كشف-الأسرار

ولاية الفقيه في كتاب “كشف الأسرار” / الدكتور محمد حسن رجبيّ

الاجتهاد: تتجلّى أهمّيّة كتاب “كشف الأسرار” أكثر عند بحث مسألة “ولاية الفقيه” و”الحكومة الإسلاميّة”، والتي -مع الأسف- لم تحظَ بالاهتمام جيّدًا.

يعتقد الكثير أنّ الإمام الخمينيّ قدس سره طرح مسألة ولاية الفقيه خلال بحوثه الدراسيّة في مدينة النجف، بينما بحث المسألة في كتابه “كشف الأسرار” قبل خمس وعشرين سنة.

وكما ألمحنا سابقًا، فإنّ الإمام قدس سره نشر كتابه وأفكاره هذه في وقتٍ لم تشهد الساحة نشاطًا من علماء الدين بالأخصّ، والأمّة لم تُشعل فتيل انتفاضاتها الشعبيّة ضدّ الاستعمار.

والجدير بالذكر، أنّ ما ذكره الإمام قدس سره في كتابه “ولاية الفقيه”، وأثناء خطاباته وكلماته، حول ماهيّة المسألة وحدود اختيارات الحكومة الإسلاميّة وأبعادها، هو بعينه ما ذكره في كتابه “كشف الأسرار” سابقًا. ومن هنا، نرجع لنرى أبعاد المسألة، وبشيءٍ من الاختصار.

يبدأ الإمام قدس سره بتفسير آية ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ ، ويعتقد الإمام قدس سره “أنّ الله أمر، بهذا، بناء كيان دولة إسلاميّة… ولمّا كان الأمر شاملًا للأمّة الإسلاميّة كافّة، بأنّ تطيع تلك الحكومة المعبَّر عنها بـ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾، فلا بدّ من وجود حكومة واحدة لا غير…”.

أمّا من هم ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ فهنا تقع المسألة في بحث عميق بين المذاهب الإسلاميّة، ويتطرّقون لها بالبحث والتفصيل المعمّق.

وبعد أن يطرح آراء بعض المذاهب بـِ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾، بأنّهم حكّام البلاد القائمون في أيّ زمان ومكان، يردّهم بالدلائل والبراهين العقليّة. “يرى أنّ أشخاصًا جهلة ومهرّبين جناة لا يمكن أن يكونو أولي أمرٍ لأمّةٍ ما”، ومن ثمّ يتطرّق إلى آراء ونظريّات علماء الشيعة.

والإمام قدس سره، كغيره من كثير من العلماء والفقهاء الشيعة الآخرين، يرى أنّ تفسير ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾ هو “ولاية المجتهد”، أو “ولاية الفقيه”، ويستدلّ بآراء فقهيّة شافية. والولاية، برأيه، هي ليست ولاية تنفيذيّة فقط، بل هي قيادة وهداية ورشاد.

“حينما نقول ولاية الفقيه، لا نقصد أن يكون الفقيه رئيسًا أو وزيرًا أو قائدًا عسكريًّا، إنّما نقصد بذلك إشرافه التامّ والنافذ على القوى التشريعيّة والتنفيذيّة للبلاد، تحت إطار الدين الإسلاميّ”.

“نحن لا نريد حكومةً باسم فقيه، إنّما نطالب بحكومةٍ تتماشى مع قوانين الله تعالى ودستوره الحكيم، الذي هو رحمة للعالمين، وهذا لا يتحقّق إلّا بوجود العلماء وأهل الدين”.

والإشراف ليس شكلًا صوريًّا لأوامر ونَواهٍ، بل هو ضمان التنفيذ:
“الكلام بذاته لا يغيّر شيئًا… يجب فرض قوّة تنفيذيّة بعد القوّة التشريعيّة… ويجب الربط والانسجام بين هاتَين القوّتَين. وما دامت هاتان القوّتان منفصلتَين عن بعضهما، فإنّه من المستحيل الوصول إلى الهدف”. ولفهم المسألة أكثر، يتطرّق إلى مقايسة نظام الحركة الدستوريّة بالنظام الإسلاميّ الذي يطرحه.

إدارة النظام الإسلاميّ ممكن أن يترأّسها فقيهٌ أو أشخاص أُخر، وتجب طاعته، شريطة أن يكون هذا الشخص أو الأشخاص جامعًا للشرائط: “الرسول والإمام والمجتهد، في حال يستطيعون منح القيادة لفردٍ ما، شريطة عدم إعراضه عن قوانين الله – سبحانه وتعالى -، والتي من أساسها العدل والعقل. قوانين حكومته الرسميّة هي قوانين الله السماويّة نفسها، لا قوانين أوروبّيّة تعيسة. وطبقًا للعقل والدستور،

فكلّ قانون يخالف قوانين الإسلام هو ليس مشروعًا في البلد”.

ثمّ يتطرّق الإمام قدس سره إلى الإجابة عن السؤال الذي يستفسر عن تعليل وجود بعض العلماء والمتديّنين في النظام غير الإسلاميّ آنذاك، فيجيب قائلًا:

“نحن نؤكّد أنّ كلّ من يستطيع أن يخترق ويَنفذ إلى النظام الديكتاتوريّ الجائر، ويستطيع أن يقدّم ما بوسعه من خير للشعب والبلاد، ويعرقل أعمال الجهاز الحكوميّ البشعة والمنافية للأخلاق والمُثل، هو عمل محبّذ ومقبول، بل وأحيانًا قد يتعيّن عليه ذلك بالوجوب”. ويدعم قوله هذا ويؤيّد رأيه بتصريحات الشيخ مرتضى الأنصاريّ.

إنّ سعة النظام الإسلاميّ وقوانينه وشموليّتهم لا تنحصر في مجالٍ من مجالات الحياة الاجتماعيّة، بل “هو قانونٌ شاملٌ كامل، يتطرّق إلى المجالات كافّة، بما فيها كيفيّة صبغة النظام، وتقنين نظام الضرائب، ودروس القوانين الحقوقيّة والجزائيّة، وما يرتبط بنظام البلد من تهيئة الجيش وإدارة الدوائر الرسميّة، وكلّ ما يرتبط بالحكومة وكيانها…”.

يؤكّد الإمام قدس سره، من جانب آخر، على إقامة الحكومة الإسلاميّة بمجالاتها وأبعادها كافّة، فيقول: “أساسُ الحكومةِ الإسلاميّةِ: القوّةُ التشريعيّةُ، والقوّةُ التنفيذيّة،ُ والقوّةُ القضائيّةُ، وبيتُ مال المسلمين، والجهادُ في سبيل الله، إن كان دفاعًا عن البلاد والدين، أو هجومًا لبسط رقعة الإسلام، هذا كلّه أتّى مفصّلًا في القرآن والسنّة. فالقرآن كما هو دستور ومجموعة قوانين، فهو مهتمّ بالجانب التفيذيّ أيضًا، وكما وصفَ ودرسَ ميزانيّة البلاد بأحسن وجه، فهو كذلك رسم لنا الطريق بكيفيّة إدارة البلاد والحفاظ عليها”.

وبعد هذا، يتطرّق إلى شرح أصول الدستور الإسلاميّ وتفصيله، في مجال القضاء (الحقوقيّ والجزائيّ والجنائيّ)، والنظام (الجبريّ والاختياريّ)، والضرائب (وكيفيّة جمعها وصرفها)، و… إلخ، مُستندًا إلى دلائل وأصول فقهيّة. فمثلًا، عندما يتطرّق إلى شرح بنود الضرائب، يقول: “في النظام الإسلاميّ، تتفرّع الضرائب إلى فروع، فبعضها

يُفرَض فرضًا، وبعضُها يُؤَدَّى ندبًا واختيارًا. وأرى من الضروريّ شرحها باختصار.

تنقسم الواجبة أيضًا إلى قسمَين:
الأوّل: الضرائب السنويّة الدائمة، وهي التي تُؤخَذ في حالة السلم، وعند قيام الحروب والانتفاضات.

والثاني: الضرائب المؤقّتة، وهي التي تُؤخَذ عند الضرورة، وهي غير محدّدة. بالطبع، تُفرَض حينما ترى الحكومة الإسلاميّة عدم كفايتها واعتمادها على الضرائب من القسم الأوّل، ولأنّها ضرائب غير مباشرة، فللحكومة الخيار بتحديد الكمّيّة التي تتطلّبها، قد تجعلها الحكومة قرضًا موقّتًا إذا رأَت في ذلك صلاحها -ويجب مراعاة العدل والقسط بذلك- أمّا عند عدم كفايتها، واحتمال الضرر على الحكومة وكيانها، فلها أخذ ما يملكونه كلّه لدفع الضرر”.

ومن ثمّ يتطرّق إلى شرح البنود الخمسة من الضرائب المباشرة: “التي تُصرَف لإدارة البلاد، ولاحتياطيّ الميزانيّة، ولتأمين مصالح البلاد والجيش، التي هي من قسم الضرائب المفروضة”.

سؤال يطرح نفسه، وهو: هل القوانين والأحكام التي أشارَت إليها الكتب الفقهيّة وصرّحت بها، هل هي كافية لإدارة بلد إسلاميّ بمستحدثاته وظروفه المستجدّة؟ وإذا لم تكن هناك تصريحات وأخبار بهذا الصدد، ما هو واجب الدولة الإسلاميّة تجاهها؟

يجيب الإمام قدس سره قائلًا:
“إنّ القوانين التي تستجدّ وتُستَحدَث بمرور الزمن، وتشكّل ركنًا من أركان الدولة الإسلاميّة، تُطرَح للدراسة والبحث… فإذا وافقَت الشرع، ولم تخالف الدستور الإسلاميّ، وهي بذاتها عائدة بالمصلحة والنفع على البلاد والعباد، فإنّها تُقَرَّر حسب الشريعة الإسلاميّة، عبر علماء الدين من ذوي الاختصاص والمهارة، وتخرج إلى حيّز التنفيذ… ولو لم يأتِ لها ذِكرٌ في النصوص والأخبار”.

ومضافًا إلى شرحه بعض قوانين الإسلام، فإنّه تطرّق إلى النشاطات الداخليّة ضمن

الإطار الدينيّ والإسلاميّ، من قِبَل منظّمة الإعلام الإسلاميّ ودائرة الإرشاد الدينيّ، فيقول:

“دائرة الإرشاد الدينيّ هي من أكبر الدوائر في الحكومة الإسلاميّة وأهمّها، ويشكّل منتسبوها أبناء الشعب جميعهم من رجال ونساء”.

مَهمّة هذه الدائرة هي القيام بالنشاط الدينيّ عن طريق الصحف والمجلّات والإذاعة، وتقوم بتربية الشعب على الأخلاق الإسلاميّة الفاضلة، وهي مُقيّدة “ببثّ الجوّ الروحانيّ في صفوف الجيش”، من أجل بناء الروح الإلهيّة الفدائيّة في قلوبهم، وهذا هو الذي “يدفع المقاتل للتضحية والجهاد حتّى آخر قطرة دم في عروقه”.

يعتقد الإمام قدس سره أنّ جميع قوانين الله – سبحانه وتعالى – لها جانبان: معنويّ ومادّيّ. ونلاحظ البُعد الدنيويّ والبُعد الأُخرويّ: “فمثلًا، نرى نداء التوحيد والتقوى للبشريّة من قِبَل الله – سبحانه وتعالى – بلغ أهمّيّة قصوى في الجانب المعنويّ، حيث تدخَّل في بناء نظام الدولة والحياة الاجتماعيّة والتطوّر والتمدّن بشكلٍ كاملٍ وملحوظ”.

وهذه المعنويّة دخلَت أيضًا في المجال المادّيّ، فمثلًا “قانون الضرائب… الذي يؤمّن الحياة الاقتصاديّة للحكومة وإدارتها للبلد… صِيغَ بشكلٍ نلحظ فيه الجانب المعنويّ، فالذي ينفق ماله استجابةً لقوانين الدولة الإسلاميّة، يحسّ ويشعر بأنّه يسير في طريقٍ يتقرّب به إلى الله تعالى، والذي يضمن به الروح المعنويّة والإنسانيّة، وكذا الحال بالنسبة لقوانين القضاء وغيرها… وهذا من فضل هذا النظام المتكامل”، وهو خلاف “ما جاءت به البشريّة من قوانين مادّيّة بحتة، تدعو الجماهير للسير نحو حياة فانية، غافلين عن الآخرة الباقية”.

مضافًا إلى أنّ الحكومات غير المسلمة تبني نفسها على المصالح الذاتيّة والديكتاتوريّة، وإن تغيّرَت ألقابها وأسماؤها:
“… منذ أوّل حكومة سجّلها التاريخ لنا، وليومنا هذا، فإنّ جميع الحكومات العظمى قامت بحدّ السيف والقوّة على رؤوس الضعفاء، متّخذةً أسماءً وألقابًا

مصطنعة، تخدع بها الشعوب، وتخضع لها رقابها، وتقدّمها قرابين لمصالحها وغرائزها… تلك الأسماء والألفاظ كلّها – باختلاف ألوانها وألفاظها – هي غطاء لشكل واحد، وحكومة واحدة، ولا فرق بين تلك الحركة الدستوريّة والاستبداد والجور، ولا بين الديكتاتوريّة والديمقراطيّة، فكلّها حيل وخداع…”.

وفي نهاية المطاف، نرى أنّه من الضروريّ الإشارة إلى بعض النقاط:
أوّلًا، يرى الإمام قدس سره أنّ جميع الحكومات الإسلاميّة والمتحضّرة السابقة هي حكومات غير إسلاميّة بكلّ معنى الكلمة، وذلك “لعدم تمسّك زعمائها بالدين الإسلاميّ الحنيف وتعاليمه”، وأنّ ما قاموا به من كسب وموافقات وتأييدات من رجال الدين “كان شيئًا صوريًّا روتينيًّا”.

ومع هذا كلّه، “وإن كانت بعض قوانينهم بعيدة عن الإسلام، فالمسلمون أقاموا دولًا وحكومات عديدة ومتحضّرة أدهشوا بها العالَم آنذاك”.

أمّا النقطة الثانية التي تطرّق لها الإمام قدس سره، فهي مسألةُ انخداع بعض المتحضّرين المسلمين بثقافة الغرب وتحضّره… ففي طوال المئة والخمسين عامًا المنصرمة، انجرف كثيرٌ من المسلمين المغفّلين، وحتّى بعض الواعين أيضًا، في بحر الدعاية والإعلام الغربيّ، إذ كانوا يرون أنّ الغرب هو المطبّق الأصيل للتعاليم الإسلاميّة، دون دخول الإسلام إليهم، ولهذا وصلوا إلى هذه الدرجة من الرُقيّ والتحضّر، وما علينا إلّا أن نتّبع خطواتهم في كيفيّة تطبيق قوانين الإسلام حسب المنهج الغربيّ، فبذلك نرتقي إلى عصر الحضارة والتجدّد.

وكان هذا مدعاة لشعور بعضهم بإحساسهم بالحقارة وبالذلّة أمام الحضارة الغربيّة، وإن وعى هذه الخديعة ثلّةٌ منهم فيما بعد. ويصوّر لنا الإمام قدس سره مشهدًا رائعًا لتنديده بهؤلاء الجهلة المغفّلين، ويشير إلى جرائم الأوروبّيّين أثناء الحرب العالميّة الثانية، فيقول:

“…إنّه لمن المؤسف حقًّا، بل هو من العار، أن يتصوّر أحدٌ أنّ الغربيّين طبّقوا تعاليم الإسلام وبلغوا هذه الدرجة من الحضارة! فأين هذه الحضارة؟ وإلى أين وصلوا؟ هل حضارة أوروبّا، التي يتمنّاها ثلّةٌ من المنحرفين، هي جزءٌ من الأمم المتحضّرة؟

ما هي علاقة أوروبّا بالإسلام والدين الحنيف… أوروبّا التي قامت على سفك الدماء والقتل وإذلال الشعوب لأجل شهواتها وغرائزها وآمالها الدنيئة، فأين هذه وهؤلاء من الإسلام وعدالته وقوانينه الإنسانيّة؟… إلى أين بلغت أوروبّا كي نمدحها ونثني عليها؟ أوروبّا التي قضت على النساء والأطفال، وقطّعتهم إربًا إربًا بقنابلها وسلاحها، ومع هذا كلّه نعتبرها تحضّرًا؟!

أين مكانة الإسلام في أوروبّا؟ إنّ ما يجول في أوروبّا من ظلمٍ وجورٍ لَهو بعيدٌ عن الإسلام وعدالته أشدّ البُعد… لو كان الإسلام قد دخل أوروبّا حقًّا، لقضى على جميع فِتَنِهم وإرهابهم التي يقرفها حتّى الوحش…

إنّ حياة أوروبّا اليوم هي أقذر حياة تمرّ بها القارّة الأوروبّيّة وأسخفها، بحيث لا تنسجم مع أيّ دين وعقيدة”.

أمّا النقطة الأخرى والأخيرة، فهي تعرّض الإمام قدس سره لأفكار المستشرقين، أمثال “غوستف لوبون” و”جرجي زيدان”، الذين سُحِروا ببعض المظاهر، فابتعدوا عن فهم الدين الإسلاميّ واستيعابه، رغم ثقافتهم:

“… الناس أقلّ شأنًا من أن يعوا أبعاد التحضّر الإسلاميّ… أولئك لا يفهمون من حضارة الإسلام سوى الرسوم المزخرفة والفنّ المعماريّ الإسلاميّ والأبنية العجيبة والأقمشة المطرّزة وغيرها، التي لا هي، ولا مئات منها، تُحسَب على التحضّر الإسلاميّ والدينيّ”.

وإلى هنا، نُنهي تعليقاتنا على كتاب “كشف الأسرار”، ونتركه للباحثين والدارسين والمحقّقين، سائلين المولى التوفيق والسداد.

 

 

المصدر: كتاب الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره.

تأليف: محمد حسن رجَبيّ،  ترجمة: فاضل عبّاس بهزاديان

 

تحميل الكتاب 

الحياة السياسيّة للإمام الخمينيّ قدس سره

تأليف: محمد حسن رجَبيّ ترجمة: فاضل عبّاس بهزاديان

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky