الفقه الإمامي الجعفري وظروف النشأة في القرن الثاني الهجري

الاجتهاد:نشر الدكتور حيدر حب الله هذا البحث في دورية “نماء” وهي مجلة فصلية محكمة متخصصة في علوم الوحي والدراسات الإنسانية في المغرب، وذلك في المجلد التاسع، العدد الثاني، صيف عام 2025م.

وهذه بعض الاضاءات على البحث المنشور:

– إنّني أعتقد بأنّ التفسير النمطي الإمامي لكون الباقرَين هما إماما الفقه الجعفري، هو تفسير ما يزال ناقصاً وغير متسق، الأمر الذي يحيجه إلى تطوير يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأوضاع الاجتماعيّة والعلميّة والمذهبيّة والسياسية في العالم الإسلامي في تلك الفترة.

– الانقسام السياسي داخل البيت العلوي، بين تيار سياسي ثوري وآخر يدعو للانشغال ببناء الهويّة المذهبيّة والإيمان والعلم مع تجنّب مواجهة السلطة السياسيّة، ساهم كثيراً في خلق الفقه الجعفري؛ لأنّ أتباع الباقرين شعروا بحاجة كبيرة لبناء ذاتهم بوصفهم جماعة مستقلّة عن السلطة السياسيّة وفي الوقت نفسه عن المعارضة المسلّحة التي قادها الزيديّة والحسنيون، ولم يكن هذا ممكناً من دون وجود معالم هوية عقديّة وفقهيّة في ذلك الوقت الحسّاس تاريخيّاً.

– يبدو لي أنّه كان هناك إصرار من الأئمّة أو من الرواة وكبار رجال الشيعة على الانفصال عن المجتمع المحيط، وهذا ما تؤكّده سلسلة من الروايات التي تنهى عن الصلاة خلف غير الإمامي أو الأخذ بشهادته في المحكمة أو فتح علاقات مع المرجئة بالتحديد وهكذا.

– نلاحظ أنّ مزاج الفقه الجعفري في القرن الثاني وما بعده كان مزاج المفاصلة لتكوين هويّة خاصّة ذات مرجعية حصرية مختلفة.

– رغم أنّ الإمامين الباقر والصادق عاشا في المدينة المنوّرة، لكنّه من النادر أن نعثر على كلام منهما ضدّ الكثير من فقهاء المدينة والحجاز، في المقابل يبدو أنّ عمدة النقد الحادّ توجّه لفقه أهل الرأي في العراق، لابن أبي ليلى (148هـ) وابن شُبرمة (144هـ) وأبي حنيفة (150هـ) وأمثالهم.

– برغم أنّ التمايز المنهجي بين مالك (179هـ) والصادق موجود، لكن لا توجد حرب ـ على الأقلّ معلنة ـ بينهما وفقاً للموروث الشيعي، على العكس تماماً مع أبي حنيفة. وعندما نقارن فإنّنا نلاحظ تقارباً نسبيّاً بين الفقه المالكي والفقه الإمامي.

– يمكننا القول بأنّ فقه الصادقَين (الباقر والصادق) كان أقرب لفقه أهل المدينة والحديث منه لفقه أهل الرأي.

– يميل الباحث في تاريخ المذاهب إلى القول بأنّ الولادة الاجتماعيّة للفقه الجعفري بوصفه مذهباً كانت في الكوفة فهو كوفي النشأة بهذا المعنى الذي يجعله قاعدة قرآنية ـ حديثيّة في قلب العراق المتمايل لمدرسة أهل الرأي.

– لا أقتنع بما طرحه جوزيف شاخت (1969م) حول أصول الفقه عند الإماميّة حيث اعتبر أنّه تكوّن في فترة متأخّرة، مشكّكاً في وجود ذهنيّة أصوليّة في مثل عصر الصادقين. منطق الأشياء التاريخي لا يمانع عن وجود أفكار أصوليّة سبّبتها النقاشات التي دارت في العراق حول الرأي والحديث.

– يمكنني الاستنتاج أنّ فقهاء الإماميّة في القرن الثاني، وهو قرن النشوء، لم يكونوا مجتهدين بالطريقة التي نعرفها اليوم، بقدر ما كانوا محدّثين، وأنّ الاجتهاد ظهر لاحقاً في القرن الرابع الهجري مع مثل ابن أبي عقيل العماني وابن الجنيد الإسكافي، والأخير رفضته مدرسة بغداد في القرن الخامس الهجري، نظراً لميوله الاجتهاديّة التي جرّت لاتهامه من قبل أمثال الشيخ المفيد (413هـ) بالعمل بالقياس، الأمر الذي أضعف الرجل جداً حتى أنّه اختفت كتبه إلى اليوم.

– لا أريد أن أنفي ظاهرة الاجتهاد في فترة التكوّن نفياً مطلقاً، بل المتوقّع وجودها، وقد سبق أن دافعت عن وجودها، لكنّني أعتبر أنها محدودة الوجود في مجال العلوم الشرعيّة بالتحديد، فالفقه الإمامي في القرن الثاني هو فقه حديثي أكثر من كونه فقه اجتهاد.

– الفقه المنسوب للإمام الباقر والصادق بالدرجة الأولى، لم يكن واضحاً تمام الوضوح. ولا أقصد بذلك أنّه مذهب باطني مبهم، بل أعني أنّ هناك الكثير من المسائل ظلّت محلّ نقاش في موقف الإمام الصادق منها.

– تعطينا نصوص تاريخيّة دالّة كيف أنّه من المحتمل أنّ بعض الرواة الأوائل لفقه الإمام جعفر وأولاده من بعده كانوا ميّالين لخلق حالة الغموض.

– الغلاة جماعات امتلكت في بعض الأحيان نفوذاً وسلطة، وتمكّنت من اختراق المدوّنة الحديثيّة الشيعية في القرن الثاني الهجري، قبل أن يتمّ العمل على تصفية الكتب من نصوصهم، ولا أحد يدري كم نجح المحدّثون بعد ذلك في عمليّة التصفية هذه؟

– جمهور أهل السنّة كانت لديهم صورة مختلفة عن الصادق، غير الصورة التي تقدّمها المدوّنة الحديثيّة الشيعيّة، فنجد عدّة صور أو سرديّات عن الإمام الصادق في التراث الإسلامي.

– ظاهرة التعارض الحديثي خلقت تكويناً ملتبساً للفقه الجعفري في تلك الفترة، ظلّ الفقهاء والأصوليّون يسعون لعلاجه إلى يومنا هذا، بل لقد تسبّبت هذه الظاهرة بتخلّي بعض شخصيات الشيعة عن التشيّع واعتقادهم بتناقض الأئمّة فيما بينهم.

– لا يمكن فصل نشوء الفقه الجعفري عن ظهور الفقهاء والقضاة الأوائل، ثم نشوء المدارس الفقهيّة بعدهم، فقد خطا هذا الفقهُ تاريخيّاً مسيرة مدارس الفقه الإسلامي، فولد على شكل توجيهات وأفكار فقهيّة حملها نخبة من تلامذة الأئمّة، ثمّ تحوّل بالتدريج إلى مدرسة متكاملة بمرور الوقت.

– من الخطأ إلقاء ثوب من الغموض المطلق على الفقه الجعفري في نشأته منذ نهايات القرن الأوّل الهجري وصولاً لأواخر القرن الثالث، وادّعاء أنّ الفقه الجعفري وُلد في القرن الرابع فقط.

– من الخطأ افتراض أنّ الفقه الجعفري وُلد مستقلاً تماماً ومنفصلاً عن مسارات ولادة المدارس الفقهيّة الأخرى، وهو افتراض عادةً ما نلمسه في بعض الكتابات الإماميّة التي تشتغل بطريقة أيديولوجيّة لاهوتيّة في تناول الموضوع، وأنّ ثقافة تحليل تاريخ الفقه الجعفري بطريقة تبجيليّة خالصة من جهة ومدروسة بدقّة من السماء من جهة ثانية، تفتقر إلى شواهد حقيقيّة.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky