمامَين علي والحسن(عليهما السلام) متفاوت عن الآخر ، وبالتالي إذا تفاوتت كلّ من التجربتين موضوعاً تفاوتا حكماً . .
تفاؤلات واعدة :
ولا نُريد أن نتعجّل النتائج قبل أوانها ، غير أنّنا واثقون بأنّ فتح هذا الملفّ في دائرة التجربة النبوية سوف يُوصلنا الى نتائج مهمّة جدّاً لم تكن بالحسبان لها آثارها على الساحة الدولية والسياسية والثقافية والحضارية ، ولا نستبعد أنّ مثل هذه الدراسات سوف يُخلّصنا من بعض الإحراجات والاتّهامات الموجّهة من قِبَل الجهات التي تعمل ليل نهار لتشويه صورة الإسلام الحنيف وشريعته الغرّاء ، وسوف يطرد عنّا الشائعات غير الأخلاقية كالإرهاب . .
كما أنّ فتح نوافذ بحثية في تجربة الإمامين علي والحسن(عليهما السلام) سوف يُوفّر لنا فرصة قيّمة لتقديم النموذج الأمثل لكيفية التعامل مع الداخل المسلم والإسلامي تتحلّى بالانضباط والحرص على الداخل الإسلامي وخالية من كلّ ألوان القسوة المفرطة والروح الانتقامية التي طرحتها بعض الرؤى المتطرّفة التي برزت أخيراً والتي تتمظهر بالديانة وتتزيّى بالرسالية في الوقت الذي قدّمت للعالَم أبشع الصور والممارسات غير الأخلاقية وغير الشرعية عن الإسلام الذي هو دين الرحمة والرأفة . .
. . نسأله تعالى أن يسدّدنا في العلم والعمل . . ويأخذ بأيدينا ويُنجينا من الزلل . .
{ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } . . ولا حول ولا قوّة إلا بالله . .
الهوامش:
(1)اُنظر: المرتضى، علي بن الحسين ، الذريعة الى اُصول الشريعة ، نشر جامعة طهران ـ طهران / 1348 هـ . ش ، 2 : 570 ـ 603 .
(2)اُنظر : الطوسي ، محمد بن الحسن ، العُدّة في أُصول الفقه ، مؤسّسة البعثة ـ قم / 1417 ﻫ ، 2 : 563 ـ 597 .
(3)اُنظر: المحقّق الحلّي، نجم الدين جعفر بن الحسن، معارج الاُصول، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) للطباعة والنشر ـ قم، ط 1 / 1403 هـ : 115 ـ 121 .
(4)اُنظر: العلامة الحلّي، الحسن بن يوسف، تهذيب الوصول الى علم الاُصول، مؤسّسة الإمام علي(عليه السلام) ـ لندن، ط 1 / 1380 هـ . ش : 171 ـ 180 .
بقلم : الشيخ خالد الغفوري رئيس التحرير مجلة فقه أهل البيت (العدد 81)