الإمام الرضا

لماذا قتلو الإمام الرضا عليه السلام / عادل عبد الرحمن البدري

الاجتهاد: كان الإمام الرضا (عليه السلام) يكثر وعظ المأمون إذا خلا به ويخوفه بالله و يقبّح ما يرتكبه من خلاف، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه ويبطن كراهته و استثقاله.

و دخل الرضا (عليه السلام) يوما فرآه يتوضأ للصلاة و الغلام يصب على يده الماء فقال (عليه السلام): لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحداً، فصرف المأمون الغلام و تولی تمام وضوئه بنفسه و زاد ذلك في غيظه و وجده.

وكان الرضا (عليه السلام) يزري على الفضل والحسن ابني سهل عند المأمون إذا ذكرهما ويصف له مساوئهما وينهاه عن الإصغاء لهما (1).

فيصل الباحث من هذا الخبر وغيره أن جهاز الدولة المتمثل بالوزير و المستشار والحاكم نفسه، و هو المأمون، لم يكونوا مستعدين لقبول الحكم الديني السماوي الذي مثله الإمام الرضا (عليه السلام) بصفته الخليفة الديني و المعين من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) لخلافة الأمة، والمأمون يرى نفسه بقوته وجبروته وسلطانه كأنّ كلّ شيء تحت سيطرته بما في ذلك خليفة الله، و من هنا فالتصادم بين الإمام المعصوم وسلاطين الدنيا لا بد منه، ولم يكن الإمام راغباً في هذا، وإنّما ماهية العصمة والطهارة التي نشأبها الرضا الله لا تنسجم بعمومها مع هؤلاء السلاطين الذين جعلوا الحكم والسلطة غاية ومنتهى لآمالهم وكأنها – أي السلطة – الجنة الموعودة التي يسعى لها كلّ إنسان مسلم و غير مسلم،

في حين أن تنشأة الرضاء (عليه السلام) و موقعه في دائرة العصمة لا تمكنه تمكنا قهرياً من أن ينخدع و ينجذب لمظاهر الملوكية و الذاتية المفرطة التي تتعالى على الناس وكأنهم في ملكويتهم وحكومتهم خلقوا من طينة أفضل من بقية البشر، في حين ، أنّ الأئمة (عليهم السلام) و كما كان جدهم لا يرى أفضلية للأسود على الأبيض، و لا العربي على أعجمي، ولا السيد و عبده، و كان الرضاء (عليه السلام) تجسيداً للعدل والمساواة الإلهية بين الناس، فالسلطة والحكومة عنده وسيلة إلى مبادئ وقيم و مثل، أما السلطة و الحكومة ولذاتها فليست غاية وهدفا له (عليه السلام).

وإنما المهم والغاية عند الرضاء (عليه السلام) الرسالة والمبادئ التي يحملها أجداده(عليه السلام)، فيرى القدرة والقوة والسلطة والحكومة وسيلة وأداة من لإيصال هذه الرسالة وتطبيقها، أو على الأقل الإعلان عن هذه الرسالة وإبلاغها.

لقد كان (عليه السلام) مثقلاً بالمبادئ والقيم، فلا يستطيع التخلي عنها، أو وضعها جانباً فينغمس في شهوات السلطة و الحكم فينسجم مع رغبات المأمون و مع وزرائه و قادته فهم يمارسون دور الحاكم المستبد الذي أغرته الحكومة والسلطة السياسية المجردة من المبادئ والأعراف السماوية، وهو (عليه السلام) يريد أن يقيّد السلطة بإطار الدين والأخلاق والمبادئ، فلا تعني هذه الدنيا لديه شيئاً إن لم ينل المظلوم حقه و يسعد بها أبناؤها،

أليس جد المأمون عبد الله بن العباس حين دخل على علي (عليه السلام) جد الرضاء (عليه السلام) سأله علي (عليه السلام) عن قيمة نعله الذي كان يخصفه، فقال له ابن عباس: لا قيمة لها، فقال علي (عليه السلام) : و الله، لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلا (2).

فورث الرضاء (عليه السلام) هذا النفس والفكر العظيم و الحس الإنساني، فهو يرى نفسه حاكماً إلهيا و مأموراً سماوياً لكي يحقق العدل الإلهي و يمسح دموع المعذبين و الفقراء والمظلومين في الأرض.

وقد قال الرضا (عليه السلام) لواحد من أصحابه: «لو آل الأمر إلى ما تقول، وأنت مني كما أنت، ما كانت نفقتك إلا في كمّك وكنت كواحد من الناس)(3) فهكذا يفهم الرضا (عليه السلام) الحكم والسلطة، فهي خدمة و عدالة ورحمة للرعيّة، و ليست وسيلة للثراء و إشباع المنافع الخاصة ورغبات الأصحاب و الأحبة.

وقد مارس الرضا (عليه السلام) في حياته القصيرة التي أمضاها كولي عهد للخليفة العباسي دور الحاكم العادل الناصح مستهدياً بسيرة جده علي (عليه السلام) الذي ضاقت نفوسهم من عدله و قسطه، فانبروا لتنظيم المؤامرات و الدسائس لقتله، و تنحيته عن مقامه الذي وضعه الله فيه، فعلي (عليه السلام) هذا كعلي (عليه السلام) ذاك لم تكن تملأ نفسه الرئاسة أو ملاذ طعام أو شراب أو فراش وثير والكلّ لديه سواء لا فرق بينهم.

فلم تكن لديه أحاسيس طبقيّة أو علوية أو مشاعر تراتبية، فالجميع لديه متساوون لا يفرق بين أبناء آدم و من هنا روى الصدوق عنه أنه (عليه السلام) كان إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً و لا كبيراً حتى السائس و الحجّام، إلا أقعده على المائدة(4).

و هذا من أكثر أسباب العداوة التي اشتعلت في قلب المأمون وحاشيته من كبار رجال الدولة بما في ذلك ابني سهل، فهم يحكمون بصفتهم سادة و كبراء، و كأن هيبة الملك و السلطان لا تتحقق إلا بالترفع و وضع الدرجات والسلالم الاجتماعية و الطبقية داخل قصورهم و خارجها، في حين أن هذا لا يعني لديه (عليه السلام) شيئاً بل يملأه غيظاً و حنقاً، أن يرى الناس يتعالى بعضهم على بعض و هـم – سلاطين الدنيا – فيكرهون تواضعه (عليه السلام) و حبّه للفقراء و الضعفاء، فتلاقت إراداتهم الشريرة مع ما كان في دواخله من أحزان هذه الدنيا الظالمة التي أراد أن يفارقها و يلتحق بركب الشهداء و الصالحين و زادتـه آلاماً ولايتـه التـي فرضها عليه المأمون.

و كانت معاناة الرضا (عليه السلام) و ما يقاسيه من ولايته التي أجبر عليهـا تسحق قلبه (عليه السلام) و تجعله يئن و يتوجع و كأنه يسير في جادة الموت و الهلاك، و يروي الشيخ الصدوق عن ياسر الخادم بأن الرضا (عليه السلام) كان إذا رجع يوم الجمعة من الجامع و قد أصابه العرق و الغبار رفع يديه و قال: اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت فعجل لي الساعة، و لم يزل مغموماً مكروباً إلى أن قبض صلوات الله عليه (5).

و بالتالي تحقق له (عليه السلام) ذلك بلقاء الله حيث كانت إرادة المأمون بقتله لا تلتقي مع إرادته ورغبته في أن ينفض يديه من غبار و متاع هذه السلطة و الدنيا الفانية فكان لهم ما أرادوا و أراد هو (عليه السلام) ذلك، لتكتب شهادته (عليه السلام).

ويتحدث أحمد بن علي الأنصاري عن سبب شهادته (عليه السلام) فقال: سألت أبا الصلت الهروي – و كان هذا من أصحابه (عليه السلام) – فقلت: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضاء (عليه السلام) مع إكرامه ومحبته إلى الرضا (عليه السلام) و ما جعل له من ولاية العهد بعده؟

فقال: إن المأمون إنمـا كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده ليري الناس أنــه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم و نفوسهم جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً من أن يقطع واحد منهم فيسقط محلـه عنـد العلماء، و بسببهم يشتهر نقصه عند العامة .

فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى و المجوس و الصابئين و البراهمة و الملحدين والدهرية، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين له، إلا قطعه وألزمه الحجة، وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك و يشتدّ حسده، و كان الرضاء (عليه السلام) لا يحابي المأمون من حق، و كان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك، ويحقد عليه ولا يظهر له، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم(6)، ليختم ثامن حجّة وإمام نصبه الله لخلقـه في بقعة مباركة صارت معلماً و رمزاً و مزاراً للعباد، فسلام عليـه يــوم ولد مات و يوم يبعث حياً والحمد لله رب العالمين و صلاته و سلامه على نبينا محمد و على آله إلى قيام يوم الدين.

 

الهوامش

1- الإرشاد للشيخ المفيد 2: 260.

2- نهج البلاغة ص ٧٦ خطبة رقم ٣٣، و كأنه (عليه السلام) كان يلمح من وراء الغيب إلى إمارة أولاده في الأزمنة اللاحقة.
3- قال المجلسي: و هذا كناية عن قلة نفقته بحيث يقدر أن يحملها معه في كمه. بحار الأنوار ١٧١:٤٩

4- عيون أخبار الرضا ١٥٩:٢ ح ٢٤، بحار الأنوار ١٦٤:٤٩ و ج ٣٥:٦٦.
5- عيون أخبار الرضا 2 : 15 ضمن حجيث 34.
6- عيون أخبار الرضا 2: 239 بحار الأنوار 49 : 290.  

 

 

المصدر: الصفحة 160 من كتاب الإمام الرضا عليه السلام، بين نصوص الرسالة وسلطة الرأي والقبيلة / للمؤلف: عادل عبد الرحمن البدري

تحميل الكتاب

الإمام الرضا عليه السلام، بين نصوص الرسالة وسلطة الرأي والقبيلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky