موسى الصدر

العدالة الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام .. الإمام موسى الصدر

الاجتهاد: إن العدالة في الإسلام في كافة المجالات، وفي الحقل الاجتماعي والاقتصادي بوجه خاص، تعتمد على الإيديولوجية الإسلامية، بل إنها -أيّ العدالة- ركن من أركانها، وذات تأثير كبير على الأركان الأخرى. فالعدالة في جميع مجالات حياة الإنسان، الفرد والجماعة، تبدو في القرآن الكريم كنتيجة للعدالة الكونية.

إن الكون في الرؤية الإسلامية قائم على أساس العدل والحقّ، ومن نتائج هذه الرؤية في منطق القرآن الكريم أن الإنسان الذي يشعر بالرسالة ويرغب في النجاح، عليه أن يكون عادلًا في سلوكه منسجمًا مع الكون، وإلّا فهو جسم غريب في هذا الوجود، مرفوض وفاشل يُطوى في النسيان والإهمال. وهذا المبدأ ينطبق على الفرد وعلى المجتمع على السواء.

ولعلّ أبرز الآيات التي تؤكد هذا الرابط في القرآن الكريم هي ما ورد في سورة الرحمن: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾ [الرحمن، 7-9].
ثم إن العدالة من أبرز الصفات الثبوتية الإلهية، وهي بالتالي تنعكس على الكون كله، لأن العلّة في رأي الفلاسفة حدّ تام للمعلول، والمعلول حدّ ناقص للعلّة.

هذا مضافًا إلى أن الوصف القرآني لله هو: القائم بالقسط، وهذا يعني أن العدل الكوني هو مفهوم القيام الإلهي بالقسط، دون حاجة إلى استنتاج فلسفي أو تحليل علمي.

والحقيقة أن هذا الأسلوب هو الطريق الشائع المعتمد في القرآن الكريم. حيث إنه يطرح النتائج التربوية للحقائق والوقائع، دون الوقوف أمام تحديات الحقائق وتحليل أبعادها، ودون الدخول في تاريخ الوقائع وتفاصيلها.

وخلاصة القول، إن العدالة الكونية التي هي رؤية إسلامية، وهي أيضًا نتيجة الإيمان بعدالة الخالق، هذه العدالة الكونية تضع القاعدة الثابتة للعدالة في حياة الإنسان الفردية والجماعية، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وغيرها.

ومن جهة ثالثة، فإن الباحث في أصول الدين الإسلامي وفي أسس العقيدة، يشاهد بوضوح أن المدخل الأصلي -لإثبات ضرورة إرسال الرسل للاستدلال على ثبوت الميعاد والحساب-، إن المدخل الأصلي هو العدل الإلهي، مما يوضح مدى أهمية العدل في أسس العقيدة الإسلامية، ومدى تأثير هذا المبدأ، حسب التوجيه التربوي في سلوك الإنسان عامة، وفي عدله الاجتماعي والاقتصادي عند فرده ولدى مجتمعه بصورة خاصة.

الثانية، إن المعادلة القرآنية العامة التي تؤكد مساواة الإنسان لعمله في الآية الكريمة: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39]، إن هذه المعادلة قائمة في موضوع العدالة أيضًا، بحيث إن العدل يساوي وجوده وجود الإيمان، وأن الإيمان لا وجود له بدون سلوك الإنسان لتحقيق العدالة: ﴿أرأيت الذي يُكذِّب بالدين * فذلك الذي يدعُّ اليتيم * ولا يحضُّ على طعام المسكين﴾ [الماعون، 1-3]، وهذا المبدأ يعبّر عنه الحديث النبوي الشريف بعبارة أخرى: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع.

ومئات الأحكام الإسلامية التي تُدخل العدالة الاجتماعية والاقتصادية في صميم العبادات وضمن شروط صحتها، تعكس بوضوح أن هذين المبدئين ليسا حكمين فرعيين، ولا واجبين عاديـين، بل إنهما مبنيان على أصول العقيدة والإيمان، لا ينفصلان عنهما، ولا يعترف الإسلام بوجود إيمان لا يثمر العدالة في حياة الفرد والجماعة.

ومن هنا تصبح العدالة الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام عميقة، دائمة وشاملة، لأنها ممتزجة مع كيان المؤمن، نابعة من ذاته لدى فرده وفي جماعته.

الثالثة، إن الإسلام في وضعه لمبدأ العدالة، يرسم لها أبعادًا واضحة تمنع الميوعة، ويقدِّم لها ضمانات تمكِّنها من التطوير والتصاعد حتى اللانهاية، وهذه الصفة من الأهمية بمكان.

فالترابط المتقابل بين مسؤولية الفرد ومسؤولية الجماعة لأجل تحقيق العدالة، هو من الأبعاد المرسومة لها. إن الفرد مسؤول عن سلامة المجتمع حسب مبدأ كلكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، ولأنه مكلّف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن كل ما يملك من أموال وطاقات وتجارب وحتى الصحة والقوة الجسدية، إن كل ما يملك ليس ثمرة جهده لشخصه، بل شارك في تكوينه الآخرون، من معاصريه ومن الذين سبقوه، فمثله كمثل الشجرة المثمرة، يحمل الثمرة غصن منها، ولكن الشجرة بأغصانها وأوراقها وجذورها ساهمت في إنتاج الثمرة، واستفادت من الهواء والشمس والماء والأرض وغير ذلك من العوامل الطبيعية، ومن الجهود البشرية المتنوعة.

وبكلمة، إن الفرد أمين على ما يملك، مسؤول عنه أمام المجتمع، بل أمام الماضي والمستقبل، وهذا التحليل يؤكد أن الفرد لا يحقّ له أن يحتكر ما عنده، ولا أن يتلفه أو يهمل في شأنه، ولا يجوز له أن يُسيء إلى نفسه أو يؤذيها، فكيف بالانتحار! إن كل هذه وأمثالها في الحقيقة تَعدٍّ، أو تفريط في حقّ الجماعة. كما وأنها تُلقـي أضواء على كلمة الاستخلاف الواردة في القـرآن، واعتبار الأموال أمانة: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ [الحديد، 7].

وفي مقابل المسؤولية الفردية عن سلامة المجتمع، تأتي مسؤولية الجماعة عن الفرد، والأحاديث وفتاوى الفقهاء تثبت مسؤولية القرية بجميع أبنائها عن موت شخص جوعًا. والحقيقة إن المسؤولية موجودة مع أي نوع من أنواع الموت وعن الأضرار والإيذاء والإساءة إليه. وفي الحديث إن أهل القرية يبرؤون من ذمة الله ورسوله، وذلك لأنهم خانوا أمانة الله، ونقضوا عهد الله عندما لم يؤدوا مسؤوليتهم تجاه الفرد هذا.

وما يُقال عن القرية، جاز في المدينة وفي الأوطان وفي أرجاء بلاد الأمة التي تشكل وحدة متكاملة.
وعليّ (ع) يسأل مستنكرًا: أأبيتُ مبطانًا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى… ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع؟

أمّا الأفراد، بعضهم بالنسبة إلى بعض، فالرؤية التي نكتشفها من الآيات القرآنية ومن الروايات، إنهم جميعًا يشكلون جسمًا واحدًا، وإذا اشتكى عضو يتألم الآخر. وإن أموالهم ونفوسهم وعقودهم وعهودهم، هي للجميع، وهذا بُعدٌ آخر يلقي أضواء جديدة على المجتمع وتكوينه، يُكشف من الآيات الكريمة التالية: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [النساء، 29]، ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ [الحجرات، 12]، ﴿بعضكم من بعض﴾ [آل عمران، 195]، وكلمات العقود والعهود في القرآن.

ويشير القرآن الكريم في مواضيع عديدة إلى المجتمع الذي تسوده العدالة وإلى نتائجها، وإلى الأخطار التي تحيط به حال عدم توفرها، وذلك لأن العدالة تمكّن الجميع من السعي البنّاء ومن العطاء، فيعود الخير إلى الجميع أيضًا، بينما غياب العدالة عن المجتمع ينجم عنه حرمان قسم كبير من المجتمع من بعض حقوقه أو كلها، ومن بعض كفاءاته أو كلها، ويعمّ الحرمان عند ذلك كافة أبناء المجتمع، بل المجتمع نفسه.

ناهيك عن الأمراض والأخطار التي لا تقتصر على الفئات المحرومة بل تصيب الجميع، كالأخطار المادية التي تحصل من سوء التغذية، ومن عدم توفير شروط العيش الصحيح، وكذلك الأخطار الأخرى التي تحدث في نفوس المحرومين، وتنتهي عند تركها إلى الانفجارات في المجتمعات.

فلندرسْ بعض هذه الآيات:

﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [محمد، 38].
﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [الأنفال، 60].
﴿وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة، 195].

إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة الواردة في الإنفاق، الإنفاق بمفهومه القرآني هو المساهمة الشاملة من كل ما أنفق الله على الإنسان من مال أو فكر أو سعي ونضال؛ إن التأمل في هذه الآيات يؤكد أن عودة الخير للمنفق وابتعاده عن الظلم وعدم وقوعه في التهلكة، ليست منحصرة في الجزاء الإلهي الذي ينتظر الإنسان يوم القيامة، والذي يسمّيه القرآن بالجزاء الأوفى، بل إنها تضمّ النتائج الأخروية، وهذه تسمّى بالجزاء الأدنى والعذاب الأدنى.

وبكلمة: إن من يسعى لتوفير فرص الحياة للآخرين، كان الساعي فردًا أو جماعة، وكان من يسعى لأجلهم فردًا أو جماعة، يساهم في الحقيقة في عودة الخير إلى نفسه، ويبعد عن نفسه أيضًا خطر الظلم والهلاك، وذلك لما يترتب على هذه المواقف من نتائج وآثار اجتماعية أصبحت اليوم من الواضحات.

وإذا لاحظنا أن الآية الأخيرة وردت في سياق آيات الجهاد، نجد الانسجام التام بين الإنفاق بالنفس الذي يؤدي إلى الاستشهاد، وبين عدم إلقاء النفس في التهلكة الناجمة عن طغيان العدو أو ظلم الطغاة، وترتفع الشبهة المطروحة حول معنى الآية الكريمة.
والبعد الآخر الخاص للعدالة الاقتصادية والاجتماعية في المدرسة الإسلامية، هو أن درجة العدالة تتفاوت، والمراحل التي يمرّ بها تنفيذها في المجتمعات تبدو وكأنها غير متناهية، شأنها شأن سائر الأهداف الدينية اللامتناهية.

ذلك لأن العدالة في الواقع وسيلة لإعطاء فرص الكمال للإنسان وليست غاية بحدّ ذاتها، يقف الجهد عند تحقيق أولى مراحلها، ونتيجة هذه الرؤية تبدأ العدالة بدرجة من التحسس الفردي، ثم تنمو وتتحول إلى الجهد المتزايد لدى الفرد من جهة وتسري إلى الجماعة المتمثلة بالسلطات الوطنية من جهة أخرى، ثم تنمو العدالة في المجتمع باتجاه شيوعها لدى الأفراد جميعًا وباتجاه العمق النوعي.

فكما أن التحسس يصبح سعيًا وعملًا، كذلك فإن العدالة في حدّها الأدنى -أي درجة توفير الحدّ الأدنى لفرص الحياة- تتحول إلى خلق درجات أكثر من الفرص، حتى المساواة بين المزيد من أبناء المجتمع الواحد، وبعد ذلك يأتي دور التكافل والتضامن والتضحية، حتى نصل إلى دور الإيثار. مع الانتباه إلى ألّا يتحوّل هذا التنازل إلى نسيان حقّ الآخرين من الأقربين، كما يحصل عادة عندما يبالغ الفرد في السخاء، ولعلّه المقصود من الآية الكريمة: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا﴾ [الإسراء، 29].

ولنُشِرْ لدى تعداد الأبعاد الإسلامية للعدالة الاقتصادية والاجتماعية إلى الناحية الفنية التي أخذت خلال المؤتمر الاهتمام المطلوب، فلنُشِرْ إليها إشارة خاطفة، إكمالًا للصورة في هذه المحاضرة:

إن تحريم الربا يكشف عن عدم رضا الشرع الإسلامي بإنجاب رأس المال المتجرّد عن الجهد، كما وأن ما ورد في الفقه من عدم صحة وضع حصة خاصة لوسائل الإنتاج، (وكانت البقرة أو الآلات البدائية) دليل على أن وسيلة الإنتاج لا يمكنها أن تشارك في الأرباح. أما العمل، وهو في رأي الإسلام العنصر المفضل من عناصر الإنتاج، فيحقّ له الاشتراك في الأرباح دون الخسائر، كما يحقّ له أخذ مبلغ ثابت بعيدًا عن المغامرة، ذلك الذي نسمّيه بالأجرة.

ثم إن مزيدًا من التأمل في أحاديث الزكاة وما ورد عن الأئمة والسابقين من الفقهاء، إن المزيد من التأمل يُضيف بعدًا جديدًا للعدالة يُقرأ بوضوح في ضمان الفقر، سوى الفقر الناتج عن الكسل، وضمان الشيخوخة والطفولة والمرض، بصورة خاصة ضمان الطوارئ، كابن السبيل والغارمين وفي الرقاب وكل ما في سبيل الله وغير ذلك.

هذا البعد هو قبول الإسلام بمسؤولية المجتمع التامّة عن الحالات الاجتماعية الصعبة، الدائمة منها كالشيخوخة، والعجز الناجم عن النقص، أو الطارئة المؤقتة.

المصدر: مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات

* بحث في الملتقى التاسع للفكر الإسلامي، المجلد الرابع، الجزائر-تلمسان، 15 رجب 1395/ 25 حزيران 1975. بعنوان: العدالة الإقتصادية والإجتماعية في الإسلام واوضاع الامة الاسلامية اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky