الاجتهاد: في موضوع كالمثلية الجنسية، لم نعُد أمام فعل فردي بسيط؛ بل بتنا أمام ظاهرة مركَّبة يشترك فيها الثقافي والسياسي والفكري والعلمي بالإضافة إلى المنظور الديني، بل إن المثلية الجنسية تحوَّلت من فعل إلى هُويَّة
أشرتُ في المقال السابق إلى أربعة مداخل لمعالجة “المثلية الجنسية” هي: الأخلاقي والحقوقي والفقهي والطبي، وقلت: إنه يمكن ردُّها إلى مدخلَيْن رئيسَيْن: فقهي -وقد خصَّصت له المقال السابق- وأخلاقي وهو موضوع هذا المقال.
وربما يرى فريقان من الناس أن الموضوع نفسه لا يستحقُّ كل هذا النقاش المفصل؛ لأن المثلية الجنسية لدى فريق هي مجرَّد شذوذ، ولدى آخر هي حرية شخصية.
ولكن إذا ما نظرنا إلى مناقشة الموضوع في حقول علمية مختلفة (منها الفقه الإسلامي كما أوضحتُ في المقال السابق)، نجد أن العلماء من كل تخصُّص وجدوا أن ثمة حاجة إلى مناقشته تفصيلًا، بل والتصنيف فيه؛ ما يعني أن ذلك الاعتقاد بأن الموضوع لا يستحقُّ المناقشة مختلف عن تصورات العلماء في حقول مختلفة، كالطب والتاريخ والفقه والأخلاق وغيرها.
تقوم المقاربة الأخلاقية على منظور مركَّب للفعل والفاعل والسياق الذي يتحرك فيه الفاعل ويتحقَّق فيه الفعل، ويستلزم هذا الإلمامَ بمختلف جوانب الموضوع؛ ما يعني أننا سنكون بحاجة إلى الاستعانة بجزئيات متعدِّدة تنتمي إلى تخصُّصات عدَّة.
وفي موضوع كالمثلية الجنسية، لم نعُد أمام فعل فردي بسيط؛ بل بتنا أمام ظاهرة مركَّبة يشترك فيها الثقافي والسياسي والفكري والعلمي بالإضافة إلى المنظور الديني، بل إن المثلية الجنسية تحوَّلت من فعل إلى هُويَّة، وقد فرض هذا التحوُّل تغيراتٍ عدَّة أثَّرت في تقويماتنا الأخلاقية لها واستدعت تطوير حجج أخلاقية مختلفة ملائمة لهذه التطورات.
ولتوضيح ذلك سأتناول ثلاثة محاور: التسمية أو المصطلح المعبَّر به عن هذا التوجُّه، وهل المثلية اختيار أم طبيعة؟ ثم المثلية بوصفها هُويةً.
هل هي مثلية أم شذوذ؟ ففي حين أن الجانب المؤيد يستعمل لفظ “المثلية الجنسية”؛ لأنه يخلو من الوَصْم والتمييز ضدهم، يستعمل الجانب المُنكِر لفظ “الشذوذ الجنسي” بوصفه اللفظ الوحيد الدالَّ والمُعبّر عن هذا الفعل؛ لأنه شذوذ عن الفطرة.
أولًا: جدل التسمية: مثلية أم شذوذ؟
تثير التسمية المستخدمة هنا إشكالَيْن:
الأول: هل هي مثلية أم شذوذ؟ ففي حين أن الجانب المؤيد يستعمل لفظ “المثلية الجنسية”؛ لأنه يخلو من الوَصْم والتمييز ضدهم، يستعمل الجانب المُنكِر لفظ “الشذوذ الجنسي” بوصفه اللفظ الوحيد الدالَّ والمُعبّر عن هذا الفعل؛ لأنه شذوذ عن الفطرة.
الثاني: أن بعض الناس يستنكر أيضًا تسمية اللواط واللوطي؛ لِما فيها من نسبة هذا الفعل المنكَر إلى نبي الله لوط عليه السلام.
أما تسمية اللواط فقد ارتضاها عامَّة العلماء عبر التاريخ من غير خلاف نعرفه؛ ونجد هذا في فروع مختلفة كاللغة والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وغيرها، بل إن الكتب المفردة التي أشرت إليها في المقال السابق صريحة في استعمال تعبير اللواط.
ولهذا التعبير مشروعية لغوية من جهتَيْن:
الجهة الأولى: الاشتقاق اللغوي. فاللواط لفظ عربي يحيل إلى أمرين: الحب والإلصاق، وإن كان ابن فارس اللغوي (ت395هـ) قد جعلهما أصلًا واحدًا هو “اللصوق”. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ): “وكل شيء ألصقته بشيء فقد لُطْتَه به”، ومنه قول العرب: لاط الشيءُ بقلبي أي لصق حبُّه بالقلب، والولد أَلْوَط بقلب أبيه. أما الراغب الأصفهاني فقد قال: “اشتُق من لفظ لوطٍ الناهي عن ذلك، لا من لفظ المتعاطين له”.
الجهة الثانية: أنه جارٍ على الأساليب اللغوية والشرعية، فمثل هذا الاستعمال مألوف في الألفاظ الشرعية كاستعمال التحنث بمعنى التعبد رغم أن أصلها من الحِنْث وهو الإثم، ولكن المتحنث يختلي لينفي عنه الإثم، وكاستعمال لفظ الإسرائيليات وهي نسبة إلى إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب، ولكنها استعملت للدلالة على ما روي عن اليهود قوم إسرائيل، وعليه استعمل اللواط للدلالة على فعل قوم لوط الذي اشتُهروا به.
وبعيدًا عن الجانب اللغوي، فإن لفظ “الشذوذ” لفظ تقويمي (أو تقييمي) ينطوي -في هذا السياق- على وصمٍ وتعييرٍ قد يؤدي إلى استباحة الموصوف أو تبرير التعدي عليه خارج إطار القضاء وإجراءاته الصارمة. ثم إن الشذوذ اسمٌ مستعمل في علوم اللغة والحديث والفقه للدلالة على الأشياء والأفكار الشاذة لا صفة للأشخاص والأعيان، ومن هنا يقال: حديث شاذ، وفتوى شاذة، ولفظ شاذ.
أما لفظ اللواط فهو وصفي لا تقييمي، ويشبهه في الوصفية لفظ المثلية.
وتسمية اللواط تشمل أمرين: (1) الفعل (2) والباعث على الفعل:
فمن جهة الفعل، اللواط إلصاق حِسي، ومن هنا استعمل أهل اللغة تعبير “لاَطَ الرجلُ لِوَاطًا ولاَوَطَ”، أي: عَمِل عَمَل قوم لوط، بل إن الفقهاء سموا إتيان الرجل المرأةَ في دبرها لواطًا أيضًا، ومايزوا بين الفعلَيْن فجعلوا إتيان الرجل الرجل “اللوطية الكبرى”، وجعلوا إتيان الرجل المرأة في دبرها “اللوطية الصغرى”، وهذه الأخيرة تسمية وردت عن ابن عمر رضي الله عنه من قوله (ورُويت مرفوعة ولا تصحُّ حديثًا).
ومن جهة الباعث على الفعل، فمدلول اللواط يتحقَّق بالحب أو الاشتهاء للذكر، وهو ما وصف الله به قوم لوط عليه السلام حين قال: (إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء).
ولكن المسألة لا تقف عند حدود التسمية هنا، فالنقاش حول اللواط كان يقوم حول فعل (Action)، والأحاديث النبوية الواردة في سياق الموضوع إنما تتحدَّث عمَّن يفعل “فعل قوم لوط” الذين وصفهم القرآن بأنهم يأتون “الفاحشة”: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِين)، وأنهم يأتون في ناديهم المنكر: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)، وأنهم عابوا على آل لوط أنهم: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
أما الصراع الدائر اليوم حول الشذوذ والمثلية فهو يحيل إلى التحولات الحديثة التي طرأت على الفعل نفسه الذي صار يعبّر عن هوية جنسية (Sextual Identity)، وقد فرض هذا التحوُّل تأثيرات واضحة على الموضوع نفسه، سواء لجهة توصيفه الطبي أم لصلته بالطبيعة البشرية، وهي مسألة تفرض إعادة التقويم الأخلاقي للفعل نفسه بوصفه فعلًا طبيعيًّا أو رغبة مشروعة يجب إشباعها، أو لجهة الحديث عن حقوق للمثليين، وصولًا إلى الضغوط السياسية للقبول بكل هذه المنظومة، وهو ما سأناقشه هنا.
كان التصنيف الكلاسيكي للمثلية الجنسية أنها حالة مَرَضية، وقد استمرَّ ذلك لعقود تمتدُّ لنحو قرن إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في سنة 1990م حذف المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية
ثانيًا: المثلية: اختيار أم طبيعة بشرية؟
كان التصنيف الكلاسيكي للمثلية الجنسية أنها حالة مَرَضية، وقد استمرَّ ذلك لعقود تمتدُّ لنحو قرن إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في سنة 1990م حذف المثلية الجنسية من قائمة الأمراض النفسية، بل أصبح يوم 17 مايو/أيار من كل عام يومًا لتنظيم مسيرات مؤيدة للمثلية في مدن مختلفة من العالم، وانتقلت المثلية من حالة العيب والعار الأخلاقي والاجتماعي (منظور الفعل) إلى حالة الإظهار بل والافتخار تحت مسمى لافتة محاربة “رهاب المثلية” (منظور الهوية).
وفي هذا الإطار كان ثمة محاولات لإعادة تفسير السلوك المثليّ الجنسيّ من منظورات علمية، ويمكن أن نرصد هنا أطروحتَيْن مركزيتَيْن:
الأطروحة الأولى: ترى أن المثلية الجنسية اختيار شخصي (Moral Choice). ففئة من الناس تختار أن تكون كذلك ولا تولد به، ومن ثَمَّ فالمثلية لا تنطوي على أي نوع من الجبرية، سواء كانت جبرية سيكولوجية أم فيزيولوجية. بل إن أصحاب هذا التصور يؤكدون على السمة الاختيارية في الفعل، وهو الأمر الذي تعبّر عنه الظاهرة الاحتفالية بهذا التوجُّه، حيث تخرج المسيرات المشار إليها سابقًا لإظهار نفسها وتأكيد اختيارها، والمطالبة بما سُمي “المساواة في التنوع”.
ومن المفارقة أن الإلحاح على كون المثلية اختيارًا مسألةٌ محل اتفاق بين المؤيدين للمثلية والمعارضين لها على حدٍّ سواء. فالمؤيدون يرون أن إثبات أي نوع من الجبرية فيه انتقاص من حرية اختيار المثليّ التي يعتدّ بها ويسعى من خلالها إلى إثبات أنه شخص طبيعي (وليس شاذًّا)، وعلى أساسها يطالب بحقوق مساوية للتوجُّه الجنسي الموصوف بأنه “طبيعي”.
أما الذين يعتبرون أن المثلية شذوذ فيرون أن المثليّ مسؤول عن أفعاله، وإثبات نوع من الجبرية سيؤدي إلى إسقاط المسؤولية الأخلاقية عنه؛ في حين أنه يستحق الذَّم بل والعقاب؛ لأجل سلوكه المُشين.
الأطروحة الثانية: ترى أن المثلية الجنسية سمة “طبيعية” لدى فئة من البشر، وليست مضادّة للطبيعة الإنسانية. فالطبيعة الإنسانية تحتوي -بحسب هؤلاء- على تنوع جنسي (Sexual Diversity)، فالمثليّ يولَد ولديه ميل جنسي للجنس نفسه؛ فهو لا يختاره ابتداءً،
وفي هذه الأطروحة الثانية يمكن أن نميز بين توجهَيْن:
التوجُّه الأول: الجبرية العصبية (Neurological Determinism)، وأبرز ممثلي هذا التصور ديك سواب (Dick Ferdinand Swaab) الذي جادل في كتابه (We Are Our Brains) بأنه ليس لدينا سوى مساحة محدودة جدًّا من التحكُّم في قراراتنا اليومية أو فيما يتعلق بما سنكونه في المستقبل؛ لأن أدمغتنا تحدد مسبقًا كل شيء عنا قبل ولادتنا، سواء فيما يتعلق بشخصيتنا الأخلاقية أم بميولنا الدينية.
ويرى سواب أن هناك صلة بين تشريح الدماغ والميل الجنسي (Sexual Orientation)، ومن ثَمَّ فإن البشر يولدون على إحدى فئتَيْن: مثليّ (Homo) وغيريّ أو مغاير (Hetero)، وأن هذه الطبيعة هي التي تحدد ميول الإنسان الجنسية. وقد أثارت هذه الخلاصة غضبَ المثليين، حتى إن سواب أفاد بأنه تلقى تهديدات بالقتل من أفراد يعتقدون أن حجَّته العلمية تحاول “إضفاء طابع مَرَضي” على سلوكهم.
التوجُّه الثاني: الجبرية الجينية (Genetic Determinism)، وهو تصور يقوم على أن العنصر الحاسم في تكوين الطبيعة البشرية هو الجينات، والصيغة الأشد تطرفًا في التعبير عن هذا هي تلك التي تختزل الإنسان في مجموع جيناته (we are nothing but our genes). وبناءً على هذا التصور، ليست الميول الجنسية إلا جزءًا من هذا التكوين المعقَّد للطبيعة البشرية الذي تتحكَّم فيه الجينات التي تصوغ سلوكياتنا وتفسرها أيضًا.
يحيل هذان التصوران المتغايران حول تحديد “الطبيعة البشرية” إلى أحد عنصرين: إما الدماغ أو الجينات، وهي صيغة متطرفة من الجبرية العلمية التي تضيق معها مساحة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان عن أفعاله واختياراته، وتثير الكثير من الإشكالات الدينية الكلامية (التكليف) والقانونية (الأهلية القانونية) والمسؤولية الأخلاقية (الاستقلالية التي هي أساس أي فعل أخلاقي).
وتعيدنا هذه الجبرية إلى السؤال الفلسفي اليوناني حول طبيعة الأخلاق الإنسانية، بمعنى صفات ومَلَكَات النفس التي هي جوهر قائم بذاته وعنه تصدر أفعال الإنسان التي تحرِّكها قوى النفس المختلفة.
سبق لفلاسفة اليونان وفلاسفة الإسلام أن عالجوا مسألة اختلاف طبائع البشر وإمكان تغيير صفات النفس وأخلاقها التي وُلِدَ الإنسان عليها (ثنائية الغريزي والمكتسب)، وكان ثمة رأي هامشي يقول بالجبرية وعدم إمكان التغيير، ولكنه لقي نقدًا شديدًا، وساد -في نهاية الأمر- القول بإمكان تغيير أخلاق النفس عبر وسائل عدَّة مثل التربية والتعليم والتعوُّد،
ولأجل هذا وُجدت التشريعات وأُرسل الرسل وقامت وظائف التأديب ومؤسسات التعليم، وبناءً على هذا تكثفت النقاشات حول الفضائل الأخلاقية التي شغلت معظم مساحة النقاش في الفلسفة الأخلاقية الكلاسيكية اليونانية والإسلامية، التي هدفها إصلاح أخلاق الإنسان (أي صفات نفسه الرذيلة وتنمية صفاته الحميدة) ووسائل ذلك.
وأطروحة “تهذيب النفس” التي يشترك فيها علماء من تخصُّصات مختلفة (الفلسفة الأخلاقية والتصوف والفقه) أطروحة مركزية هنا، فهم وإن اختلفت منظوراتهم يتفقون على عدم اتباع النفس لشهواتها وغرائزها التي توصف بأنها “طبيعية”؛ لأنه يتعيَّن على الإنسان أن يسوس نفسه بما هو “كسبي” لتعتدل قوى نفسه ويكتسب الفضائل ويجتنب الرذائل؛ لأن الهدف الأسمى للإنسان هو تحصيل السعادة عبر تحصيل كمال النفس وإصلاح نقائصها، وإلَّا فميول النفس ورغباتها لا تقف عند حدّ، فما الذي يميز الميل نحو الجنس المماثل عن ميول ورغبات كثيرة تطرأ على النفس، ومجرد التراضي بين الطرفَيْن ليس كافيًا لتسويغ أي ممارسة.
ثالثًا: المثلية بوصفها هوية جنسية
يندرج فعل قوم لوط ضمن المثلية الجنسية؛ ولهذا عبَّر القرآن بوضوح عن هذا فقال: (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون)، ووصفه بأنه جهالة وفاحشة ومنكر وإسراف، ومن الواضح أن قوم لوط كانوا يستعلنون بتلك الأفعال ويتفاخرون بها أيضًا؛
ولهذا سخروا ممن يستنكرون عليهم فعلهم بأنهم قوم يتطهرون، الأمر الذي أثار إشكالًا لدى بعض المفسرين؛ إذ إن المعهود من أهل الرذائل أن ينكروا فعلها، أو أن يسموها بغير اسمها مخافة تعييرهم بها اجتماعيًّا، فكيف يشهد قوم لوط على آل لوط بأنهم قوم يتطهرون؟ لم يجد الإمام الزمخشري (ت538هـ) جوابًا عن هذا سوى أنه سخرية ممن يتنزهون عن أدران الفواحش، وافتخارٌ بالفاحشة نفسها، وهذا معهود من المجاهرين؛ إذ كان قوم لوط يأتون هذه الفاحشة في نواديهم.
وهذا يعني أن قوم لوط بلغوا الدرجة العليا من الفحش؛ لأن الرذائل دركات كما أن الفضائل درجات،
وقد جعل رشيد رضا هذه الدركات خمسًا هي:
الأولى: أن يأتي الشخص الرذيلة وهو يشعر بقبحها ويلوم نفسه عليها ثم يتوب إلى ربه منها.
الثانية: أن يعود إلى الرذيلة المرة بعد المرة مستترًا مستخفيًا.
الثالثة: أن يصرَّ عليها حتى يزول شعوره بقبحها.
الرابعة: أن يجهر بها ويكون قدوة سيئة للمستعدين لها.
الخامسة: أن يفاخر بالرذيلة أهلُها، ويحتقروا من يتنزهون عنها، وهذه أسفل الدركات وهي درجة قوم لوط.
والمتتبع لتطورات التعامل مع المثلية الجنسية وصولًا إلى الاحتفاء والتظاهر بها والمطالبة بحقوق للمثليين ليس له معنى سوى الدرجة الخامسة هنا، وهو نتاج ما قلته عن التحوُّل من الفعل إلى الهوية، أي الفاعل الذي يرى أن مثل هذه الأفعال تعبير عنه وجزء من شخصيته. ويمكن أن نرصد هنا عدَّة أمور في هذا التحوُّل من الفعل إلى الهوية وهي:
الحديث عن هوية جنسية (Sextual Identity) يعني أننا بتنا نتحدَّث عن مجموعات لا عن أفعال أفراد توصف بأنها منكر أو خطأ أو انحراف يتطلب التهذيب والإصلاح بخطاب أخلاقي يكبح مثل هذه الشهوة الخارجة عن قانون الجنس البشري الذي يُراد تغييره.
الحديث عن تنوع جنسي يتضمَّن أقلية تعرِّف نفسها على أساس جنسي في الإجابة عن سؤال (مَنْ أنا؟)، يقود إلى خطاب حقوقي للمنتمين إلى هذه الهوية من مداخل، كالتنوع والمساواة وحرية الاختيار، يواكب ذلك تعديلات علمية تتم بإرادة سياسية وتفتقر إلى النزاهة.
في الحديث عن الفعل ينحصر النقاش في حدود رفض هذا الفعل دون أن يتجاوز ذلك إلى الحديث عن الفاعل، بينما ينقلنا الحديث عن هوية جنسية إلى إلغاء تلك المسافة، ما يجعل من رفض الفعل رفضًا للفاعل نفسه، ومن ثَمَّ يتم إرهاب الأكثرية الرافضة للمثلية الجنسية بدعوى أن لديها “فوبيا المثلية الجنسية” (Homophobic).
خطاب الهوية الجنسية هو خطاب سياسي أيضًا تواكبه تغييرات يتم إملاؤها في ميادين العلم والتشريعات القانونية والأخلاق، وهذا حوَّل المثلية إلى جزء من خطاب القوة والهيمنة بين جانب “تقدمي” وآخر “رجعي”، ومن ثَمَّ فإن خطاب الهوية يستدعي خطاب المقاومة في مواجهة هذه الهيمنة، في حين أن الحديث عن فعل كان جزءًا من التقويمات الأخلاقية الخاصة بالمعروف والمنكر، والشهوة والعفة، والفضيلة والرذيلة.
الحديث عن هوية هو محاولة لإضفاء قيمة على النضال من أجل تحصيل لذات وشهوات في واقع الأمر، وإدراجها ضمن مفهوم الاستقلالية (Autonomy) الذي تسعى هذه الأطراف النافذة من خلاله لفرض تشريعات وإعادة بناء التقويمات الأخلاقية لهذا الفعل بأدوات سلطوية، وهي محاولة لرسم صورة جديدة مغايرة لما نعرفه عن الطبيعة الإنسانية.
لم يكن النشاط الجنسي في يوم من الأيام تعبيرًا عن هوية إنسانية
لم يكن النشاط الجنسي في يوم من الأيام تعبيرًا عن هوية إنسانية؛ فالنقاشات الفلسفية كانت تتمحور حول السمة التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات بحيث تبرهن على تفوُّقه على باقي المخلوقات، وكانت السمات المطروحة لتميزه تتراوح بين اللغة، والعقل والتفكير، والأخلاق، بل إن الفلسفتَيْن اليونانية والإسلامية قد اعتبرتا أن الشهوات أو (النفس الشهوية) هي أدنى قوى النفس، وأعلاها هي النفس الناطقة (أو العاقلة)، كما أن الفلاسفة والفقهاء والمتصوفة قد ضيقوا مساحة الشهوات؛ لأنهم جميعًا اعتبروها خارجة عن تعريف الطبيعة الإنسانية التي هي غائية، هدفها تحصيل الكمال أو الحكمة أو السعادة على اختلاف تصوراتهم لها.
ففي حين أن الفلاسفة والمتصوفة كانوا يرون أن ضابط الشهوات هو الحد الأدنى (ما لا بدَّ منه) لتحصيل الحكمة، رأى الفقهاء أن ضابطها هو الاعتدال الذي يحدِّده قانون الشرع، وههنا مسائل شديدة الأهمية في المحافظة على الطبيعة الإنسانية من منظور أخلاقي:
أن أطروحة تهذيب النفس تسلم ابتداءً بأن الإنسان مجبولٌ على حب الشهوات، ولكن عليه ألَّا يستسلم لها، وأن يضبطها بقانون الفضيلة (الفلسفي والديني).
فإذا وقع منه خلل بناءً على مقتضيات غريزته، فعليه ألَّا يسترسل معها وأن يضبطها بالقوة الناطقة عند الفلاسفة، وبالوازع الشرعي عند الفقهاء، وبقمع شهوات النفس عند المتصوفة؛ ولهذا اعتبر الفقهاء أن الإصرار على فعل الصغيرة كبيرة وصيَّر المتصوفة بعض المباحات حرامًا؛ من باب التأدب وتهذيب النفس لتعويدها الفضيلة. وإهمال هذه المسائل في التعاطي مع النفس يقود إلى تغيير على مستوى طبيعة الإنسان الفاعل، وإلى تجاوز مستوى الفعل الناشز المعزول إلى صياغة ذاتية إنسانية جديدة، ومن هنا كانت المداومة على الطاعة والتعوُّد عليها أحد سُبل تهذيب النفس طلبًا للفضائل.
أن إتيان الخطأ مع الإقرار بأنه خطأ سلوكٌ طبيعيٌّ من الإنسان؛ لأنه خطَّاء، ولكن استباحة الحرام عبر إحداث تغيير على مستوى تقويم الفعل نفسه وشرعنته، سيقود إلى التلاعب بالمعايير الأخلاقية، ومن ثَمَّ سيتم التغيير على مستوى طبيعة الشخص نفسه لا أفعاله؛ ولهذا رأى الفقهاء أن الشبهات أخطر من الشهوات، وأن استباحة الحرام تؤدي إلى الكفر.
أن ضبط الشهوات وكبح جماح النفس وَفْقَ قانون الشريعة سيقود إلى صياغة الذات الإنسانية صياغة أخلاقية حتى يكون المكلف عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا، وضبطها وفق قانون الاعتدال الفلسفي (كما عند أرسطو) يقود إلى تحصيل الحكمة والسعادة.
الوقوف عند مستوى النفس الشهوية وتغلبها على باقي قوى النفس، يعني النزول بمستوى الإنسانية إلى مستوى الحيواني الغريزي، بل إن الاختلاف بين جنسي الإنسان والحيوان يستلزم الاختلاف في النوع أيضًا وإن اشتركا في جنس الغريزة الحيوانية، وقد قادت المقارنة بين الإنسان والحيوان في النشاط الجنسي بعض النقاشات الإسلامية الكلاسيكية إلى صيغتَيْن مختلفتَيْن للإنكار على المثلية.
رأت الأولى منهما أن الحيوان -على نقصان مرتبته- يتنزه عن مثل هذا الفعل الذي لا يليق بالإنسان من باب أَولى. ورأت الثانية أن بعض الحيوانات المستقذرة (كالخنزير مثلًا) قد يصدر عنها مثل هذا الفعل، ومن ثَمَّ فمن باب أولى أن يتنزه عنه الإنسان؛ لرفعته وكرامته.
أن ثمة مستويين هنا لا بدَّ من التمييز بينهما؛ الأول: مستوى الرغبات والميول الداخلية للإنسان التي يمكن أن تتنوع وتشطح، والثاني: تحويل تلك الرغبات إلى أفعال ظاهرة. وفي العلاقة بين هذين المستويين تكْمُن أهمية القوة العاقلة لدى الفلاسفة، والمجاهدة لدى المتصوفة، والوازع الشرعي لدى الفقهاء، ومن ثَمَّ فإن المسؤولية الأخلاقية لا تقع إلا على ترجمة تلك الخواطر والميول إلى أفعال.
ولكن المجاهدة وكبح هذه الميول هو عمل أخلاقي في نفسه سيقود إلى إصلاح النفس ذاتها بتغيير طبائعها (مناقشة منظور علم النفس الحديث لهذا الأمر معضلة أخرى).
وبناءً على ما سبق، يجب رفض فكرة الهوية الجنسية؛ فضلًا عن أن نفترض حقوقًا لفئة المثليين بما هم مثليون؛ لأن النشاط الجنسي بما هو نشاط غريزي لا يستوجب أي حقوق. وإعادة تشكيل البشر ضمن جماعات وفئات أقلوية تارة على أساس ديني، وأخرى على أساس عرقي، وثالثة على أساس الجندر، ورابعة على أساس التوجُّه الجنسي، هو اختزال وتفتيت للإنساني، واختلاق هذه الجماعات هو عمل سياسي يهدف إلى تسويغ خطاب حقوقي مفترض لهذه الفئات بما هي مجموعات وينقلنا من ميدان تقويم الأفعال إلى ميدان الحديث عن هويات؛ في حين أن الإنسان إنما يستوجب حقوقًا بما هو إنسان لا بأي اعتبار آخر.
ثم إن النشاط الجنسي الإنساني إنما يكتسب معنًى أخلاقيًّا من جهة كيفية ممارسته (وفق القانون الطبيعي والشرعي)
ثم إن النشاط الجنسي الإنساني إنما يكتسب معنًى أخلاقيًّا من جهة كيفية ممارسته (وفق القانون الطبيعي والشرعي)، ومن جهة القيمة الثاوية خلفه. فمن جهة هو متعة مشروعة وطبيعية، ومن جهة أخرى يستهدف قيمة بقاء النوع، أما المثلية فهي خضوع لمبدأ اللذَّة على خلاف قانونها الطبيعي والشرعي معًا، وعارية عن القيمة بل تنطوي على مفسدة تتمثَّل في قطع النَّسْل فيما لو تمَّ تعميمها، أو اختلال نظام الأسرة فيما لو تمَّ تشريع التبني للزوجين المثليين، وقديما قال ابن حجر الهيتمي (ت974هـ) إن اللواط يؤدي إلى خلع “جلباب الحياء والمروءة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة”، والله أعلم.
المصدر: منتدى العلماء