الأحكام التدبيرية
درس بحث الخارج الشيخ حيدر حب الله

الكتب الدراسية في الحوزات العلمية عامل مساعد لتطوّر الحسّ اللغوي أم معيق؟!

الاجتهاد: لماذا لا يكون عندنا منهج لغة سليم أو أكثر سلامة من المنهج النظري الذي نتبعه والذي تعود بعض كتبه إلى قرابة ثمانمائة عام من الزمن؟! فليجلس هؤلاء المختصّون وليقدموا اقتراحاتهم بهذا الصدد، ونحن على يقين بأن العديد من المقيمين على شؤون الحوزات والمعاهد الدينية سيتقبلون هذا الأمر، بحكم وعيهم وغيرتهم على هذا الدين. / الشيخ حيدر حب الله

في هذا السياق المنشّط للغة العربية بجمالياتها ورونقها، تكمن الحاجة لتغيير بعض الكتب الدراسية في الحوزات العلمية مثل كتاب «كفاية الأصول» للمحقق الخراساني، ونحن هنا لا ننظر لهذا الكتاب وأمثاله من المنظار الذي اعتاد الدارسون لقضية المناهج في الحوزات أن ينظروا إليه منه؛ بل من منظار التركيبة اللغوية، فالطالب يعيش عدّة سنوات مع هذا الكتاب وغيره، فيتأثر بتركيبه للجمل والفقرات، بل واستخدامه للكلمات بطريقة خاصّة، فيحصل خلل ما في ذوقه اللغويّ العربي.

وقد يجادلني الكثيرون فيما أقوله هنا، لكنني أقترح حَكَماً محايداً خبيراً باللغة العربية شاعراً وأديباً أو صاحب نثر عربي أصيل، لتعرض عليه هذه الكتب ويقول لنا: هل تساعد على تجويد الذوق للطالب أم على إحداث خلل في هذا الذوق؟

وأذكر هنا قصّة تنقل عن بعض فقهاء (آل ياسين) في النجف من أنه ترك بعد أيام من شروعه في درس الكفاية، هذا الدرس؛ وعندما انتقده الطلاب على عدم حضوره الدرس وعابوا عليه، أجابهم ـ فيما ينقل ـ بأنه رجل شاعر ذواق للغة والأدب ولا يريد أن يخرّب أو يتلف ذوقه الأدبي بمثل هذه التراكيب والنصوص، والحق معه ـ بنسبة كبيرة ـ فالمهم عندي أن أقرأ القرآن والسنّة، وغيرهما مقدّمة لهما، فلا يصحّ أن تعطى المقدّمة أولوية في بنيتها اللفظية على ذي المقدّمة.

ولا أدعو هنا لجعل الكتب العلمية كتباً أدبية أو شعرية كما قد يتصوّر بعضنا، بل لجعل النثر عربياً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ ولسنا نستغرب أن يكون بعض غير العرب أكثر أنساً ـ كما سمعنا منهم ـ بلغة «الكفاية» من لغة «حلقات» السيد الصدر؛ لأن هذا شيء طبيعي يؤكّد فكرتنا التي أشرنا إليها أعلاه.

نقول هذا كلّه، والله الشاهد على أننا لا نريد التنقيص من شأن أحد، لكننا نرى، ويوافقنا كل إخوتنا العاملين في حقل العلوم الدينية، أن المعرفة الدينية نفسها وسلامة سبل الوصول إليها أهم بكثير من هذا العالم أو ذاك، أو هذا الكتاب أو ذاك؛ أو هذا المنهج أو ذاك، فلندع الحساسية جانباً، ولنتشاور ونتدارس، وهناك في المؤسسة الدينية العديد من الناشطين في مجال اللغة العربية والحمد لله، فلماذا لا يتشاور هؤلاء الأساتذة الكرام لوضع حلّ لهذه القضية؟

ولماذا لا يكون عندنا منهج لغة سليم أو أكثر سلامة من المنهج النظري الذي نتبعه والذي تعود بعض كتبه إلى قرابة ثمانمائة عام من الزمن؟! فليجلس هؤلاء المختصّون وليقدموا اقتراحاتهم بهذا الصدد، ونحن على يقين بأن العديد من القيمين على شؤون الحوزات والمعاهد الدينية سيتقبلون هذا الأمر، بحكم وعيهم وغيرتهم على هذا الدين، والحمد لله.

ليس المهم في العلوم العربية مجرّد وعيها وفهمها، بل الغاية منها ـ كما يقول الإمام محمد عبده (۱۹۰۵م) رائد حركة الإصلاح في مناهج التربية والتعليم ـ : «أن يبلغ المرء بالتعلّم مبلغاً كان عليه العربيّ بالسليقة»(۱۵).

ثانيهما: أن يتواصل الباحث في الفقه مع حياة الناس العاديين: في السوق، والمدرسة، والعمل، والإدارة، والشارع و… ليرى كيف يتفاهمون، لأن الجوّ العلمي الخاصّ له طريقة خاصّة في التفاهم أحياناً؛ ولهذا يغلب عليه فهمٌ خاصّ للكلام، نتيجة الخلط بين الأمور العادية والقضايا العلمية كما أشار الإمام الخميني، أو الخلط بين الأمور الحقيقية والأمور الاعتبارية كما يراه العلامة الطباطبائي، فيفهم طريقة الإطلاق والعموم في الجمل بطريقة أقرب إلى نظام الموجبة الكلية المنطقية، فيما العرف كثيراً ما يطلق أو يعمم ويريد ما نسميه: الموجبة الأكثرية،

وقد بحثنا هذا الأمر في محلّه، وسبب عدم تقبّل هذه الفكرة قد يكون هذا العيش الطويل في نظام لغة النخبة التي هي عموماً لغة دقيقة حاسمة ومحدّدة الأطراف، على خلاف نظام لغة العامّة من الناس ـ إذا جاز التعبير ـ فهي لغة محدّبة تقوم على التسامح والتساهل في التعبير، بصرف النظر عن المضمون، فلا ملازمة بين عرفية وعوامية التعبير وبين سطحية المضمون، فالأنبياء والأوصياء استخدموا اللغة العرفية، دون أن يكون المضمون سطحياً إطلاقاً.

إنّ العيش في لغة الشارع والسوق مهم جداً، إلى جانب لغة النخبة، ليعرف الفقيه طرائق البيان العرفية،وطرائق فهم التطبيق وليس أن يسمع بوجود طرائق بل يعيشها بنفسه، ولهذا ينقل عن بعض المراجع الكبار المتوفى في القرن العشرين، أنه كان في بعض المواضع يطلب بعض أهل السوق ليسألهم كيف يفهمون هذا التعبير أو ذاك؟ وماذا يفهم عندهم من إطلاق المعاملة هنا أو هناك؟ بدل أن يحلّل لوحده على طريقة الأصل أو القدر المتيقن أو ما شابه ذلك، فهذه الطريقة التي تنقل عن هذا المرجع الكبير طريقة مثلى بحقًّ في فهم النصوص وفهم تطبيقاتها الميدانية أيضاً .

وأختم كلامي هنا ـ والحديث يطول جداً ـ بكلام رائع للشيخ محمد رضا النجفي الإصفهاني (۱۳۶۲هـ) ـ أستاذ السيد الخميني ـ حين يقول في مباحثه الأصولية ما نصّه: «بلغني أن بعض فضلاء العجم اطّلع على أجزاء من هذا الكتاب، فقرّظه أبلغ تقريظ، وأثنى عليه أحسن الثناء، ولكنه انتقد عليه بعبارة فارسية محصلها: إن عبارته عريقة في العربية، لا تشبه متعارف الكتب الأصولية.

لك العتبى أيها الفاضل! فلك عليّ يدٌ لا أجحدها، ونعمة أشكرها، وذلك مني طبيعةٌ لا تطبّع، وجريٌ على ما تعوّدته لا تكلّف، وإني لم أتعوّد منذ نعومة الأظفار ومقتبل الشباب إلا هذا النمط من الكتابة. وصعبٌ على الإنسان ما لم يعود. على أن هذا عند ذوي الألباب لا يحطّ من قدر الكتاب، بل يزينه ولا يشينه، ويغلي قدره ولا يرخصه. وإذا محاسني التي أزهو بها صارت مثالب لي؛ فماذا أصنع؟! وشتان بين هذا الفاضل وبين أحد علماء العراق، وقد بلغني قوله فيه: هو أوّل كتاب في فنّ الأصول ملؤه دقائق عجمية، بعبارات عربية»(۱۶).

وفي هذا النص منه (رحمه الله) الكثير من الدلالات المعبّرة!!

وبعد هذا كلّه؛ ألا تكون اللغة بالمعنى الذي ذكرناه عنصراً أساسياً في معايير الاجتهاد والمفاضلة والأعلمية؟!

مقتطف من مقالة:  معايير الاجتهاد ومفهوم الأعلمية للشيخ حيدر حب الله

 

الكتب الدراسية في الحوزات العلمية

إصلاح الكتب الدراسية في الحوزات العلمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky