خاص الاجتهاد: لقد شهد التشيع منذ نشأته الأولى، من زاوية معينة، بعدين أو نوعين من الرؤى على الدوام: أحدهما بعد وجانب حماسي وعاطفي، والآخر جانب عقلاني ونظري. وكلاهما كانا في بعض الأحيان مكملين لبعضهما البعض، ومهدا لنمو التشيع من الناحية التاريخية.
وكما هو الحال في أي مذهب أو ديانة، تنشأ دائمًا جوانب عاطفية، بل وخرافية وعامة في بعض الأحيان، كهوامش تحيط بالنواة العقلانية والنظرية للمذهب، وقد تنمو بشكل فطري، وهو أمر طبيعي من وجهة نظر معينة، ويؤدي اتفاقًا إلى إبعاد النواة الداخلية عن تدخلات العامة العاطفية، بل والخرافية أحيانًا، غير العلمية. وبالتالي، فإن وجود جوانب خرافية في أي مذهب لا يعني غياب الجوانب النظرية.
تبدأ المشكلة عندما يخرج نسب وثقل أي من هذين الجانبين عن شكله الطبيعي والتاريخي. وعلى أي حال، فقد ثقلت كفة الجوانب العاطفية في تاريخ التشيع، وخاصة في بعض المنعطفات التاريخية، لأسباب مختلفة، وتجاوزت حدها الطبيعي والمنطقي.
ومن الطبيعي أنه إذا لم تبد النواة الداخلية والعقلانية رد فعل صحيح، أو لم تبادر إلى تجديد بنائها النظري، فإن القشور العاطفية والخرافية أحيانًا تهدد حدود ووظيفة النواة العقلانية، وقد يُبذل جهد لاستبدال القشرة بالنواة، أو يسعى العقلانيون إلى تبرير وتوطين الزوائد القشرية.
لقد مثل النواة المركزية والعقلانية للتشيع عبر التاريخ عدة شخصيات مهمة على وجه الخصوص: الشيخ المفيد والشريف المرتضى والخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي وكثيرون آخرون، ومن بينهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر والإمام موسى الصدر والمرحوم الشهيد مرتضى مطهري.
يصف عبد الجليل القزويني الخط المعتدل للتشيع بأنه “الشيعة الأصولية”. والشيعة الأصولية هي الخط المعتدل للتشيع في مواجهة نزعات الغلاة والمفوضة والأخباريين. وعادة ما سعى الغلاة والمفوضة والأخباريون إلى إبراز الجوانب العاطفية وقشور التشيع.
يجب البحث عن نواة التشيع في تراث الشيعة الأصولية. فالشيعة الأصولية، كما يقدمها عبد الجليل القزويني في كتابه “نقض(١)”، لا تقول بالتحريف أو النقص أو الزيادة في القرآن. وهي تعارض خط الغلاة والمفوضة. ومع الاعتقاد بالنص على الإمامة والاعتقاد بمرجعية أهل البيت (عليهم السلام) وانتقاد منطق السقيفة، إلا أنها تسعى إلى ألا يؤدي هذا النقد العلمي إلى تعميق الخلافات بما يتعارض مع المصالح العليا للإسلام. ولديها في أفكارها الكلامية منظور توحيدي ومناهض للجبر. وفي نقل الأحاديث، تراعي جوانب النقد الأصولي ولا تتبع المنهج الأخباري. وتناقش الاجتهادات الفقهية للمذاهب الأخرى، على الرغم من وجود نقد علمي لها، في إطار اختلاف الفقهاء.
هذه بعض الأمور التي ذكرها عبد الجليل القزويني كعلامات للشيعة الأصولية.
(١) كتاب (النقض) تأليف نصير الدين عبد الجليل الرازي القزويني (المتوفى في القرن السادس للهجري)،
قال عبد العزيز الطباطبائي: «في القرن السادس كتب بعض أحناف الري من بني المشاط كتابا هاجم فيه الشيعة وتحامل عليهم، فرد عليه معاصره نصير الدين عبد الجليل القزويني الرازي بكتاب سماه (بعض مثالب النواصب) نقض عليه كل ما جاء به وفنده واشتهر باسم (النقض) وهو مطبوع مرتين بتحقيق المحدث الأرموي رحمه الله».