خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / التصنيف الموضوعي / فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق
فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق

فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق

إنّنا نعتقد أنّه وفي ظلّ هذا التداخل والتنوّع الديني في غالب بلدان العالم المعاصر، ممّا لا يمكن تغييره أو تبديله بحكم موازين القوى الفعلية، ولأسباب تاريخية أو غيرها، قد تكون الدعوة إلى عزل المسلمين ومنع اختلاطهم بالآخرين غير عملية ولا ذات جدوى، لأنّ مخاطر الاختلاط والتلاقي إن لم تَطَلْ المسلم في الشارع والمدرسة فإنّها ستطاله في بيته من خلال وسائل الاتصال الحديثة، من “الإنترنت” إلى “الستالايت” وما إلى ذلك.

موقع الاجتهاد: هل يدعو الإسلام إلى القطيعة مع الآخر واجتنابه والتمايز عنه في مواطن السكن وأنماط العيش وسلوكيات الحياة ليعيش المسلمون في مجتمع منعزل عن الآخرين؟

أم أنّه يدعو إلى التعايش مع الآخر والانفتاح عليه ونسج خيوط العلاقة معه بما يحفظ للمسلم هويّته ويَحُول دون انجرافه مع الآخر فكراً وسلوكاً؟

قد نجد في واقعنا من ينظّر لفقه القطيعة والتباعد عن الآخر وضرورة تقسيم البلاد إلى دارين: دار الكفر ودار الإسلام، ويرى هؤلاء أنّ ابتعاد المسلم عن غيره وتواجده في مجتمع المسلمين الخاص بهم، كفيل بحفظ هويته الدينية التي تميّزه عن الآخر إن من حيث العمق والمضمون وما يحمله من اعتقادات أو يقوم به من ممارسات، وإن من حيث الشكل والظاهر وما يختص به من طريقة لبسه وتزيّنه أو نحو ذلك، فهل إنّ هذا النمط من التفكير سليم من الناحية الشرعية وواقعي من الناحية العملية؟

لا إفراط ولا تفريط

قد يكون من نافلة القول: إنّ الدعوة إلى الابتعاد التام عن الآخر أو إبعاده عن دائرة المجتمع الإسلامي لا تملك حجّةً شرعيةً، فالإسلام لا يوافق على “التطهير” الديني كما لا يوافق على “التطهير” العرقي، ويعتبر “التطهير”، عرقيّاً كان أو دينيّاً هو نوعٌ من العصبيّة المذمومة والمحرَّمة.

وفي مقابل ذلك، فإنَّ الدعوة إلى مسايرة الآخر والتماشي معه بما يؤدّي إلى ضياع معالم الشخصيّة الإسلامية وملامحها، والتنازل عن بعض الشعائر، والتغاضي عن بعض المنكرات، وتجاوز حدود الله، هي دعوة مرفوضة، ونعتقد أنّها تنطلق من عقدة نقصٍ وانهزام نفسي أمام الآخر وتفوّقه المادي والتقني.

التعايش مع الآخر

وفي مقابل إفراط أولئك وتفريط هؤلاء فإنّنا نعتقد أنّه وفي ظلّ هذا التداخل والتنوّع الديني في غالب بلدان العالم المعاصر، ممّا لا يمكن تغييره أو تبديله بحكم موازين القوى الفعلية، ولأسباب تاريخية أو غيرها، قد تكون الدعوة إلى عزل المسلمين ومنع اختلاطهم بالآخرين غير عملية ولا ذات جدوى، لأنّ مخاطر الاختلاط والتلاقي إن لم تَطَلْ المسلم في الشارع والمدرسة فإنّها ستطاله في بيته من خلال وسائل الاتصال الحديثة، من “الإنترنت” إلى “الستالايت” وما إلى ذلك، على أنّ هذا النمط من التفكير يستبطن في طيّاته قلة الثقة بالمسلمين أو بالمبادئ والقيم الإسلامية، بافتراض أنّها تهتز في نفس المسلم أمام أدنى احتكاك مع الآخرين.

وعليه، فيكون الأجدى، بدل أن نحوط الفرد المسلم بجدران خارجية تحول دون تواصله مع الآخر، أن نعمل على تحصينه من الداخل وتعزيز ثقته بدينه، ليستطيع مواجهة التحدّيات الفكرية والأخلاقية الضاغطة بكلِّ صلابة الإيمان وروحيّة التقوى.

إنّ الإسلام لا يريد للمسلم أن يعيش حبيس بيته منعزلاً عن الآخرين، ولا يطلب منه أن يبني بينه وبين الآخر جُدراناً، ماديةً كانت أو نفسية، وإنّما يدعو إلى الانفتاح على الآخر والتعايش معه، – أو قلْ إلى العيش معه، لأنَّ كلمة التعايش قد تحمل في مضمونها معنى تكلّف العيش- ولكنّه يريده تعايشاً يحفظ هوية المسلم من التلاشي والضياع.

وقد لا يحتاج الباحث إلى كثير عناء ليكتشف وفرة الشواهد التاريخية والنصوص الدينية والأحكام الفقهية التي تدعو وتحثّ على صنع مناخ التعايش والتلاقي مع الآخرين، سيّما من أتباع الشرائع السماوية، فالإسلام لم يلغِ أهل الكتاب، بل اعترف بهم وبحقوقهم المتنوّعة، بالأخصّ الدينية منها، كحرية المعتقد وممارسة الشعائر والعبادات، وقد أسّس القرآن الكريم أُسُسَ هذا التعايش، معتبراً أنّ الذي يحكم العلاقة معهم هو قانون القسط والعدل وأخلاقية البرّ والإحسان، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8].

وقال أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الأشتر: “وأَشْعِرْ قلبك الرحمة للرعيّة واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”[1].

كما أنّ مجتمع النبيّ (ص) في المدينة كان مجتمعاً متنوّعاً من الناحية الدينية، وقد اعتبر النبيّ (ص) في كتابه الذي يشكِّل أهمّ وثيقة دستورية وقانونية صدرت عنه لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة أنّ اليهود والمؤمنين أمّة واحدة، جاء في ذلك الكتاب: “وإن يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلاّ مَن ظلم فإنّه لا يُوتِغُ- يهلك- إلاّ نفسه وأهل بيته”[2]، وكان مقدّراً لهذا القانون أن يحكم العلاقة مع اليهود على الدوام لولا غدْر اليهود ونقضهم للعهود والمواثيق.

ونشير هنا إلى أنّ نظام الإسلام في العلاقة مع الآخر ليس منحصراً بنظام الذمّة المعبّأ بخلفية سوداوية يحملها الآخرون عن الإسلام بفعل التطبيق السيّئ لهذا النظام في بعض المراحل التاريخيّة، بل إنّ هناك- بنظر جمع من الفقهاء- نظاماً آخر يكفل أن يعيش الناس في ظلّ دولة واحدة تمنح مواطنيها من المسلمين وغيرهم كامل حقوق المواطنة، وهو نظام التعاهد.

وانطلاقاً من هذا، يكون التقسيم الثنائي للبلاد إلى بلاد الكفار وبلاد المسلمين غير دقيق، فهناك قسم ثالث، وهو البلاد المشتركة التي قد يحكمها نظام التعاهد أو ما يُعرف بالعقد الاجتماعي، ويتحوّل الناس في ظلّه إلى مواطنين تجمعهم الأخوّة في الإنسانية، بدل أن يتمّ تصنيفهم والتعامل معهم على أساس انتماءاتهم الدينية والمذهبية.

من أخلاقيات التعاطي مع الآخر

وبالانتقال من القوانين التي ترعى العلاقة مع الآخر إلى أخلاقيات التعاطي معه، نجد حرصاً إسلامياً على التعامل معه على أساس المحبّة والأخوّة الإنسانية:

أ‌- الجدال بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].

ب‌- التزاور، نقرأ في سيرة رسول الله (ص) ما يحثّ على التزاور مع الجار غير المسلم، فقد رُوِي أنّه “كان لرسول الله جار يهودي لا بأس بخلقه فمرض، فعاده رسول الله مع أصحابه”[3]. ولدى مراجعة النصوص الواردة في أدب الجوار وبيان حقوق الجار نجدها مطلقة وشاملة للمسلم وغيره.

ونقرأ في سيرة أمير المؤمنين (ع)، أنّه احتاج إلى الطعام ذات يوم فلم يجد غضاضة من اقتراض ثلاثة أصوع من جاره اليهودي شمعون[4]. وهذا يدلّل على أنّ العلاقات مع غير المسلمين كانت طبيعية جداً بحيث لا يجد عليّ (ع) حرجاً في أن يقترض من جاره اليهودي.

ج- صلة الأرحام، ونلاحظ أنّ الإسلام يأمر بصلة الرحم ولو لم يكن مسلماً، ففي الخبر قلت لأبي عبد الله (ع): يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: “نعم، حقّ الرحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك فإنّ لهم حقّين، حقّ الرحم وحقّ الإسلام”، فإنّه “يدلُّ على أنّ الكفر لا يُسقط حقّ الرحم”. كما قال العلامة المجلسي تعليقاً على الحديث[5].

وأخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعاً: “الجيران ثلاثة: جار له حقّ وهو المشرك له حقّ الجوار، وجار له حقّان وهو المسلم له حقّ الجوار وحقّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق جار مسلم له رحم، له حقّ الإسلام والرحم والجوار”[6].

د- مشايعة صاحب الطريق، وندب الرسول (ص) إلى مشايعة الصاحب في الطريق ولو كان غير مسلم، فعن أمير المؤمنين (ع) “أنّه صاحب رجلاً ذمّياً فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (ع)… فقال له الذمي: لمَ عدلت معي؟ فقال له: هذا من تمام الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيّنا..”[7].

هـ- استرضاع غير المسلمة، ورغم حِرْص الإسلام وتشدُّده في أمر تربية الولد وتغذيته، فإنّه جوّز استرضاع غير المسلمة كما في روايات أهل البيت (ع) ففي الخبر: “هل يصلح للرجل أن ترضع له اليهودية والنصرانية والمشركة؟ قال: لا بأس، وقال: امنعوهم (يقصد المرضعات) من شرب الخمر”[8].

و- الصلاة في معابدهم، وعلى الرغم أيضاً من تشدّد الإسلام في أمر الصلاة ولباس ومكان المصلّي، نجده يسمح للمسلم أن يقيم الصلاة في معابد اليهود والنصارى والمجوس، فعن حكم بن الحكم قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وسئل عن الصلاة في البِيَع والكنائس؟ فقال: صلِّ فيها قد رأيتها ما أنظفها!”[9].

وفي (سبل السلام) للشوكاني: “أنّ ابن عباس كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير، وقد رُوِيت الكراهة عن الحسن ولم يرَ الشعبي وعطاء بن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأساً، ولم يرَ ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأساً، وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة”[10].

إنّ ما نرمي إليه من استعراض الشواهد القرآنيّة والنبويّة والتاريخيّة المتقدّمة، ليس بيان تفاصيل العلاقة مع الآخر، بل تكوين رؤية عامة حول طبيعة العلاقة معه، وتكوين هذه الرؤية من الضرورة بمكان قبل دخول الباحث أو الفقيه في دراسة التفاصيل، وإن كان فقهنا- مع الأسف- لم يدرج على ذلك، فقد أوغل الفقيه في دراسة تفاصيل المسائل المبحوث عنها قبل أن يعمل على اكتشاف النظرية العامة التي تشكّل الإطار المتكامل الذي ينتظم تحته وداخله كلّ التفاصيل، ومن هنا تأتي الفتاوى متناثرةً ومبعثرةً لا رابط بينها وتكثر الاستثناءات والتخصيصات.

والرؤية العامة التي يمكن استنتاجها من كل ما تقدّم، هي أنّ العلاقة التي تحكم المسلمين بغيرهم في الظروف الطبيعية هي علاقة التعايش والتعاون والتجاور والتزاور، لا علاقة التقاطع والتدابر والتناحر، كيف وقد أباح الإسلام للمسلم أن يتزوَّج من الكتابية- على قول مشهور- فكيف يدعوه إلى قطيعة الآخرين ويسمح للمسلم بالتزاوج منهم؟! وهل يطلب من الزوج أن يبني حاجزاً مادياً أو نفسياً بينه وبين زوجته؟

قراءة جديدة في فتاوى القطيعة

إلّا أنّ المتأمل في جملة من فتاوى الفقهاء، يجد أنّها تؤسّس لمنطق الانفصال والقطيعة، من قبيل الفتوى بنجاسة كلّ من ليس مسلماً نجاسة ذاتية مادية[11]، مع ما تعنيه من اجتناب كلّ ما لامسه برطوبة مسرية خشية تنجس بدن المسلم أو ثيابه أو مأكله ومشربه، ومع ما تخلقه في نفس المسلم من حاجز نفسي تجاه الآخر مشفوع بنظرة ازدرائية تتقزّز منه وتتعامل معه كما تتعامل مع الكلب أو الخنزير ولاسيما عندما يقرأ المسلم العادي أو تتلى على مسامعه عبارة “الكافر وأخواه” الواردة في بعض الكتب الفقهية ويقصد بأخويه فيها الكلب والخنزير!

ومن هذا القبيل الإفتاء بحرمة ذبائح أهل الكتاب[12]، ومنعهم من دخول المساجد والمشاهد المشرفة، وعدم تمكينهم من القرآن الكريم وهكذا الفتاوى التي تنفي ثبوت أيّة حرمة لهم، ولذا يجوز سبّهم ولعنهم وغيبتهم ويصل الأمر أحياناً إلى جواز استلاب أموالهم وغير ذلك ممّا تحدّثنا عنه سابقاً، وما نريد أن نثيره حول هذه الفتاوى، على الرغم من احترامنا للقائلين بها، أنّها ليست من المسلّمات الفقهية والضروريات الدينية، لذا يكون من حقّنا الدعوة إلى قراءتها من جديد، ولكنّنا ندعو إلى قراءتها مجدّداً في السياق الذي يراعي الملاحظات المنهجية الآتية، وهي ملاحظات نرى ضرورة اعتمادها في دراسة هذه الفتاوى وأمثالها، تاركين الدخول في التفاصيل للكتب الفقهية.

أولاً: إنّ دراسة هذه الفتاوى لا بدّ أن تتمّ في إطار الرؤية الإسلامية العامة التي تحدّد طبيعة العلاقة مع الآخر، ومن غير السليم دَرْسها بشكلٍ متناثر وبعيداً عن تلك الرؤية التي أسلفنا الحديث عنها، كما إنّ من اللازم استنباط حكم العلاقة بالآخرين من مجمل النصوص والشواهد التي تسلّط الضوء على الموضوع، بما في ذلك الشواهد التاريخية من سيرة النبيّ (ص) والأئمة (ع)، وعدم الاكتفاء بالنصوص الخاصة الواردة في المسألة كما يحصل أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما نلاحظ المعالجة الفقهية لحكم دخول غير المسلمين إلى المساجد، نجد تركيزاً على النصوص الخاصة الواردة في المسألة وإغفالاً للشواهد التاريخية الكثيرة التي تتحدّث عن دخول المشركين أو أهل الكتاب إلى المسجد النبويّ وغيره، وعلى مرأى ومسمع من رسول الله (ص)، كما حصل في قصة نصارى نجران وغيرها[13].

ثانياً: ولا بدّ أيضاً من ملاحظة الوجوه أو الأبعاد المتعدّدة للنص الديني، فإنّ هذا النص ليس دائماً في وارد إعطاء حكم مولوي إلهي يكتسب صفة الدوام والاستمرارية، بل إنّه أحياناً كثيرة يعالج مشاكل ظرفية ويقدّم لها حلولاً وتدابير مؤقتة، كما قيل ذلك في النصوص التي استدلّ بها على نجاسة الكافر، حيث يرى بعض الفقهاء أنّ النجاسة التي تدلّ عليها هذه النصوص “ليست من نسخ ساير النجاسات الناشئة عن قذارة الشيء، بل هي في الحقيقة تحريم سياسي من قبل شارع الإسلام ليتنفّر منه المسلمون..”[14]، ومع قطع النظر عن صحة استنتاجه في هذه المسألة بالخصوص وعن تتمة كلامه الذي لا يخلو من بعض الملاحظات، لكن المبدأ الذي ينطلق منه سليم.

ثالثاً: ومن اللازم أن نضع في الاعتبار ونحن ندرس واقع العلاقة مع الآخر، أنّ الفتاوى المتقدّمة لا ترسم صورة كاملة عن حقيقة العلاقة، بل إنّها قد تكون نتيجة فهم معين للنصّ الديني، وربّما ساهم في تكريس هذا الفهم عوامل عديدة، أهمها التراكمات التاريخية السلبيّة التي غذّتها الحروب ولا سيّما الحروب الصليبية بما تركته من بصمات وجراحات بليغة في اللاوعي الإسلامي، ما أسهم في بناء جدار الانغلاق على الذات وتكوين نظرة إسلامية سوداوية حكمت العلاقة مع الآخر، وكان من الطبيعي أن تُنتج هذه الأجواء السلبية التي أرخت بظلالها على تاريخ العلاقة مع الآخرين حركات إسلامية ذات نزعة تصادمية مع الآخر، خاصّة أنّ سيل الظلامات التي يتعرّض لها الإسلام والمسلمون من الآخر لم ينقطع إلى يومنا هذا.

صور مشرقة ومتبادلة

على أنّ الصورة التي تعكس واقع وتاريخ علاقة المسلمين بغيرهم قد بالغ ويبالغ البعض في تشويهها وتضخيم الجانب المأساوي والمظلم منها، ناسياً أو متناسياً الصور المضيئة، وقد ذكرنا آنفاً عدة نماذج من سيرة النبي (ص) والأئمة (ع) تعكس الجانب المشرق من الصورة، وهو الذي ينبغي اتخاذه قاعدة ومقياساً، لأنّه نابع من مصدر الشرعية الإسلامية، وأكتفي هنا بذكر نموذج إضافي يعكس العلاقة الطيبة والروحية السامية والتسامحية التي كان عليها الرّواد الأوائل من مجاهدي المسلمين، فإنّ هؤلاء المجاهدين “كانوا يتخيرون أحياناً المواقع التي بها كنيسة- مثلاً- فيتخذون من جوارها مدينة يتخذونها حاضرة أو عاصمة لحكمهم، كمدينة تونس.. سميت كذلك لأنّ عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب كان يسمع قرب معسكره أنغام القسس وهم يترنمون في الليل بترانيمهم فقال: هذه البقعة تؤنس فسميت كذلك”[15].

ومن الصور المشرقة التي تعكس احترام الإسلام لكرامة الآخر وتؤسس لقاعدة “شمولية الأخلاق الإسلامية” وعدم قابليتها للتجزئة: ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه كان له “صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذائين ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما، إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟! قال: فرفع أبو عبد الله (ع) يده فصكّ جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله تقذف أمّه! قد كنت أرى أنّ لك ورعاً فإذا ليس لك ورع، فقال: جعلت فداك إنّ أمّه سندية مشركة فقال: أما علمت أنّ لكلِّ أمّة نكاحاً، تنحّ عني، قال: فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما”.

وفي رواية أخرى: “إنّ لكل أمّة نكاحاً يحتجزون به عن الزنا”[16].

وفي المقابل نجد صوراً مشرقة من تعامل أهل الكتاب وخصوصاً المسيحين منهم مع المسلمين وقد حدّثنا القرآن الكريم عن قرب النصارى عاطفياً من المسلمين قال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة: 82].

ويذكر الرحّالة الشهير ابن جبير في رحلته “أنّ النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عزّ وجل فتجب مشاركتهم”[17].

لا تَشَبَّهُوا باليهود

وعلى ضوء الرؤية المتقدمة يلزمنا قراءة ما ورد في النصوص من النَّهي عن التشبُّه بالآخرين، من قبيل ما ورد عنه (ص): “حُفّوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تَشَبَّهوا باليهود”[18]. فمثل هذه النصوص يلزمنا وضعها في السياق المتقدم وقراءتها على هذا الأساس، وإذا قرأناها كذلك قد لا نجد أنّها تؤسس لفقه القطيعة والتمايز الكلي عن الآخر بقدر ما تعالج عقدة نفسية كان يعيشها أهل الجزيرة قبل الإسلام في نظرتهم القائمة على إجلال اليهود والشعور بالدونية أمامهم، باعتبار أنّهم أهل كتاب سماوي، وكانوا يمنّون الناس ويستفتحون عليهم بنبي يبعثه الله فيهم، وقد بقيت آثار هذه النظرة ورواسبها إلى ما بعد الإسلام، فأراد النبي (ص) تحطيم الهالة أو القداسة المصطنعة لليهود في أنظار الناس، وتركيز شخصية المسلمين وتثبيت ثقتهم بأنفسهم وتخليصهم من شعور الدونية المذكور ولو بإيجاد تمايز شكلي مع اليهود.

وهذا ما يؤشر إليه قول أمير المؤمنين (ع) عندما سئل عن قول رسول الله (ص): “غيِّروا الشيب ولا تَشَبَّهوا باليهود”، فقال: “إنّما قال ذلك والدين قُلّ، فأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار”[19]، فيفهم من كلامه (ع) أنّ النبي (ص) إنّما دعا إلى عدم التشبه باليهود عندما كان المسلمون فئة قليلة، والقلّة غالباً ما يتحكّم بذهنها هاجس الكثرة، فتحاول مسايرتها والتشبّه بها وتقليدها ومحاكاتها في كلِّ شيء، أما وقد اتّسع نطاق الدين بكثرة أتباعه “وضرب بجرانه” بتمكّنه واستراحته، فلا قيود على المسلمين، “فامرؤ وما اختار”.

ولا يبعد عن هذا السياق ما ورد عن الإمام الصادق (ع): “أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائه: قل للمؤمنين: لا تلبسوا لباس أعدائي كما هم أعدائي”[20]، فإنّ هذا الخبر مع غضّ النظر عن سنده، لا يريد تأسيس قاعدة عامة بضرورة مخالفة الآخر في كلِّ ما يفعله ويختصّ به على مستوى الأكل والشرب واللباس والسلوك، إذ إنّ الكثير من مآكل ومشارب وملابس الآخرين من غير المسلمين محلَّلة، فهل نتركها مخالفة لهم؟!

ولعلّه لذلك فسّر الشيخ الصدوق الحديث بما يلي، قال: “لباس الأعداء: السواد، ومطاعم الأعداء: النبيذ والمسكر والفقاع… ومسالك الأعداء: مواضع التهمة ومجالس شرب الخمر…”[21].

وحاصل الكلام: إنّ ما يرفضه الإسلام هو الانصهار والذوبان بالآخر فكراً وسلوكاً، بما يفقده هويته وأصالته ويُميّع شخصيّته، إنّه يربأ بالمسلم أن يخجل بهويّته والتزامه ومظهره الإسلامي فينسحق أمام الآخر وحضارته ويميل مع كلِّ ريح متخلِّياً عن دينه وتقاليده، ويدعوه في المقابل إلى أن ينفتح على الآخر، لكن من موقع العارف بدينه وهويته، الواثق بنفسه، المعتزّ بانتمائه إلى الدين الذي يعلو ولا يُعلى عليه حجّةً ومنطقاً عقيدةً وشريعة.

أَخْرِجوا اليهود من جزيرة العرب

وربما اعتبر البعض أنّ قول النبي (ص): “أَخْرِجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب”[22]، يمثّل دليلاً على إقرار الإسلام سياسة التطهير الديني، فإنّنا نعلّق على ذلك:

أولاً: إنّ هذا الحديث لم يثبت عند بعض الفقهاء، يقول الفقيه الكبير السيد الخوئي (رحمه الله): “المشهور بين الفقهاء أنّ على المسلمين أن يُخرجوا الكفّار من الحجاز ولا يسكنوهم فيه، ولكن إتمامه بالدليل مشكل”[23].

لكن يمكن دفع التشكيك السندي بالحديث، وذلك بسبب تضافره وروايته من طرق الفريقين، كما ذكرنا ذلك في كتاب “حكم دخول غير المسلمين إلى المساجد”.

ثانياً: إنَّ من الوارد أن يكون ذلك تدبيراً مؤقتاً ارتآه رسول الله (ص) وأوصى المسلمين بتنفيذه حرصاً على سلامة الدولة الإسلامية الفتيّة من أيِّ عدوان داخلي يعمل على تقويضها، يقوم به اليهود الذين عُرفوا بالكيد للإسلام والمسلمين.

ثالثاً: إنّ الحكم لو ثبت، فهو حكم خاص بهذه البقعة الإسلامية التي تعتبر قاعدة الدولة والحركة الإسلامية ومركز التوحيد وقبلة المسلمين ومكان حجّهم وعمرتهم ولا يمكن إلغاء الخصوصية عنها وإلحاق سائر البلاد بها.

 المصدر: كتاب العقل التكفيري .. قراءة في المفهوم الإقصائي/ الشيخ حسين الخشن

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign