الاجتهاد: ألقَتْ المدرسة الأخبارية بظلالها على الأجواء في الحوزات العلمية، وتركت جملة من الآثار المشهودة، لعلّ من أهمّها العناية الكبيرة بإعادة وتركيز حضور التراث الحديثي، من خلال الموسوعات التي جمعت المصادر الحديثية المتعدِّدة والكبيرة، أو من خلال التقعيد النظري لدَوْر الحديث في البناء والاستدلال العلمي في مختلف مجالات المعرفة الدينية، في مقابل العقل، الذي تحسَّست المدرسة الأخبارية من هيمنته على هذه العلوم، بما أدّى في نظرهم إلى انحسار دَوْر النصوص الدينية، ولا سيّما الحديث منها. من المهمّ أن نتعرّض لعوامل وجود ظاهرة الاحتياط وأسباب اشتداد حضورها عند بعض الفقهاء قياساً بفقهاء آخرين، وفي بعض المراحل الزمنية دون غيرها.
ونحن إذا أردنا استعراض العوامل التي نتوقّع دخالتها في وجود هذه الظاهرة وسعتها فإنّنا لا نعتبرها عوامل حَتْمية، كما لا نؤكّد توافرها جميعاً عند كلّ فقيه، وفي كلّ احتياطٍ يتّخذه في بياناته لآرائه الفقهية.
أما العوامل فهي:
الأوّل: الامتداد الزمني وتعمّق البحث الفقهي
كلّما امتدّ بنا الزمن، وابتعدنا عن عصر صدور النصّ، تتزايد الحاجة إلى الاجتهاد؛ بتزايد تفريعات المسائل، والتغيّرات التي تطرأ على مواضيعها، هذا من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى ينمو البحث في أصول الفقه، وتتعدّد وتتعمّق الآراء الاستدلالية، وهذا ما نجده واضحاً عند مراجعتنا للكتب الفقهية المتقدّمة في بدايات الغيبة الكبرى، ومقارنة عدد المسائل المطروحة فيها، وطول وسعة الاستدلالات عليها.
كلّ ذلك إذن يجعل العملية التي يقوم بها الفقيه أصعب وأعقد، ويجعل جزمه بالنتيجة أضعف، بحيث يكون أمام احتمالات متعدّدة في المسألة التي يريد البحث عن الحكم فيها، وكلّ احتمال يميل إليه قد يجد وجوهاً أخرى لاحتمالٍ يقابله، بينما يكون عدد الاحتمالات في فتراتٍ زمنية متقدمة أقلّ؛ نظراً لقلة حضور العاملين الذين ذكرناهما: (التفريع الفقهي؛ والعمّق الاستدلالي).
لذلك فإنّ الفقيه المعاصر في هذه الأجواء البحثية المتفرّعة والمعقّدة يكون مهيّأً علمياً، ورُبَما نفسياً، فيشعر بالتواضع العلمي، والرغبة في أن يذهب باتجاه الاحتياط، الذي يضمن به الانسجام مع هذه الاحتمالات المتقابلة.
غياب الاجتهاد القرآني
وفي هذا السياق يلفتنا موقفٌ لأحد الداعين إلى اجتهادٍ فقهي يرتكز بصورةٍ أساسية على القرآن الكريم، ويعيد له الاعتبار الذي غيَّبه وأبعده ارتكاز الاستدلالات الفقهية على الحديث والعقل غير القطعي، ممّا أدّى ـ حسب وجهة نظره ـ إلى نشوء خللٍ بنيوي في الفقه التقليدي؛ حيث إنّ التراث الحديثي مبتلىً بمشاكل كبيرة وتعقيدات شديدة في ناحيتي: صدوره الظنّي؛ ودلالته غير الواضحة.
وهذا ما أسهم في أن يبذل الفقهاء كثيراً من الوقت والجهد حتّى يصلوا إلى نتائج اجتهادية، وهي مع ذلك نتائج غير أكيدة، مشحونة بالتردُّد وعبارات الأقوى والأحوط والأَوْلى. بينما لو اعتمدوا على الاجتهاد القرآني لوصلوا إلى نتائج آكد وأوضح، في وقتٍ أقصر، وبجهدٍ أقلّ؛ حيث إنّ صدور القرآن الكريم قطعيّ، ودلالته واضحة بيِّنة بعيدة عن التعقيد.
الثاني: الروحية الاحتياطية والعقلية التدقيقية
يقوم الاستدلال الفقهي على مجموعة ضوابط يراعيها المجتهد أثناء بحثه عن الأحكام الشرعية. وترجع هذه الضوابط إلى ما يصل إليه من قواعد في علم أصول الفقه، الذي يبحث عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. فهو ـ أي الاستدلال الفقهي ـ ميدانٌ تطبيقي لقواعد كلية على جزئيات متنوّعة ومتجدّدة ومتفاوتة.
وهذا ما يعطي بطبيعته مساحةً للاختلاف بين الفقهاء في تطبيقهم لتلك القواعد، الاختلاف الذي ينشأ من اختلافهم في القواعد نفسها، وفي تطبيقاتها، كما قد ينشأ من اختلاف الخصائص الشخصية بينهم، لكنْ بشكلٍ لا يخرجون معه عن الضوابط العلمية الموضوعية المفترضة.
فالذكاء ـ مثلاً ـ والذهنيّة الوقّادة التي يمتاز بها بعض الفقهاء توثِّر في تميُّز بحوثهم الاستدلالية بالعمق والالتفاتات غير المسبوقة. والتتبُّع الواسع الذي يبذله بعض الفقهاء يظهر في شمولية بحوثهم وتكاملها. ولعلّ وضوح ما نذكره يجعلنا غير مضطرّين إلى إيراد نماذج تؤكِّده.
والروحية الاحتياطية وإنْ كانت تنطلق من التحذُّر في مقام الإفتاء؛ مراعاة للتقوى، وهذا ما تعنيه العدالة المشترطة في صفات المرجع، وبالتالي نتوقَّع وجودها في كلّ الفقهاء المتوفِّرين على هذه الصفة، وبذلك نبرِّر تقليدهم شرعياً، إلاّ أنّ بعض الفقهاء يتميَّز بمستوىً أعلى من هذه الصفة، ويكون مضيفاً إلى الحدّ المطلوب من الاتّصاف بهذه الروحية اتّصافاً أشدّ، وهذا ما يُعَدّ من أهمّ الخصائص الشخصيّة المؤثّرة، والتي يمكن اعتبارها عاملاً مساعداً في تشكُّل ظاهرة الاحتياط في الفتاوى إلى درجةٍ كبيرة.
هذه النزعة أدّت ببعض الفقهاء الكبار إلى أن يعرضوا عن التصدّي لمقام الإفتاء، رغم قدرتهم الاجتهادية المشهودة؛ كالسيد ابن طاووس، الذي لم يَرِدْ عالم الفتوى، بل اكتفى بأن كتب كتاباً فقهياً واحداً فقط؛ والملاّ صالح المازندراني، الذي امتنع عن شرح قسم الفروع من كتاب الكافي، للكليني، واكتفى بشرحه لأصول الكافي، وهو شرحٌ عميق ودقيق؛ والشيخ أحمد النراقي، الذي ينقل عنه قوله: لئن تسقط عليّ صخور جبال نراق فإنّ تحمّلها أهون عليَّ من بيان الفتوى لمَنْ يستفتيني.
وإذا كانت الروحية الاحتياطية قد أدَّتْ بهؤلاء العلماء إلى الإعراض عن الدخول في ميدان الفتوى أو البحث الفقهي فإنّها أدَّتْ وتؤدّي إلى نزوع فقهاء آخرين إلى الامتناع أحياناً عن إبداء آرائهم الاجتهادية، حتّى لا يوقعوا مقلِّديهم في مخالفةٍ واقعية محتملة، ويرجِّحون الإشارة إليهم بطريق الاحتياط، الذي يضمنون به مطابقة سلوكهم لواقع الأحكام الشرعية.
وفي دائرة الخصائص الشخصية المؤثِّرة في اللجوء إلى الاحتياط يمكننا أن نعتبر العقلية التدقيقية، ورُبَما الشكّ الزائد عن المتعارف، عاملاً كبيراً؛ حيث تبيّن من خلال تعرّضنا لمناشئ الاحتياط أنّ التفات الفقيه لها يكون بعد استقصائه للمحتملات في المسألة التي يبحث عن حكمها.
وهذه الاحتمالات ستكون أكثر وأوفر حينما تكون ذهنية الفقيه تدقيقيةً، تتتبَّع كلّ الوجوه المحتملة، وتقف عند كلّ شاردةٍ وواردة، بل قد تستغرق في افتراضاتٍ بعيدة، تقترحها الذهنية الاحتمالية والذكاء الحادّ.
وكلّما تزايدت احتمالات الحكم الواقعي سيكون الفقيه أبعد عن الجزم والاطمئنان بالحكم الظاهري، وهذا ما يجعله يميل إلى اتّخاذ طريق الاحتياط.
ورُبَما إلى هذا العامل، بوجهتَيْه: الروحية؛ والذهنية، يشير بعض الباحثين، حينما يذهب إلى أنّ الاحتياط بترتيب الأثر على كلّ احتمال مهما كان ضعيفاً ينشأ أحياناً من التوهُّم والتخيُّل، ويدلّ على جنبةٍ وطريقة وسواسية غير معتدلة.
الثالث: تأثير المدّ الأخباري
أرجَعَ بعض العلماء الباحثين في هذا الموضوع أحد أسباب تبلور ظاهرة الاحتياط إلى أنّ بعض الفقهاء الأصوليين تأثَّروا عملياً بالمنهج الأخباري في الاستدلال، وإنْ اختلفوا معهم نظرياً.
ولتقريب هذا العامل يمكن أن نقول: ألقَتْ المدرسة الأخبارية بظلالها على الأجواء في الحوزات العلمية، وتركت جملة من الآثار المشهودة، لعلّ من أهمّها العناية الكبيرة بإعادة وتركيز حضور التراث الحديثي، من خلال الموسوعات التي جمعت المصادر الحديثية المتعدِّدة والكبيرة، أو من خلال التقعيد النظري لدَوْر الحديث في البناء والاستدلال العلمي في مختلف مجالات المعرفة الدينية، في مقابل العقل، الذي تحسَّست المدرسة الأخبارية من هيمنته على هذه العلوم، بما أدّى في نظرهم إلى انحسار دَوْر النصوص الدينية، ولا سيّما الحديث منها.
وهذه المدرسة وإنْ أفَلَتْ، وانتهى الصراع الأخباري الأصولي لصالح الأصوليين، على يد زعيمها الشيخ الوحيد البهبهاني(1206هـ) في كربلاء، إلاّ أن الجوّ العلمي العام قد تسرّبت إليه بعض الملامح الأخبارية، مثل: فكرة الاحتياط، التي دام الجدل حولها، واختلف معهم في تفاصيلها الأصوليون.
إلاّ أنّ هذا الاختلاف النظري بدا متضائلاً في الجانب التطبيقي، حيث أدّى التركيز على فكرة الاحتياط إلى تكوّن حساسية خاصّة تجاه المحتملات في المسائل الفقهية؛ رُبَما بسبب تظهير روايات الاحتياط، وتسليط الضوء الشديد عليها، فصار الفقيه حين يواجه مسألةً معيّنة يلتفت إلى كلّ احتمالٍ فيها، يدفعه إلى ذلك حساسيّته النفسية من الوقوع في شبهة مخالفة واقع الحكم الشرعي، انطلاقاً من التوصيات الواردة في الروايات بالاحتياط والوقوف عند الشبهات. ولعلّ هذا ما يفسِّر وضوح ظاهرة الاحتياط في الفتوى بعد ظهور المدرسة الأخبارية مقارنة بما قبلها.
الرابع: التأثُّر ببعض الفقهاء
يمكن أن نضيف عاملاً آخر من العوامل المساعدة على ذهاب الفقيه إلى الاحتياط في الفتوى، وهو تأثُّر الفقهاء بفقهاء آخرين. وهو حالةٌ متوقّعة وعفوية؛ إذ من طبيعة الإنسان أن يتأثَّر بمَنْ حوله، ولا سيّما إذا كان ينظر إليه باحترامٍ، ويعرف منه القوّة العلمية، وشدّة التقوى، وحينئذٍ يعطي لأفعاله وجوهاً واحتمالات للصحّة، حتّى لو لم يعرف تفسيراً أو تبريراً واضحاً لها. ويزداد هذا التأثُّر إذا التفت إلى السبب العلمي، حتّى لو لم يكن مقتنعاً به بالكامل.
وفي ما نحن فيه نرى أنّ طريقة الفقهاء في العصور المتأخِّرة في بيان آرائهم وفتاواهم هو أن يأخذوا كتاباً فقهياً سابقاً (رسالةً عملية لأحد الفقهاء السابقين)، ويعمدوا إلى التعليق عليها، وهذا ما يستدعي نظرهم إلى فتاوى صاحب الكتاب واحتياطاته، وهذا ما يجعلهم أحياناً يلتفتون إلى مواطن احتياطاته، فيَجْرُون هم أيضاً على ذلك في تعليقاتهم.
ولولا نظرهم هذا رُبَما لم يحتاطوا، بل صرّحوا بآرائهم فيها. ونحن هنا لا نريد أن ننفي وجود مبرِّر للاحتياط، بل نحتمل أن يكونوا قد التفتوا إليه من خلال احتياطات الفقيه الذي علّقوا على كتابه الفقهي وفتاواه.
وإذا أردنا أن نأتي بشاهد على هذا التأثُّر سنجد خير مثال هو العروة الوثقى، للسيد اليزدي، والذي علّق عليها معظم الفقهاء المعاصرين، وجَرَوْا على كثير من احتياطاته فيها وقبلوها، أو أنّهم تنزّلوا من الفتوى التي يقول بها إلى الاحتياط، وإنْ اختلفوا معه في بعضها، وصرّحوا بفتاواهم فيها.
ولعلّنا نعطي هذا العامل أهمّيةً حينما نجري مقارنة بين كتابين فتوائيين لمرجعٍ واحد، يكون أحدهما تعليقاً على كتاب فقيهٍ آخر، للاحتياطات حضورٌ كبير فيه، ويكون الكتاب الثاني ابتدائياً من تأليف المرجع نفسه؛ حيث نلاحظ تفاوتاً في عدد الاحتياطات.
ويمكننا أن نطرح مقارنةً مقترحة بين منهاج الصالحين، للسيد الشهيد الصدر، الذي كان ناظراً فيه إلى منهاج السيد محسن الحكيم، وبين الفتاوى الواضحة، الذي طرح فيه فتاواه في آخر حياته، فلا تتعدّى الاحتياطات في الثاني العشرة، بينما في الكتاب الأوّل تزيد على العشرات.
وكذلك حين نجري مقارنةً بين كتاب منهاج الصالحين، للسيد الخوئي، وبين تكملة المنهاج، الذي أضاف فيها السيّد نفسه الأبواب التي لم يتطرَّق إليها السيد الحكيم، رضوان الله عليهم جميعاً.
الخامس: فقدان الحرّية العلمية
تتيح أجواء الحرّية في المجتمع العلمي المجال أمام العلماء وطلاّب العلم، وتوفّر لهم الطمأنينة حين يريدون أن يطرحوا نظريات أو آراء جديدة مخالفةً للسائد والمشهور، أو حين تنقدح في أذهانهم أسئلة في موضوعات حسّاسة، فلا يتردَّدون في ذلك، ولا يضعون في أذهانهم ونفوسهم هواجس تعيق انطلاقتهم الفكرية.
بينما تنقلب الصورة تماماً في أجواء القمع أو الحَذَر الشديد والتوجُّس من أيّ رأيٍ جديد أو سؤال حسّاس، فعندما تواجه الأفكار العلمية المختلفة بالتحذير منها أو الاستهزاء بها، وعندما يقيَّم الرأي على أساس كونه موافقاً أو مخالفاً للمشهور والمتعارف، بَدَلاً من التعامل معه على أساس انطباق المعايير الموضوعية عليه،
في هذه الحالة سوف يتردَّد العالم في تبيين رأيه المخالف، ويتخوَّف الطالب من طرح سؤاله غير المعتاد. وهذا ما نستطيع اعتباره من عوامل اشتداد ظاهرة الاحتياط في الفتوى؛ حيث لن يتجرّأ الفقيه، أو سيضع حساباتٍ كثيرة قبل أن يبيِّن رأيه العلمي ويفتي به.
المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الاحتياط في الفتوى .. دراسةٌ في المفهوم والمناشئ والآثار / القسم الثاني. للسيد أمير العلي؛ باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من المملكة العربيّة السعوديّة. مجلة نصوص معاصرة