الاجتهاد: من منتصف القرن الماضي ظهرت في العراق بدايات تشكل الحركة الإسلامية الشيعية، مسبوقة بتشكل الأحزاب العامة والحركات الإسلامية في عموم العالم الإسلامي والعربي، بما في ذلك العراق.. يحمل هذا التشكل في تضاعيفه فكرةَ إقامةِ دولة دينية في العراق في المحصلة، وفي الطريق يعنى بجمع الشتات الشيعي وتنظيمه وتوجيهه ثقافيا وسياسيا.. إلى جانب ذلك اخذ يتسلل إلى العراق الفكر الحداثوي بفلسفة وكلام ومعرفة ولمحات فقهية مغايرة لما هو السائد في تشكل البنية المعرفية والعقدية والاجتماعية للبلد.
وكان لكلٍ حضوره الاجتماعي، يتفاوت في الزمان والمكان شدة وضعفا، وكان من تداعياته الاجتماعية هو محاولة إقصاء الحالة التقليدية والطعن فيها وتناولها بشكل يخرج في بعض صوره عن الحراك العلمي والمنهجي، بل والأخلاقي أيضا.. أفرز هذا الحراك جملة ثنائيات، وهي وإن كانت ذات طابع علمي في بعضها على الأقل، إلا أنها أخذت تعصف بالساحة الاجتماعية وتشرذمها.
ظهرت: ثنائية الفقه الفردي والفقه الكلي أو الاجتماعي أو السياسي .. وثنائية التقليدي والحركي.. وثنائية المتخلف والتقدمي.. وثنائية الرجعي والحداثوي.. وثنائية المداهنة والثورة.. وثنائية الجمود على التركة والتحرر من الماضي.. …………..
٢.يصنف الخوئي المرجع ضمن الثنائيات أعلاه في الحوزة التقليدية.. بل كان ومرجعيتَه من أبرز بين من طالتهم حملة التصنيف القاسية.. فقد كيلت لشخصه ومرجعيته النقود والتهم وبمستوى السباب والبذاءة، ليس لشيء إلا لموقف علمي اجتهادي من الحياة السياسية والمشاركة العامة في ظل الاستبداد المؤدلج..
وقد ساهم في ضبابية الصورة الالتزام الأخلاقي للمؤسسة الدينية وعدمُ عنايتِها، بل عنايتُها بعدم الظهور على الشاشة مما منعها من تدوين فكرها وخطتها ومذكراتها، على العكس من الآخر فقد أرخ وأصدر ونظّر مما زاد في ظلامتها وفي تناولها بشكل غير محسوب، فكانت عرضة للضمور ولمصادرة تاريخها وجهودها في خدمة الأمة..
في تقديري: إن الخط التقليدي كان الحاضنة للخط الحركي.. فباعتراف الحركيين الخجول احتضنتهم مرجعية السيد الحكيم التقليدية.. وحفظت لهم مرجعية السيد الخوئي العليا مركزية النجف ومحوريتها الشيعية، وتحملت وحوزتها عنهم كل ردود أفعال السلطة من دون أن تخدش بهم.. ليتلفع الحركي بعد ذلك بعباءة التقليدي في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، ولكن لا بمشروعه؛ إذ لم يجد ولم يتمكن أن يخلق له فرصة.. وانما بمشروع التقليدي وهو الدولة المدنية التي تشارك فيها كل شرائح البلد الاجتماعية كلٌ بنسبته والتي تحول دون الاستبداد أو تخفف منه.. ……
٣.آية الله الخوئي بهيكلته ومدرسته واهتمامه البالغ في الحركة العلمية وتركيزه على خلق خط علمي يمسك بتلابيب الحوزة العلمية وإصراره على بقاء الحوزة ومرجعيتها العليا في النجف، تمكن من تكريس نظام في الحوزة يمنع من اختراق الحوزة في ظل الاستبداد الذي كان من أولوياته تحويل الحوزة إلى مؤسسة من مؤسسات وزارة الأوقاف تدعم السلطة في مواقفها وتكون رجالاتها وعاظ سلاطين.. إن هذا الاهتمام العميق من قبل آية الله الخوئي يعبر عن رؤية استشرافية لمصير المؤسسة والطائفة في أهم موقع سياسي واقتصادي واجتماعي وديني في المنطقة ألا وهو العراق..
فقد تمكن أن يكرس: مبدأ الاستقلال الذي قاتل من اجله علماء الدين الشيعة حفظا لحرية كلمتهم وموقفهم التي لم يتمكن الظلم بمختلف تجلياته من مصادرتها على العكس تماما من السير في ركاب السلطة فانه يقضي تماما وبسرعة على حرية الكلمة والموقف.. وكانت النتيجة هي عدم إضفاء الشرعية على السلطة وتجنياتها في حروبها العبثية مع الجيران والداخل مع محاولات مستميتة من السلطة للحصول على ذلك..
تمكن منهج السيد أن يؤسس للتالي: وهو أن كل حركة تخرج عن النظام المتبع في المؤسسة الدينية تتهم في شرعيتها بدء من وعاظ السلاطين، مرورا بحركات وظواهر النيابة الخاصة التي تظهر في ظل الفقر الثقافي، إلى التعامل الانتقائي والالتقاطي مع النص الديني، إلى القفز على هرمية الواقع الشيعي الذي أسست له بعض التيارات الشيعية، إلى ظاهرة الادعاءات المتنوعة التي تنشط في جو دعم السلطة….. تمكن منهج السيد الذي حفظ للحوزة وجودها من الحيلولة دون مصادرة القرار الشيعي واختطافه واحتكاره بجهة واحدة.. فبقيت لهذه الحوزة التي نعتت بقسوة بالخمول والفقه الفردي والاهتمام بفقه الحيض والنفاس والعلم بدون عمل ومخاطبة نفسها وانفصالها عن الأمة شرعيتُها ومرجعيتُها ومحوريتُها ليأخذ اجتهادها السياسي فرصته في لحظة تاريخية استفاد منه الجميع.. وتبقى المرجعية الخالدة في النجف الأشرف وفي وقت إطلالتها السياسية بل وزعامتها تتحرك من موقع الأمة لا من موقع السلطة لتضيف إلى مصداقيتها مصداقية جديدة، ولتكرس استقلالها، متجهة في عملها الأكاديمي والأخلاقي صوب الأتباع حاملة همومهم وتطلعاتهم مشاركة إياهم في حياتهم… ويبقى الكمال لله، والله من وراء القصد..