هدية البعثة في عالمنا المعاصر / الدكتور محمدتقي سهرابي فر

خاص الاجتهاد: لقد أدّى ظهور الإنجازات البشرية المذهلة منذ عصر النهضة إلى تعزيز الشعور بالاعتماد على الذات لدى الإنسان، لدرجة أن العصر الحديث اعتبر عصر بلوغ الإنسان. ومن ناحية أخرى، فإن النزاعات والحروب والجرائم التي ارتكبت باسم الدين قد جعلت السؤال عن حكمة البعثة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

للأسف، ازدیاد المناقشات العقيمة والتفاسير البعيدة عن الواقع في المجال الديني، قد ضيّق مساحة طرح الأسس الحقيقية لرسالة بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). لذلك، بمناسبة ذكرى مبعث النبي، نود أن نستعرض بعضًا من أهمّ تعاليم بعثته الخالدة:

فهرس العناوين:
الحياة الأبدية
الإنسان: حيوان متطور أم كائن سامٍ؟
إمكانية تحديد الماهية
الأخلاق القرآنية الفريدة
تزكية النفس وتقويمها
الصلة بالعالم الآخر
التفكر
السفر إلى حقيقة العالم (الملكوت)
التخلص من الوحدة

الحياة الأبدية
لا يُذكر موضوع البعث والمعاد بشكل تفصيلي في تعاليم موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام، على عكس القرآن الكريم الذي خصص حوالي ثلث آياته للحديث عن المعاد والآخرة (1).

لا شك أن عقيدة المعاد والحساب، شأنها شأن العديد من التعاليم العقائدي الأخرى، قد استغلت لأغراض دنيوية، كما أن الحياة المعاصرة المليئة بالملذات قد شغلت الناس عن التفكير في المعاد والآخرة. ومع ذلك، فإن كل هذه العوامل لا تستطيع أن تنفي أهمية هذا الاعتقاد وجدّيته، ولا أن تطمس حقيقة أبدية الإنسان.

من أهمّ ما جاء به الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم بشرى بقاء وأبدية الإنسان. وتكفي للإشارة إلى أهمية هذا الخبر أن كل تخطيطاتنا وسلوكياتنا في الحياة العملية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإجابة هذا السؤال الأساسي: هل الإنسان كائن فاني عمره سبعون أو ثمانون عامًا، أم هو كائن أبدي؟

الإنسان: حيوان متطور أم كائن سامٍ؟
إن نوعية النظرة إلى الإنسان من أعمق الاعتقادات التي تؤثر على جميع جوانب حياة الفرد والمجتمع. فهل الإنسان مجرد حيوان متطور يتميز بذكاء وقدرات خاصة، أم أنه كائن له خصوصية تميزه عن سائر المخلوقات؟

من أهمّ تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الإنسان، بالإضافة إلى كونه مادةً نباتيةً وحيوانيةً، يتمتع بجانب روحاني متعال. فقد نفخ الله فيه من روحه(2). الإنسان ليس مجرد حيوان متطور، بل هو كائن له قيمة أسمى تتجاوز حدود الغرائز الحيوانية. فهو قادر على التصرف عكس غرائزه سعياً وراء هدف أسمى، وهذه القدرة تنبع من هذا الجانب الروحاني والمتعالي السامي فيه.

إمكانية تحديد الماهية
لا تستطيع الحيوانات أن تغير نوعها و طبيعتها خلال حياتها. فالخراف تولد خرافًا وتموت خرافًا.

لكن وفقًا لتعاليم البعثة، فإن الإنسان يولد مزودًا بمجموعة من الإمكانات والقدرات والقوى، وهو يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل ماهيته. ولهذا السبب، يختلف الناس عند الموت، فيصبح كل فرد نوعًا مختلفًا وله طبيعة خاصة به، بدءًا من أشد الناس وحشية وانتهاءً بأفضلهم. ولهذا يفسر بعض الفلاسفة آية “إذا الوحوش حشرت” بأنها تشير إلى حشر بعض الناس على صورتهم الحقيقية التي اكتسبوها بأفعالهم(3).

بعبارة أخرى، فإن من أهم نتائج البعثة نفي النظر إلى الإنسان على أنه مجرد شيء. الإنسان في تطور مستمر، وهو يختار بوعيه وأفعاله مصيره في الحياة الآخرة، هل يكون كأحد الحيوانات أم كواحد من الملائكة؟ ورسالة البعثة الإلهية تؤكد من خلال هذا المنظور على أهمية كيفية عيش الإنسان في هذه الحياة.

الأخلاق القرآنية الفريدة
كانت سُبل نشر الأخلاق الحميدة بين الناس من أهم اهتمامات أعلام الأخلاق. وقد اعتُبر في بعض الأحيان تحقيق الأهداف الدنيوية كالعزة والاحترام والأمن غاية أخلاقية لتحفيز الناس على السلوك الأخلاقي(4). أما لدى المؤمنين، فقد عُرضت المكافأة الإلهية والنجاة من العقاب الإلهي كغاية أخلاقية.

يرى العلامة الطباطبائي أن القرآن وأهل البيت عليهم السلام قد قدّما منهجًا ثالثًا. يتمثل هذا المنهج في إزالة جذور الرذائل الأخلاقية من خلال المعارف التوحيدية. فالإنسان الذي يدرك حقيقة أن العزة(5) والقوة(6) والمالكية(7) والربوبية(8) والخالقية(9) والاستغناء(10) وغيرها من الصفات لله وحده، ويشعر بفقره واعتماده التام على الله، يزول عنه التكبر والرياء والخوف والقلق وغيرها من الرذائل، ويحل محلها الطمأنينة والثقة بالنفس والعفة والكرامة(11). هذا المنهج يقوم على أساس حقيقة مكانة الله والإنسان، ويؤدي إلى أرقى الأخلاق.

تزكية النفس وتقويمها
 إن ضرورة تزكية النفس وتهذيبها من أبرز تعاليم البعثة، وهي تعاليم شاملة لكل زمان ومكان(12). والواقع أن النفس البشرية هي ألدّ أعداء الإنسان(13)، سواء في العصر الحجري أو عصر الذكاء الاصطناعي، فالإنسان في حاجة ماسة إلى هذه التزكية. وتؤكد الأحداث التاريخية والمعاصرة، مثل مأساة فلسطين المحتلة، أن التقدم العلمي البشري، مهما بلغ، لا يقلل من أهمية تزكية النفس بل يزيدها. وإنّ إنذار البعثة بطغيان البشر لاسيما في أوقات الشعور بالاستغناء هو إنذار شديد ومستمر.(14)

الصلة بالعالم الآخر

يتحدث القرآن صراحةً عن علاقة الإنسان بالمخلوقات الغيبية.[15] وتنزل على الإنسان الملائكة والشياطين، وهم سادة الكون، فيؤثرون في فكره وقلبه.

نقل عن بعض علماء النفس قولًا ذهبيا: “عندما تفكر، فأنت في الحقيقة تستمع”. وبصرف النظر عن التفسير الذي نقدمه للإلهامات الإلهية والشيطانية، يجب أن ننتبه إلى أننا كبشر نتعرض باستمرار لأفكار تُلقى علينا. فالإنسان المعاصر يقلق أحيانًا بشأن الكائنات الفضائية، متناسياً الآثار الواضحة للأفكار والوسوسات الشيطانية في حياته الفردية والاجتماعية.

التفكر
“التفكر”من الواجبات المتفق عليها في الدين، مع الأسف لا نجده مدرجًا في قائمة الواجبات في الرسائل العملية. يصر القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أن الغاية من الكثير من الآيات هي تحريك الإنسان للتفكر[16]، وفي الأحاديث يصف العبادة الخالية من التفكر بأنها عبادة باطلة(17). قول المفسر الحكيم في مسألة التفكير والفهم جدير بالملاحظة: “لم يأمر الله تعالى في القرآن الكريم عباده بالإيمان به أو بما جاء به عن جهل أو اتباع أعمى، ولو في آية واحدة”[18].

السفر إلى حقيقة العالم (الملكوت)
 تبشر البعثة بحقيقة الكون الخفية.[19] فكل موجود في هذا العالم مقيد بالزمان والمكان (عالم الملك)، ولكنه في عالم آخر توجد حقيقته بوجود جمعي لا متفرق في اللحظات (عالم الملكوت).

لا يعاني أهل الملكوت ما يعانيه أهل الملك من اضطراب وهم وقلق واندفاع، ذلك لأن جوهرة اليقين الثمينة هي ثمرة الوصول إلى الملكوت. ومن انتبه إلى العاملين الحقيقيين في الكون (أهل الملكوت) لم يخف من العاملين في عالم الملك.
الحوادث الغير طبيعية تدخل في نطاق عالم الملكوت، ولا يمكن إدراكها بالحواس المادية وعالم الملك.
ولذلك، وفقًا لظاهر الآية [20] وتفسير الميزان [21]، فإن النار التي رأها موسى عليه السلام في تلك الليلة المظلمة لم تكن مرئية لأصحابه.
ينبغي للإنسان المعاصر أن يستوعب هذه الرسالة الأساسية للبعثة، وهي أن الاكتفاء بالعالم المادي في كل نظرياتنا وتحليلاتنا وخططنا… يعني خسارة جوهر وجودنا.

 التخلص من الوحدة

الشعور بالوحدة لدى الإنسان المعاصر يدفعه إلى البحث عن الحيوانات الأليفة مثل الكلاب والقطط.

الحقيقة أن كل صحبةٍ دنيوية مؤقتة ومجازية، وأن من أهم فوائد البعثة إظهار الصاحب الحقيقي والأزلي للإنسان. فالإنسان مرتبط بمنشأ الكون ارتباطاً وثيقاً، وتعبده له واجب(22). وهذه الصحبة لا تعني الوجود الجسدي المشترك، بل تعني وجوده في أعماق النفس البشرية(23). وبالوصول إلى هذه الحقيقة، يتسنى للإنسان أن يخاطب خالق الكون بكل لغة وبأي مستوى فكري:

أين أنت حتى أصبح خادمًا لك، فأصلح نعليك وأمشّط رأسك!
….
يا من فداؤك كلّ أغنامي! ويا من لذكرك حنيني وهيامي!(24)

والخلاصة أنه، في زمننا هذا المليء بالاضطرابات، ينبغي للمثقف الحذر من مدعي الدين الكاذبين أو الجاهلين، مع الحرص على عدم حرمان نفسه من كنوز الدين الأصيلة.

 

* حجة الإسلام الدكتور الشيخ محمدتقي سهرابي فر (أستاذ البحث الخارج في حوزة قم العلمية)

 

الهوامش
1. ينقل آية الله السبحاني هذه الإحصائية عن العلامة الطباطبائي.(أنظر: محاضرات في الإلهيات(مجلد واحد)، جعفر السبحاني، ص397).
2.أنظر: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ.) الحجر / 29.
3.أنظر: ملاصدرا، رساله سه اصل.
4. يمكن العثور على هذا النوع من الأخلاق في آثار اليونان القديمة.
5. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) یونس/65.
6. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). البقرة/165.
7. له مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). البقرة/ 255.
8. الحمد لله رب العالمين). الحمد/1.
9. هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ). الانعام/ ۱۰۲.
10. يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). فاطر/15.
11. الترجمة والتلخيص والاستيعاب الحر من تفسير الميزان: ج1، ص355- 360.
12. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). الشمس/9 و 10.
13. أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك (الفيض الكاشاني، الوافي، ج 12، ص 216.
14.كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى). العلق /۶ و 7.
15. منها انظر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الشعراء/ 121 و 122. و (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). فصلت/30.
16. منها أنظر: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ البقرة/ 219 وكَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)البقرة 266.
17.الكليني، الكافي، ج1، ص36.
18. تفسير الميزان، ج5، ص255.
19.أنظر: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). الأنعام/۷۵.
20. إِنِّی آنَسْتُ نَارًا (القصص / 29
21. أنظر تفسير هذه الآية في تفسير الميزان.
22. هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). الحديد / 4.
23. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).الأنفال / 24.
24. مثنوي جلال الدين الرومي، الكتاب الثاني، القسم 35.

المصدر: موقع دين آنلاين بالفارسية