خاص الاجتهاد: عندما كنّا معتقلين في سجون صدام كان التعذيب جزءا لا ينفك من أيام الاعتقال؛ تعذيب يمتد لأربعين يوما تقريبا، كنّا عشرة أشخاص في زنزانة صغيرة يصعب فيها النوم براحة، وكان معنا في السجن رئيس الحزب الشيوعي العراقي، وهناك حاورناه في الماركسية والنظرية المادية، وكنت أطرح عليه عددا من إشكالات الشهيد الصدر”ره”، وكان يعجز عن الجواب، نحنا كنّا طلابا متواضعين ولكن الشهيد الصدر”ره” لم يكن يغفل عن أصغر المسائل، وعندما كان يغوص في مختلف العلوم كان يبحث أولا عن القواعد الأصلية والنظرية فيها.
أقامت شبكة الاجتهاد وبالتعاون مع معهد الشّهيد الصدر التخصصي في قم أمس الخميس مراسم إزاحة الستار عن كتاب ” بايسته هاي حوزه ” (ضروريات الحوزة العلمية؛ كلمات وكتابات الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر حول الحوزة ورجال الدين والمرجعية) باللغة الفارسية وذلك بحضور مستشار قائد الثورة الإسلامية في شؤون العالم الاسلامي وتلميذ الشهيد الصدر “ره”، آية الله الشيخ محمد علي التسخيري والأساتذة وطلبة العلم وأعضاء الهيئة العلمية وعدد من مسؤولي مكتب التبليغ الإسلامي في مشهد المقدسة.
وفي هذه المراسم تحدث التلميذ البارز للشهيد الصدر حول خصوصيات الشهيد ونظرياته العلمية، وقال: لقد دخل المرحوم الشهيد آية الله الصدر “ره” في مختلف العلوم، وترك لنا مصنفات ومؤلّفات قيّمة للغاية، وفي كلّ مجال علمي ورد إليه قدّم لنا نظريات مفيدة في ذلك المجال، ويمكن للنظرية أن تقدم قاعدة كليّة ليُستفاد منها وتُطبّق في الحالات والموارد المتنوعة.
تدريس كتاب “اقتصادنا” في جامعة أم القرى في مكة
كما أشار آية الله التسخيري إلى مكانة كتاب “اقتصادنا” وقال: التقيت يوما الدكتور أحمد محمد علي رئيس بنك التنمية الإسلامية في جدة_ وهو أكثر البنوك التزاما بالأحكام الإسلامية وفق مذهبهم_ فقال لي في هذا اللقاء: عندما كنّا طلابا في الجامعة انتشر كتاب “اقتصادنا” فأوجد تغييرا جذريا وثوريا في فهمنا ونظرتنا للأمور، حتى أنّه أثّر بقوة في الجامعات التي كانت لنا علاقات معها، فجامعة “أم القرى” في مكة وعلى الرغم من اتباعها النهج الوهابي وتأسيسها بهدف نشر فكر هذا المذهب إلا أنّها أجبرت على اختيار كتاب “اقتصادنا” ليُدرّس فيها، وأُجبر الطلاب الذين دخلوا الجامعة بهدف تعلم الفكر الوهابي على دراسة روايات أهل البيت(ع) وسيرتهم العلمية والعملية، وعليه يمكن القول أنّ دخول كتاب “اقتصادنا” إلى جامعة أم القرى يثبت أنّ الشهيد الصدر كان منظّرا من الطراز الرفيع.
نظرية الشهيد الصدر في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم
وعرّج سماحته على أهم الآراء المنطقية للشهيد الصدر “ره” ومبانيه في منطق الاستقراء، ومن ثمّ بيّن أبرز خصائص المنهج التفسيري لهذا المفكر الإسلامي الكبير، وقال في هذا الشأن:
يوجد نوعان من التفسير عموما، تفسير ترتيبي، وتفسير موضوعي؛ في الترتيبي تفسّر السور آية بعد آية وفقا لترتيبها في الكتاب المجيد، أما في التفسير الموضوعي فيكون هناك اختيار لأحد الموضوعات؛ مثلا التقوى، ويشرع المفسّر في شرح وتفسير جميع الآيات الشريفة المرتبطة بالتقوى ليصل إلى النتائج العلمية في هذا الموضوع، ولكن الشهيد الصدر وضع منهجا جديدا في التفسير الموضوعي؛ فقد كان يختار موضوعا ناقشه المنظرون والعلماء بعمق وتوسعوا فيه وقدموا آراءهم حوله، ومن ثمّ يذكر أهم الأسئلة والفرضيات حوله؛ حتى لو كانت نابعة من نظريات إنسانية، ويعرضها على القرآن الكريم، ويجلس بإخلاص تام كتلميذ ممتاز بين يدي القرآن الكريم وآياته الشريفة، يطرح الأسئلة ويتلقى الأجوبة، وفي النهاية يشكّل مجموع هذه الأجوبة نظرية قرآنية، سمّاها نظرية الاستنطاق.
وأضاف الأمين العام الأسبق للمجمع العالمي لأهل البيت(ع): اُستُلهمت نظرية الاستنطاق من كلام مولانا أمير المؤمنين(ع)، الذي قال: “ذلكَ القرآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ”، أي اطلبوا من القرآن أن يحدثكم ويكلمكم من دون أن تضيفوا شيئا من أنفسكم، “هو لَنْ یَنْطِقْ…” أي أنّ القرآن لن يتكلم إليكم من دون عناء أو جهد تبذلونه؛ بل يجب أن تتحلوا أولا بصفاء النفس، وثانيا بالقوة العلمية التي تمكنكم من معرفة أبعاد السؤال، ومن ثمّ اطرحوا ما لديكم من أسئلة، وإذا ما حصل الأمر على هذا المنوال حينها سوف تحصلون على ما تَرُومُونَه من أجوبة من القرآن الكريم.
مشاكل البشرية الاقتصادية في فكر الشهيد الصدر
وتابع تلميذ الشهيد الصدر”ره” حديثه بالإشارة إلى حقيقة أنّ الاقتصاد هو أحد أهم ما تتعرض لها البشرية اليوم من مشكلات وتحديات، وتابع قائلا: يقول توماس روبرت مالتوس “إن مشكلة الاقتصاد هي أنّ النمو البشري أسرع بكثير من نمو الطبيعة”، أي أنّ نمو الطبيعة لا يمكنه أن يلبي الاحتياجات المتزايدة للبشر، وعليه يقول البعض بأنه يجب علينا إمّا أن نفكر في إنقاص معدل نمو عدد سكان الأرض، أو أن نجد طريقة تدفع نمو الطبيعة لتوازي وتساوق النمو البشري، ومثل هذا التفكير له آثار كارثية في المجال الاقتصادي، ولكن الشهيد الصدر”ره” يقول:
لقد قدم لنا القرآن الكريم جوابا واضحا للغاية «وَسَخَّرَ لَکُمْ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ»، ويذكر آيات من نعم الباري تعالى حتّى يصل إلى الآية الشريفة «وَآتاکُمْ مِنْ کُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ» فالباري تعالى وضع في الطبيعة جميع ما يحتاجه الإنسان، فالشهيد الصدر كان يذكر الآيات التي تبدأ بكلمة “سخّرَ” وكان يذكر جميع تلك النعم الإلهية التي وضعت في خدمة الإنسان، ومن ثمّ يسأل: ولكن أين المشكلة؟ ويجيب بأن المشكلة تتمثل في أنّ بني البشر لا يعدلون في توزيع النعم، كما أنّهم يكفرون بها «إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ کَفَّار» وظلوم صيغة مبالغة، ويستمر الشهيد الصدر في تطوير هذه النظرية نعم القرآن الكريم ليس كتاب قانون، وليس كتابا في علم الاقتصاد، ولكن في هذا الطريق يمكن تقديم بعض النظريات العلمية.
رئيس الحزب الشيوعي العراقي يعجز عن نقد آراء الشهيد الصدر
كما تحدث عضو مجلس خبراء القيادة في إيران حول ذكريات الاعتقال في زمن صدام والنظام البعثي في العراق؛ فقال: عندما كنّا معتقلين في سجون صدام كان التعذيب جزءا لا ينفك من أيام الاعتقال؛ تعذيب يمتد لأربعين يوما تقريبا، كنّا عشرة أشخاص في زنزانة صغيرة يصعب فيها النوم براحة، وكان معنا في السجن رئيس الحزب الشيوعي العراقي، وهناك حاورناه في الماركسية والنظرية المادية، وكنت أطرح عليه عددا من إشكالات الشهيد الصدر”ره”، وكان يعجز عن الجواب، نحنا كنّا طلابا متواضعين ولكن الشهيد الصدر”ره” لم يكن يغفل عن أصغر المسائل، وعندما كان يغوص في مختلف العلوم كان يبحث أولا عن القواعد الأصلية والنظرية فيها.
طرح نظرية “المرجعية الرشيدة” من قبل الشهيد الصدر
وفي جزء آخر من كلمته نوّه آية الله التسخيري بأفكار الشهيد الصدر “ره” في باب نظام المرجعية والحوزة العلمية، وقال في هذا الشأن: من أفضل النماذج التي تثبت أنّ المرحوم الشهيد الصدر “ره”كان منظّرا ممتازا هو نظرياته المتعلقة بالحوزة العلمية، وضرورة مأسسة المرجعية، فقد كان يطالب بألا تكون مسألة المرجعية جهدا فرديا يحتاج الوصول إليه إلى وقت طويل، بحيث يبذل العالم جهودا جبارة وسنوات طوال وربما يصبح في آخر عمره مرجعا علميا أو لا يصل إلى ذلك، وفيما يتعلق بالمرجعية فقد طرح مسألة “المرجعية الرشيدة” وهي المرجعية الملمّة بالمسائل السياسية والاجتماعية المعاصرة، والتي بمقدورها وضع الحلول الناجعة لمشكلات الناس.
ولفت سماحته إلى الآراء الإصلاحية للعلامة الشهيد حول الكتب الدراسية الحوزوية بقوله: لقد دعا المرحوم الشهيد إلى ضرورة إصلاح الكتب الحوزوية وتطويرها؛ بل وحتى إصلاح الرسائل العملية، وكان يقول في كتاباته: عدّلوا الجزء الفلاني من الرسالة العملية حتى يستطيع الجميع الاستفادة منها بالشكل الأمثل،
فمثلا يبحث المكلف في الرسالة العملية عن حكم إسقاط الجنين هل هو حلال أم حرام، فأين يمكنه أن يجد جواب مسألته؟ فالمرحوم الشهيد غيّر ترتيب الرسالة العملية فباتت تضم أربعة أقسام: العبادات، والمعاملات، والسلوك الفردي، والسلوك الاجتماعي، وهذا ما طبّقه عمليا في رسالة “الفتاوى الواضحة”، وفي مقدمتها أورد الشهيد”ره” بحثا جميلا بموضوع العلاقة مع المرسل والرسول والرسالة، وفي نهايتها أورد بحثا حول العبادات، فيه يطرح عددا من الأسئلة المهمة، ومنها: لماذا لم تتغير العبادات في عصر الفضاء والتطور العلمي الهائل عمّا كانت عليه في العصور القديمة؟ فيجيب بأنّ هذا الأمر تابع لاحتياجات الإنسان، والعبادة تلبي هذه الاحتياجات، وحاجة الإنسان فيما يتعلق بالخالق لا تتغير مع تغير العصور والأزمان.
حلقات الشهيد الصدر خطوة في طريق إصلاح الكتب الحوزوية
وأضاف آية الله التسخيري: جاء كتاب الحلقات للشهيد الصدر في إطار تطوير الحوزة العلمية، فقد كان يقول: كل كتاب ندرسه في الحوزة يعبّر عن فكر مؤلّفه؛ فالكتاب لم يؤلّف بهدف التدريس، بل وضعه مصنّفه ليعبر عن أفكاره وآرائه، والشهيد الصدر في الحلقات الثلاث عالج وحلل جميع المسائل في الذهن تحليلا ممتازا، وبيّنها عبر ثلاثة أسطح، والإنسان يشعر بوضوح أنّ شخصا عالما متبحرا هو من قام بمعالجة وتحليل هذه المسائل.
وأشار رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية إلى خطاب سماحة السيد قائد الثورة الإسلامية الموجه إلى مؤتمر تكريم آية الله السيد محمد باقر الصدر”ره”، وقال مخاطبا الحضور: دعا السيد القائد في خطابه طلاب الحوزة العلمية الشباب أن يتخذوا الشهيد الصدر”ره” أسوة لهم سلوكهم وفي حياتهم العلمية، ولا شكّ أنّ الشهيد الصدر يمثّل أسوة حسنة للطلاب الشباب.
ونوّه آية الله التسخيري في نهاية كلمته بالكتاب المنتشر حديثا “الحوزة والمتطلبات” (بالفارسية: حوزه وبایستهها)، أقوال وكتابات الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر حول الحوزة وعلماء الدين والمرجعية” إعداد سماحة السيد أميد مؤذني، وأضاف: عند السيد مؤذني معرفة ممتازة بفكر الشهيد الصدر”ره”، وأنا على ثقة أنّ هذا الكتاب سوف يكون مفيدا لطلاب الحوزات العلمية، وأنا متيقن أنكم سوف ترون هنا أيضا دليلا جديدا على أنّ الشهيد الصدر “ره”كان منظّرا بارعا في الأمور العلمية والعملية.
http://ijtihadnet.net/%d8%ae%d8%a7%d8%b5-%d8%a5%d8%b2%d8%a7%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d8%b1-%d8%b9%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a8%d8%a7%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d9%87-%d9%87%d8%a7%d9%8a-%d8%ad%d9%88/