البقيع

وصف من شاهد عيان لمقبرة البقيع قبل هدمها وبعده / السيد عبد الحسين الحيدري

الاجتهاد: زار قبور أئمة البقيع الأربعة قبل تهديمها العالم الفاضل والحاكم العادل السيد علي السيد عبد الله السيد علي خان الموسوي المشعشي الحيدري قبل ثلاثمائة عام. فقد ذكر في كتابه {الرحلة المكية} المخطوط، تفاصيل الزيارة.

يقول المؤلف: وأما البقيع فهو خارج سور المدينة ومحاذي الرّوضة المشرّفة، ما بين الجنوب والمشرق، وفيه القبور المنوّرة الأربعة للأئمة الكرام (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، أعني: أبا محمد الحسن المجتبی، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي باقر العلوم، وجعفر بن محمد الصادق القول (صلوات الله وسلامه عليهم)، وتزار فاطمة (عليها السلام) في قبّتهم ممّا يلي وجه ولدها من القبلة(1).

في تلك القبة المنورة مدفن العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخارج القبة بفاصلة قليلة من طرف سهيل(2) قبّة وهي القبّة التي يُقال أنّها مبنية على بيت الأحزان، وكانت فاطمة (صلوات الله وسلامه علیها) تخرج إليه وتبكي على أبيها فيه.

تشتمل مقبرة البقيع على قباب كثيرة مثل: أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) وبنات النبي (صلى الله عليه وآله) وأولاد النبي (صلى الله عليه وآله) ومرضعته حليمة السّعدية، وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام).

فهذه القبور والقباب والآثار التي ذكرها المؤلف في كتابه ليس لها أثر ولا عين في الوقت الحاضر.

فأملنا بالله قوي أن تظهر تلك القبور وتلك القباب والمزخرفات التي كانت موجودة على قبور أئمتنا الأطهار إلى حيّز الوجود بأحسن ممّا كانت عليه، في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.

وصف لمقبرة البقيع بعد تهديمها بعدة شهور

وهنا وصف آخر من شاهد عيان آخر كان قد زار البقيع في سنة (1925م) أي بعد تهدمها بعدّة شهور، الزائر هو «المستر رتر» (3)،

فلنستمع إلى ما يقوله عن زيارته:
وحينما دخلت إلى البقيع وجدت منظره كأنّه منظر بلدة قد خُربت عن آخرها، فلم يكن في أنحاء المقبرة كلّها ما يمكن أن يرى أو يشاهد، سوی أحجار مبعثرة وأكوام صغيرة من التراب لا حدود لها، وقطع من الخشب والحديد مع كتل كثيرة من الحجر والآجر والسّمنت المتكسّر هنا وهناك.

قد كان ذلك أشبه بالبقايا المبعثرة لبلدة أصابها الزّلزال فخرّبها كلّها. ووجدت بجنب السور الغربي للمقيرة أكواماً كبيرة من ألواح الخشب القديمة والكتل الحجرية وقضبان الحديد، وكان بعض ما جمع من المواد الإنشائية المبعثرة و كُوّم هناك بانتظام، وقد أُزيلت الأنقاض من بعض الممرّات الضيّقة حتى يتمكّن الزائرون أن يمرّوا منها ليصلوا إلى مختلف أنحاء المقبرة.

في ما عدا ذلك لم يكن هناك ما يدلّ على شيء من الانتظام، فقد كان كلّ شيء عبارة وعورة تتخلّلها مواد الأبنية المهدّمة وشواهد القبور المبعثرة ولم يحدث هذا بفعل الزمن و عوارض الطبيعة بل صنعته يد الإنسان عن تقصد وعمد.

فقد هُدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت تدلّ على قبور آل البيت النبوي في السّابق، وقبر الإمام مالك وغيرهم، وأصاب القبور الأخرى نفس المصير فسُحقت و هُشمت حتى الأقفاص المصنوعة من أعواد الجريد التي كانت تغطّي قبور الفقراء من الناس قد عُزلت جانباً وأٌحرقت.

ويقول «مستر رتر» وحينما توغّلنا في داخل المقبرة لمشاهدة الأكوام التي تدلّ في يومنا هذا على قبور المسلمين الأوائل الذين صنعوا التاريخ الحافل سمعتُ دلیلی عامداً يكرّر بهمس ويقول:

أستغفر الله أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان القلة ممّن بقي من سدنة القبور التي بقيت معالمها شاخصة للعيان، يقفون أو يجلسون بجنبها بأوجه كئيبة ومن دون أن تبدر منهم أيّة حركة، فلم يطلبوا الصّدقة ولم يتكلموا بشيء سوى بعض الكلمات الخافتة برغم عدم وجود أحد من الوهابيين على مقربة منهم غير اثنين من عبيد ابن سبهان في الباب.

لكن بعض النّخاولة كانوا لا يزالون منشغلين في إلتقاط بعض القطع الصّالحة لإستعمالها في بيوتهم، من الخشب وغيره يلتقطونها من بين الخرائب والأنقاض.

ليس بوسع هؤلاء النخاولة أن يدفنوا موتاهم في العادة بين قبور الأولياء في البقيع ولكنهم قاموا الآن تحت إشراف السّلطة وإرغامهم على تهديم وتدمير قبور المسلمين الموجودة في البقيع.

لقد سرنا في ممر ضيّق وكنّا نتجوّل بين الأنقاض والأزبال المبعثرة هنا وهناك، ثمّ توجهنا إلى الجهة من المقبرة وفيما كنا نخطو بخطوات بطيئة إلتقينا بجماعات من الهنود التي كانت راجعة من زيارة هذه المقبرة وكان الذي يتقدّم هذه الجماعات من الهنود رجلاً مسناً ذا لحية طويلة وقد خطّ الشّيب سوادها.

كان وهو يمشي منتصب الرّأس لا يحرّك عينيه يمنة ولا يسرة، بل كان ينظر إلى الأمام على الدّاوم والدّموع تنحدر من عينيه بتيّار مستمر، أما الذين كانوا يسيرون وراءه فقد نظروا إلينا نظرة خاطفة ثمّ حوّلوا أنظارهم إلى الأمام بسرعة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى مرتفع بسيط وعندئذٍ عرفت سبب الحزن الذي كان يبدو على الهندي المسن والذي كانت الدموع تنهمر من عينه، فقد كانت هناك بين أيدينا على الأرض قطعة من الخشب يظهر أنها مقلوعة من صندوق خشبي كان موضوعاً على أحد القبور فعلمت أنّه كان يبكي على هذه القطع من الأخشاب التي كانت من بقيّة الصناديق التي تُوضع على قبور المسلمين سابقاً، ورأيتُ هندياً آخر كان جالساً بجنب خشبة وهو يبكي وينتحب على مصير قبور المسلمين المهدّمة.

 

——–

(1) ماذكره المؤلف يؤيّد رأي من يقول: أنها “سلام الله عليها” مدفونة في البقيع.

(2) يقصد به نجم سهيل المعروف

(3) {موسوعة العتبات المقدسة}: جعفر الخليلي – ص: 328 .

 

المصدر: كتاب قبور أئمة البقيع قبل تهديمها – وصف لها من شاهد عيان كان قد زارها قبل ثلاثمائة عام – تأليف: السيد عبد الحسين السيد حبيب الحيدري الموسوي – دار السلام -بيروت -لبنان ( 1419هـ – 1998م)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky