الاجتهاد: إن الشيعة قد اهتمّوا بواقعة الغدير منذ القرون الأولى من الإسلام. وقد استندوا إليها، واستشهدوا بها في كتبهم. وإنّ أقدم كتاب موجود من بين تلك الكتب هو كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، فقد استند إلى هذه الواقعة في مواضع مختلفة. وبعد مضيّ قرون زاد الاهتمام بهذه الواقعة، من خلال الاهتمام بتدوين الكتب المفردة والمستقلّة، حتّى شهد القرن الهجري الرابع منعطفاً كبيراً في هذا الاتجاه. / بقلم: : د. نعمة الله صفري فروشاني ترجمة: حسن الهاشمي
إطلالةٌ عابرة على شبهات الغدير
لقد تمّ طرح الكثير من الشبهات على طول التاريخ بشأن واقعة الغدير، وتوظيفها في إثبات إمامة وخلافة الإمام علي “عليه السلام”.
ويمكن تقسيم مجموع هذه الشبهات إلى مجموعتين:
أـ الشبهات التي اعتمدت مختلف القرائن لإنكار وقوع هذا الأمر.
ب ـ الشبهات التي اعترفت بوقوع الحادثة، ولكنّها ناقشت في دلالتها على الولاية المنصوصة، من خلال توظيف المسائل الأدبية والقرائن الأخرى([1]).
يبدو أن من بين الأركان الهامّة لكلتا هاتين الشبهتين عدم رواية الاستناد الواسع إلى حادثة الغدير في السقيفة وما تلاها؛ إذ لو كان أصحاب السقيفة، وكذلك عموم أهل المدينة المنوّرة ـ الأعمّ من الأنصار والمهاجرين ـ، قد شهدوا واقعة الغدير، أو استفادوا منها الولاية المنصوصة، لما كان هناك أوّلاً تجمُّع للمسلمين في السقيفة التي عُقدت من أجل التداول في أمر الخلافة وتعيين خليفة لرسول الله،
وثانياً: كان يجب في الحدّ الأدنى أن يقوم عددٌ من الصحابة ـ ولو القليل منهم ـ ليستندوا إلى حديث الغدير والبيعة للإمام علي “عليه السلام” في ذلك اليوم، وبذلك يتمّ الوقوف بوجه الذين تمرَّدوا على صريح ذلك الحديث الخطير.
وتزداد هذه الشبهة قوّةً إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفترة الزمنية الفاصلة بين حادثة الغدير (في الثامن عشر من ذي الحجّة عام 10هـ) وإقامة اجتماع السقيفة (الذي حدث، طبقاً لمشهور أهل السنّة الذين أرَّخوا رحيل النبي الأكرم، في الثاني عشر من ربيع الأول عام11هـ)، حيث تقدّر بـ (84) يوماً؛ أو طبقاً لمشهور الشيعة، الذي أرَّخ رحيل النبي وانتقاله إلى الرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر، حيث تقدَّر الفترة الزمنية بين واقعة الغدير واجتماع السقيفة بحوالي (70) يوماً تقريباً.
وعلى طول التاريخ لم نشهد روايةً على مثل هذه الأهمِّية وهذا التواتر بذلك المعنى الخاصّ يُسارع إلى تجاهلها أو نسيانها ضمن هذه الفترة القصيرة، رغم خطورتها، ولا يتمّ الاستناد أو الإشارة إليها أبداً.
الخطوة الأولى: التعريف بواقعة الغدير
إن نظرةً عابرة إلى المصادر المتقدِّمة، وقراءة المسار التاريخي للكتابة حول الغدير من خلال تلك المصادر، تجعلنا ندرك أن الكتابة بشأن الغدير لم تحْظَ بالاهتمام بوصفها موضوعاً مستقلاًّ في القرون الإسلامية الأولى، بحيث تثبت هذه النصوص أن القرن الهجري الأول لم يشهد أثراً وكتاباً مستقلاًّ في هذا الخصوص، أما القرن الهجري الثاني فلم يشهد غير كتابٍ واحد في هذا الموضوع، وقد تلاه القرن الهجري الثالث ليكشف عن كتابين في هذا المجال، أما القرن الهجري الرابع فقد تمخَّض عن عشرة كتب في هذا الشأن([2]).
إلاّ أن هذا الكلام لا يعني القول بعدم وجود حديث الغدير في أيّ نصٍّ آخر، ولم يتمّ الاحتجاج به أو الإشارة له في الحدّ الأدنى في النصوص والمصادر الأخرى بشكلٍ ضمني؛ إذ في هذه القرون نفسها نجد إشارات إلى هذه الواقعة الهامّة والخطيرة في المصادر التاريخية، من قبيل: تاريخ اليعقوبي([3])؛ والكتب الشيعية الروائية، مثل: كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي([4]) في نهاية القرن الهجري الأوّل، أو بداية القرن الهجري الثاني([5])؛ والكافي، للكليني([6])؛ والخصال، للشيخ الصدوق([7])؛ وبعض الكتب الحديثية المعتبرة عند أهل السنّة، من قبيل: مسند أحمد([8])، الأمر الذي يرفع من درجة الاطمئنان بصدور هذا الحديث بشكلٍ أكبر.
إلاّ أن الأمر الذي يجب عدم الغفلة عنه هو أن هذه الواقعة على طول التاريخ الشيعي قد شهدت تراكماً متزايداً وتضخيماً في الكتب الروائية الشيعية عبر القرون، بحيث إننا لو أجرينا مقارنةً بين مصدرٍ يتحدَّث عن هذه الواقعة في القرن الهجري السادس ـ من قبيل: الاحتجاج، للطبرسي ـ وبين مصدرٍ في القرن الهجري الأول، المتمثِّل بكتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، سندرك حجم الاختلاف الواضح والكبير بينهما، بحيث لا يمكن حتّى للتمسُّك بعنصر التقيّة أن يشكِّل مبرِّراً لعدم ذكر هذه الواقعة بتلك التفاصيل؛ وذلك لأن كتاباً من قبيل: كتاب سُلَيْم بن قيس قد تجاوز في وضوحه وصراحته جميع الخطوط الحُمْر، وكسّر جميع حواجز التقيّة، راصداً بوضوحٍ تامّ جميع المسائل التاريخية وغير التاريخية لصالح الشيعة، بحيث يُعَدّ ما أضيف إليها في القرون التالية من قبيل: الأمور المستهلكة.
ويبدو أن ظاهرة التراكم والتضخيم تعود في أسبابها إلى النزعة الباطنية لدى الشيعة، الذين يسعون إلى إثبات هذه الواقعة وتظهيرها بألوانٍ صارخة؛ بغية إثبات إمامة الإمام علي “علیه السلام”، حيث تجاوزوا من أجل ذلك الحدود التاريخية والروائية المتعارفة.
ومن خلال إضافة بعض المسائل التاريخية؛ بوثائق لا وجود للاتّصال فيها، أو لا وثاقة لرواتها حتّى في الأروقة العلمية الشيعية أو القواعد الرجالية المعروفة عندهم، تحوَّلت هذه الواقعة لتلامس حدود الأساطير الخارقة.
وعلى الرغم من نجاح هذا المسار في تجسيد آليّته الاستبطانية على مدى قرونٍ، وتمكنت من استقطاب الكثير من الجماهير، إلاّ أنه، خلافاً للمراحل المتقدِّمة، حيث كان المخالفون يكتفون بمجرّد الإشارة العابرة إلى اختلاق هذه التقارير، بدأ المخالفون في المرحلة المعاصرة يناقشون آحاد النصوص، ويدرسونها بجدِّية أكبر، وإثبات عدم واقعيّتها بكلّ وضوح وبساطة.
وقد تسللت هذه النزعة حتّى إلى بعض الأروقة الشيعية المعاصرة، بحيث خصَّص بعض المؤلِّفين المعاصرين من أصحاب النزعة التجديدية من الشيعة كتباً مستقلّة في تناول هذه الواقعة. وقد شكَّكوا فيها ـ من خلال ذكر الشبهات التاريخية ـ بدلالة هذه الواقعة على الولاية المنصوصة([9]).
وهنا نفاجأ بهذه الحقيقة القائلة بأن تلك الأمور التي أدَّتْ في العصور الماضية إلى تعزيز وتقوية إيمان الشيعة أخذت تؤدّي في المرحلة الراهنة ـ من خلال الاهتمام بالدراسات التاريخية والروائية المنهجية ـ إلى زعزعة إيمان الشيعة بهذه الواقعة.
وبعبارةٍ أخرى: إن الرواة الذين مارسوا دور الكحّال في تزيين أهداب هذه الواقعة بزعمهم، وإنْ أظهروا براعةً في تزيين هذه الواقعة عبر قرونٍ طويلة، إلاّ أن عملهم قد ارتدَّ في المرحلة الراهنة ليتسبَّب في إصابة هذه الواقعة بالعَمَى، الأمر الذي يستدعي مضاعفة جهود المؤمنين بها؛ للإجابة المنهجية عن هذه الشبهات.
فعلى سبيل المثال: بيان تفاصيل من قبيل: الحشود البالغ عددها مئة وعشرين ألفاً، والإقامة في مفترق الطرق الذي يقع فيه موضع الغدير، وخطبة النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في هذه المناسبة، والتي تستغرق العديد من الصفحات، ومبايعة الجميع للإمام علي “عليه السلام” بالخلافة، ولم يشذّ عن بيعته حتّى النساء اللائي بايَعْنَه بوضع أيديهنَّ في طست ماء وضع الإمام علي “عليه السلام” يده في طرفه الآخر([10])، وما إلى ذلك من التفاصيل التي أُضيفت عبر الأزمنة والقرون إلى أصل الواقعة بأسانيد غير معتبرة، بحيث يُعتبر إثباتها من خلال الطرق والقواعد المعروفة والمقبولة في علم الحديث والمصادر التاريخية في غاية الإشكال والتعقيد.
ففي ما يتعلَّق بمفترق الطرق، الذي يتمّ التأكيد والتركيز عليه كثيراً، بوصفه الموضع الذي شهد حديث الغدير ـ على سبيل المثال ـ، يمكن الوقوف عنده بكلّ بساطةٍ من خلال الحصول على خارطةٍ جغرافية، حيث سنرى أن اليمن تقع إلى الجنوب من مكّة، والمدينة المنوَّرة في شمالها، ممّا يعني أن قافلة حجيج اليمن تنفصل عن قافلة النبيّ من مكّة نفسها، ولا تواكبها في منطلقه نحو المدينة شمالاً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المواقيت الأخرى، من قبيل: ذات عرق (ميقات أهل العراق)، حيث يقع قبل الجُحْفة والغدير.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى التأكيد على عدد الحشود البالغ 120 ألفاً أو يزيدون([11])، حيث تسلَّل إلى المصادر منذ القرن الهجري السادس فما بعده، فإنّ هذا العدد، بالإضافة إلى عدم انسجامه وتناغمه مع عدد المسلمين في ذلك الوقت، وعدم القدرة على تصوُّر مثل هذا الاجتماع الحاشد، وإلقاء النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” خطبة تفصيلية([12]) في تلك الحشود، دون ذكر كيفيّة حصولها، وكذلك ذكر أسماء المعيدين (الذين كانوا يكرِّرون خطبة رسول الله؛ كي يسمعها منهم مَنْ لا يستطيع سماع صوت رسول الله)، يجعلها بعيدةً عن الاستيعاب.
فإنّ مثل هذا التأكيد لا يصبّ لغير مصلحة الشيعة فحَسْب([13])، بل قد يضرّ بهم، ويعطي مساحةً وهامشاً أوسع للمخالفين في تشكيكهم بأصل حدوث الواقعة، دون أن يتمكَّن الشيعة من الإجابة عن هذا النوع من الغمز واللمز.
وباختصارٍ يجب القول: إن وضع هذه التقارير المضخّمة في هذه الواقعة بحيث لا توازي ما يشبهها من الروايات الأقوى منها في إثبات حكمٍ ندبيّ يستند إليه الفقهاء في علم الفقه.
من هنا يبدو أن الخطوة الأولى التي يجب اتّخاذها في هذا الشأن تكمن في استخراج التقارير الصحيحة، والتي يمكن الدفاع عنها، وإثباتها، من بين ركام التقارير الواردة بشأن الغدير، واتّخاذها متراساً منيعاً، والتحصُّن وراءه في الدفاع عن حياض الإمامة والعقيدة.
من هنا نشاهد بعض المتكلِّمين من ذوي النظرة الثاقبة والعارفين بالمنحى التاريخي والزمني، من أمثال: الشيخ المفيد، بدلاً من الوقوف في وجه المخالفين؛ استناداً إلى هذه الإضافات التكحيلية، يصرف هِمَّته إلى دلالة هذه الواقعة، فألَّف مقالات ورسائل من قبيل: «رسالة في معنى المَوْلى».
إن الذي يحتاج إليه الشيعة في ما يتعلَّق بواقعة الغدير هو إثبات أصل الولاية المنصوصة، والتي لا دخل فيها لحضور عددٍ يبلغ مئةً وعشرين ألف نسمة، فحتّى لو كان عدد من شهد الواقعة عُشْر هذه الكمِّية أو أدنى من ذلك كان ذلك كافياً في إثبات هذه الولاية.
من هنا يجدر التركيز على تقارير من قبيل: مسند أحمد بن حنبل([14])، الذي استند فيه إلى هذه الرواية التي لا تشتمل على إشارةٍ إلى هذا العدد الكبير من الجماهير، واحتجاجات الإمام علي “عليه السلام” التي استند فيها إلى واقعة الغدير، من خلال التركيز على لفظ المَوْلى؛ كي نتمكَّن من استنباط الولاية المنصوصة من هذه الواقعة.
وربما من هنا أمكن لنا الإشارة إلى أن ادّعاء التواتر بالنسبة إلى حديث الغدير لم يستند إلى الجانب الأسطوري من هذه الواقعة، وأنّ بالإمكان إثبات التواتر في حال القول بهذا الادّعاء في حدود النصّ والتقرير المذكور من قبل أحمد بن حنبل.
الخطوة الثانية: الاهتمام بالدراسات الفرعية
يبدو أن التقارير التاريخية البحتة لا تستطيع في بعض الموارد إيصالنا إلى تحليلٍ تاريخي منهجي وصحيح؛ وذلك لوجود بعض الحلقات المفقودة، التي لا يمكن اكتشافها إلاّ من خلال الالتفات إلى تحليل النصّ، الذي لا يمكن الوصول إليه أحياناً إلاّ من خلال الدراسات الفرعية.
وفي هذا الإطار ـ وخاصّة عندما يكون الحديث بشأن ردّة فعل مجتمعٍ ما على مسألةٍ من المسائل ـ تمسّ الحاجة إلى الاستفادة من معطيات علم الاجتماع، ولا سيَّما علم الاجتماع التاريخي.
فعلى سبيل المثال: إن الالتفات إلى بعض النقاط التالية توصل الباحث إلى هذه النتيجة القائلة بأن تعريف الإمام علي “عليه السلام” إلى الناس بتلك الطريقة، بوصفه خليفةً من قبل النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، كان عملاً مخالفاً لعُرْف المجتمع في شبه جزيرة العرب آنذاك، بحيث كان من الطبيعيّ أن نشهد ردود فعلٍ من قِبَل الغالبية على خلاف إرادة النبيّ، التي هي من وجهة نظر الشيعة إرادة الله سبحانه وتعالى.
ويمكن بيان تلك النقاط على النحو التالي:
1ـ قبل تأسيس الدولة في المدينة على يد النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، كان الناس في المدن والحواضر الكبرى في مركز شبه الجزيرة العربية (الحجاز) والبوادي المحيطة بها يعيشون تحت الأنظمة القبلية.
وفي هذا النظام كان التقدُّم في صفاتٍ من قبيل: الكرم، والتواضع، والشجاعة، والثبات، والصبر، وما إلى ذلك من السجايا، هي المعيار والملاك في اختيار الزعيم([15])، ولم يكُنْ يحقّ لشيخ القبيلة أن يختار على الناس واحداً من أبنائه أو أحد أفراد قبيلته؛ ليكون قائداً ورئيساً يتولّى أمرهم.
ومن هنا يتَّضح أن تعيين الإمام والخليفة من خلال النصّ والتصريح من قبل القائد والرئيس السابق لم يكن أمراً معهوداً أو معروفاً بين الناس في ذلك الوقت.
2ـ كان النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” هو الشخص الأوّل الذي أقام مؤسّسة باسم الدولة في شبه الجزيرة العربية، وكانت تلك الدولة تتجاوز النظام القبلي، فلم تكن منسوبةً إلى أيّ قبيلةٍ من القبائل، أو أيّ حاضرةٍ من الحواضر.
وبعبارةٍ أخرى: إن الناس لم يختاروا النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” قائداً لهم بوصفه من قريش، أو المنتسبين إلى بني هاشم، وإنّما الذي دعاهم إلى ذلك، وجمع الناس من مختلف القبائل والمدن والبوادي إلى الانخراط ضمن منظومةٍ واحدة، واختيار النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” بوصفه قائداً ورئيساً يتجاوز القبيلة، هو إيمانهم بأنّه نبيٌّ مرسَلٌ من قبل الله، ويعتبرون تأسيس الدولة من قبله أمراً إلهيّاً، من هنا لم يُبْدُوا معارضةً تستحقّ الذِّكْر.
ومن الطبيعي أن تقتصر هذه الرؤية (أي الارتباط بالسماء) من وجهة نظرهم على شخص رسول الله، ولا تصدق على خلفائه. كما كان الكثير من الناس يرَوْن في تشكيل الدولة التي تتجاوز النظام القبلي، حتّى من قبل الشخص الذي يعرِّفه النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، مخالفاً للآلية المألوفة في اختيار القائد، وكانوا يقفون بوجه هذه العملية غير المألوفة بشدّةٍ.
3ـ بعد فتح مكّة، في العام الهجري التاسع، شهد المسار الكمّي للمسلمين منعطفاً كبيراً، وأخذ الناس ـ بعد أن رأَوْا زوال سَطْوة قريش وشوكتها وهيمنتها ـ يدخلون في الإسلام زرافات زرافات، بحيث أطلق على العام الهجري التاسع اسم «عام الوفود»، بمعنى (العام الذي بدأ الناس فيه يعتنقون الإسلام على شكل هيئات وجماعات).
بَيْدَ أنه لا بُدَّ في الوقت نفسه من التفريق بين المسلمين على المستوى الكيفي، بين مَنْ أسلم من قبل الفتح ومَنْ أسلم من بعد الفتح؛ لأن الكثير من الذين أسلموا من بعد الفتح إنّما أسلموا خوفاً أو طمعاً، ولم يكن الإسلام قد ترسَّخ في نفوسهم وقلوبهم، ولذلك لم يكونوا يتعبَّدون أو يلتزمون بالتعاليم الإسلامية، أو يتقيَّدون بها.
وإنّما تتجلّى فائدة هذه المسألة بالنسبة إلى بحثنا الراهن عندما نلتزم بالتقرير القائل: إن النبي بعد مناسك حجّة الوداع صحبه ـ بالإضافة إلى خمسة آلاف من أهل المدينة المنوّرة ـ خمسة آلاف أخرى من أهل مكّة المكرَّمة([16]).
من هنا يجب أن لا يذهب بنا التصوُّر إلى اعتبار جميع المسلمين ـ عند الإعلان عن خلافة الإمام علي “عليه السلام” من قبل النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في غدير خمّ ـ على درجةٍ واحدة من الإيمان الكامل بأوامر النبي وتعاليمه، ونفس المستوى من الاستعداد للتضحية، وتقبُّل جميع تعاليمه وكلماته وتوصياته.
4ـ هناك احتمالٌ أن يكون بعض أفراد قبيلة قريش، ولا سيَّما من الذين أظهروا الإسلام حديثاً، يذهبون إلى أن دعوة النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” إلى إمامة الإمام علي “عليه السلام” ومسألة الخلافة تُعَدّ في سياق ما كان منه في الإعلان سابقاً عن نبوّته من التنافس القبلي بين بني هاشم وسائر قبائل قريش.
وهذه الجماعة لم تَجِدْ الجرأة من نفسها على معارضة نبوَّته؛ بالنظر إلى إقبال الناس عليه، وتعاقدهم على حمايته كما يحمون أبناءهم، ولكنَّهم بعد تعيين الإمام علي “عليه السلام” بوصفه خليفةً له من بين بني هاشم جاهروا بالاعتراض، ورفعوا لواء الخلاف بشكلٍ صريح، معتمدين في ذلك على الدعامة القبلية المألوفة والمعمول بها في شبه الجزيرة العربية.
وربما أمكن اعتبار الكلمة التي صرَّح بها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، بعد ذلك بسنواتٍ طويلة، لعبد الله بن عباس تعبيراً عمّا لم يكن بالإمكان قوله في حينها، حيث قال: «إنّ قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة»([17]).
5ـ كما أن مسألة صغر سنّ الإمام علي “عليه السلام” كانت من بين المسائل الأخرى التي خلقت مشكلةً لمجتمع ذلك العصر في ما يتعلَّق بالموافقة على تولِّيه مقاليد الحكم والسلطة.
وفي هذا الشأن يكفي أن ندرك أن المجتمع الجاهلي كان قد اشترط للدخول في عضويّة دار الندوة (الذي كان له حكم مجلس الشورى بالنسبة إلى المكِّيين) بعض الشروط، وكان من أهمّها: إتمام المرشَّح أربعين سنة([18]).
وقد كانت هذه المسألة من الوضوح والموضوعية، بحيث استند إليها فيما بعد أشخاصٌ من أمثال: عمر بن الخطاب كثيراً، في محاوراتهم مع الإمام علي “عليه السلام” أو ابن عباس([19]).
والملفت أن أبا عُبَيْدة بن الجرّاح ـ وهو أحد المهاجرين، وقد لعب دوراً محورياً في قضية السقيفة ـ قال للإمام علي “عليه السلام” بعد فترة من بيعة أبي بكر: «يا ابن عمّ، إنك حَدَث السنّ، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور…»([20]). ثمّ يصير بعد ذلك إلى الاعتراف بفضله ودينه وعلمه وفهمه وسابقته ونسبه ومصاهرته لرسول الله، ناصحاً إيّاه بعدم الاستعجال، وترك الحكم لأبي بكر، حتّى إذا تقدَّم في السنّ، وحصل على مزيدٍ من التجربة، آلت إليه الخلافة بشكلٍ طبيعي.
الخطوة الثالثة: الاستفادة من التحليلات التاريخية المنهجية
إن المراد من التحليلات التاريخية المنهجية العمل على مراجعة النصوص والتقارير التاريخية ذات الصلة بهذه القضية، لنفتح من خلالها نَفَقاً يؤدّي بنا إلى أحداث ما خلف كواليسها؛ لكي نكون بذلك قد خطونا خطواتٍ كبيرة على طريق كشف الحلقات المفقودة.
وفي هذا السياق يجدر الالتفات إلى الموارد التالية:
1ـ موقف الناس من استخلاف الإمام علي “عليه السلام”
قد يتصوَّر البعض انطلاقاً من بعض التصوّرات المسبقة ـ غير المستندة إلى الحقائق والوقائع ـ أن الإمام علي “علیه السلام” كان في عهد النبي الأكرم، ولا سيَّما في السنوات الأخيرة من حياته، يتمتَّع بشعبيةٍ واسعة، وآخذة بالازدياد؛ بالنظر إلى وصايا النبيّ ودعوته عامّة الناس إلى ذلك. إلاّ أن التدقيق في بعض التقارير التاريخية يثبت عكس ذلك.
وفي هذا السياق لا بُدَّ من الالتفات ـ قبل كلّ شيءٍ ـ إلى أن الإمام علي “عليه السلام” قد وَتَر العرب بعد أن قتل كبار قادة قريش في معارك مثل: بَدْر وأُحُد، كما قتل الكثير من كبار زعماء القبائل الأخرى في معارك كبرى، مثل: حُنَيْن، في حين لم يَرِدْ تقرير أو نصٌّ مفرد عن قتل واحد من قريش أو سائر القبائل العربية الأخرى على يد أبي بكر أو عمر بن الخطّاب أو عثمان بن عفّان. وهذا يؤدّي بطبيعة الحال إلى أن تنظر قريش وسائر القبائل العربية الأخرى إلى الإمام علي “عليه السلام” نظرةً سلبية.
كما لا بُدَّ هنا من الالتفات أيضاً إلى أن العلاقات بين مكّة والمدينة قد ارتفعت وتيرتها بعد فتح مكّة، وزادت الهجرة إلى المدينة المنوّرة، وتوثَّقت العلاقات بين المسلمين الأوائل من قريش ومَنْ أسلم حديثاً منهم، وكذلك العرب الذين أسلموا بعد الفتح، الأمر الذي ترك تداعيات وتأثيرات جديدة من قِبَل المسلمين حديثاً على سائر التيارات المختلفة.
وعلى الرغم من وجود الكثير من النصوص في هذا الشأن([21])، يمكن لنا أن نكتفي بمقالة عثمان التي قالها أثناء كلامٍ وقع بينه وبين الإمام علي “عليه السلام”؛ إذ قال له: «ما أصنع إنْ كانت قريش لا تحبّكم، وقد قتلتُم منهم يوم بدر سبعين كأنّ وجوههم شنوف الذهب»([22]).
يُضاف إلى ذلك ـ كما تقدَّم ـ انتماء الإمام علي “عليه السلام” إلى بني هاشم، ومصاهرته النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، وكذلك الفضائل التي تحلّى بها، وجاء ذكرها والإشادة بها على لسان رسول الله. كلّ ذلك أثار حَسَد الآخرين عليه، ولا سيَّما قبيلة قريش، الأمر الذي دعاها إلى مضاعفة الجهود من أجل الحيلولة دون تمكُّن الإمام علي “عليه السلام” من الوصول إلى الحكم والسلطة([23]).
والحادثةُ الأخرى التي يجب أن لا نمرّ عليها مرور الكرام في هذا الإطار ما حدث بين الإمام علي “عليه السلام” وجنود جيشه في مستهل حجّة الوداع عند عودته من مهمّته في اليمن؛ كي يلتحق برسول الله، حيث واجه الإمام علي “عليه السلام” أفراد جيشه بشدّةٍ بعد أن تصرَّفوا بأموال الغنائم قبل إيصالها إلى النبيّ، حيث قام بعضهم بارتداء الثياب الفاخرة التي أصابوها في جملة الغنائم.
الأمر الذي دعاهم إلى الشكوى منه عند رسول الله. وقد أغضبَتْ هذه الشكوى رسولَ الله، فخطب الناس قائلاً: «أيُّها الناس، لا تشكوا علي “عليه السلام”اً؛ فواللهِ، إنّه لأخشن في ذات الله [أو في سبيل الله] من أن يُشْكى»([24]).
إنّ هذا النوع من المواقف الصارمة من الإمام علي “عليه السلام”، وكذلك دعم وتأييد النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” له، كان يجسِّد صورةً مصغَّرة لما ستكون عليه الأمور عندما يتولى الإمام الحكم والسلطة. وهذا ما لم يكن يروق للكثير من الناس بطبيعة الحال، ولذلك فإنهم وإنْ أحجموا عن تناول الإمام علي “عليه السلام” بالسوء من القول صراحةً وجهاراً، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من العمل على الحيلولة دون وصوله إلى السلطة.
2ـ التحليل التاريخي للآية
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67). ففي هذه الآية، التي نزلت في شأن حادثة الغدير، وعُرفت بـ «آية الإبلاغ»، لو دقَّقنا النظر في فقرةٍ منها فسوف تحلّ بعض الأحداث التاريخية الكامنة خلف الكواليس. وهذه الفقرة هي قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾. فإن التمعُّن في كلمتي «العصمة» و«الناس» يفتح الطريق إلى سبر الحقائق بشكلٍ جيِّد.
فمع الالتفات إلى الحقائق الخارجية، حيث لم يسلم النبيّ من شرور ألسنة الناس، بل وحتّى تعريض حياته للاستهداف والخطر من قِبَل بعض الناس، ومع الالتفات إلى أن مسألة خلافة الإمام علي “عليه السلام” لم يتمّ حسمها بعد، يتعزَّز احتمال أن يكون المراد من كلمة «يعصمك» حفظ النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” من عملية اغتيال جسدي قد يتعرَّض لها من قبل الناس، كما تدلّ كلمة «الناس» على الأفراد العاديّين، وهم الغالبية من العرب؛ إذ مع الالتفات إلى الأكثرية التي أسلمَتْ حديثاً، وملاحظة القرائن التي تقدَّم ذكرها، يتَّضح أن هذه الأكثرية لم تكن منسجمةً مع الدعوة إلى خلافة الإمام علي “عليه السلام”، وكانت هناك مخاوف جادّة من حدوث مؤامرةٍ كبيرة ـ من قبل الناس ـ تستهدف شخص النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” إنْ هو صرَّح بالدعوة إلى خلافة الإمام علي “عليه السلام” بعد رحيله.
3ـ خطوات النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”
إن الخطوات التي اتَّخذها النبي الأكرم لتثبيت دعائم إمامة الإمام علي “عليه السلام” تؤكِّد بوضوح أنه كان على علمٍ بجميع الجهود التي تقوم بها التيارات المخالفة في مواجهة هذه الغاية.
وإن النصوص التاريخية والروائية تثبت أن ما قام به النبيّ لترسيخ دعائم إمامة وخلافة الإمام علي “علیه السلام” لم تنحصر بواقعة الغدير وما بعدها، بل عمد النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” ـ من خلال معرفته للمجتمع العربي وردود أفعاله ـ إلى تثبيت خلافة علي “عليه السلام” منذ بداية الرسالة.
والشواهد والنصوص والتقارير التاريخية والروايات المأثورة عن النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في هذا الشأن كثيرةٌ، من قبيل: حديث يوم الإنذار، وأحاديث الوصية، والوراثة، والخلافة، والمنزلة، والإمارة، والإمامة، والولاية، والهداية، والعصمة، والعلم، وحديث السفينة، وحديث الثِّقْلين، ممّا يشكِّل جانباً صغيراً من تلك الجهود التي خلَّدها التاريخ([25]).
إلاّ أن تشريح حادثتين هامّتين في الفاصلة الزمنية الواقعة بين واقعة الغدير وحادثة السقيفة يثبت لنا شدّة اهتمام النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” بترسيخ خلافة الإمام علي “عليه السلام” له، واطّلاعه الواسع على ما كان يُخطِّط له المخالفون.
وهاتان الحادثتان هما: عقد اللواء لجيش أسامة، ومطالبة النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في ساعاته الأخيرة بكتابة وصيّة تضمن للمسلمين النجاة وعدم الاختلاف.
وإليك تفصيلهما على النحو التالي:
أـ جيش أسامة
لقد أمر النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” في أحرج اللحظات من أيامه الأخيرة بتجهيز جيشٍ كبير، بقيادة شابٍّ يافع، هو أسامة بن زيد؛ ليتوجَّه إلى حيث فلسطين، التي كانت في حينها تمثِّل أبعد نقطة من حدود البلاد الإسلامية([26]).
إن التشريح والتحليل الدقيق لهذه الخطوة يثبت أنها إنّما كانت تأتي في سياق ترسيخ دعائم خلافة الإمام علي “عليه السلام”؛ وذلك للأسباب التالية:
أـ لم يكن تجهيز الجيش في تلك اللحظات الحَرِجة من حياة النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، وإخلاء المدينة من جيشها، وإرساله إلى أبعد نقطة من الرقعة الجغرافية للإسلام، على ما يبدو لمصلحة الدولة والحكم؛ وذلك لاحتمال أن يقوم المسلمون حديثاً من القبائل في أطراف المدينة بالانقلاب بعد رحيل النبيّ، ويهدِّدوا كيان المجتمع الإسلامي، ولا سيَّما أننا شهدنا حالاتٍ من الانقلاب على الإسلام في مناطق مثل: اليمن، رغم أن النبيّ كان لا يزال على قيد الحياة، حيث ظهر هناك الكثير من الذين ادَّعوا النبوّة، من أمثال: أسود العنسي، وسجاح، وطليحة الأسدي، واجتمع حول هؤلاء عددٌ من الناس، وأعلنوا الانفصال عن الحكومة المركزية في المدينة المنوَّرة([27]).
وعليه فإنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرِّر تلك الخطوة التي قام بها رسول الله في تلك الظروف الحَرِجة والحسّاسة وجود مصلحةٍ في تجهيز ذلك الجيش أقوى بكثيرٍ من تلك الأزمة، وقد تمثَّلت تلك المصلحة الأكبر في إبعاد المنافسين والمعارضين لخلافة الإمام علي “عليه السلام” عن المدينة المنوَّرة.
ب ـ لم يكن لتنصيب شابٍّ لم يتجاوز عمره الثمانية عشر عاماً([28]) لقيادة جيشٍ بهذا الحجم ـ وعدم الالتفات إلى اعتراضات المعترضين من الصحابة([29])، بل والدفاع عنه في مواجهة طعن الطاعنين عليه ـ من تبريرٍ سوى إبطال مفعول أهمّ حجّةٍ وذريعة بيد المعارضين لخلافة الإمام علي “عليه السلام”؛ إذ كانوا يحتجّون لذلك بصغر سنّه؛ وذلك لأنّ أسامة بن زيد ـ كما لا يخفى ـ لم يكن يتمتَّع بصفات الإمام علي “عليه السلام”، من السابقة إلى الإسلام وشرف النسب والشجاعة والتدبير والتجربة؛ كما كان الإمام علي “عليه السلام” في حينها يكبر أسامة بخمسة عشر عاماً تقريباً، حيث كان له من العمر في ذلك الوقت 33 سنة؛ مضافاً إلى أنه لم يكن بالإمكان مقارنة أسامة بالإمام علي “عليه السلام” في الكثير من الفضائل والخصائص.
وعليه فإن تجهيز جيش بهذا الحجم، وفيه كبار الصحابة ـ من أمثال: أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجرّاح ـ، وكبار المهاجرين والأنصار([30])، وإجبارهم على الامتثال لإمرة وقيادة شابٍّ يافع قليل التجربة، يُسقط بوضوح ذريعة هؤلاء القوم الذين تذرَّعوا لتبرير معارضتهم بصغر سنّ الإمام علي “عليه السلام” لتولي الخلافة.
ج ـ إن التدقيق في تركيبة جيش أسامة يُثبت أن جميع الذين يُحتَمل منهم الاعتراض على خلافة الإمام علي “عليه السلام” من كبار المهاجرين والأنصار([31]) كانوا مُلْزَمين بالحضور والانخراط في هذا الجيش([32]).
والذين تركوا معسكر الجيش، وعادوا إلى المدينة؛ بحجّة القلق على حياة رسول الله، واجههم الرسول بعبارته الشهيرة: «لعن الله مَنْ تخلَّف عن جيش أسامة»([33]).
وفي المقابل لم ينقل التاريخ لنا أيَّ نصٍّ أو وثيقة على وجوب مشاركة الإمام علي “عليه السلام”، أو أيِّ واحدٍ من شيعته والمقرَّبين منه، من أمثال: عمّار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، في هذا الجيش، الأمر الذي يعزِّز من رغبة النبيّ في حضور وتواجد الإمام علي “عليه السلام” وأصحابه في المدينة عند رحيله؛ كي تكون المدينة تحت سيطرة الإمام علي “عليه السلام”، دون أيِّ مخالفةٍ أو اعتراض.
ب ـ الحيلولة دون كتابة النبيّ وصيَّته
لقد وقعت هذه الحادثة في أواخر حياة النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، حيث شهد النبي ازدياد حالات اللغط والاعتراض على خلافة الإمام علي “عليه السلام”، الأمر الذي رفع من مخاوفه على مستقبل أمَّته؛ فأمر بدواةٍ وقلم ليكتب للمسلمين كتاباً يقطع الطريق أمام أيّ محاولةٍ للاعتذار والاحتجاج، ويحول دون وقوع الأمّة في الضلال.
إلاّ أن المعارضين؛ حيث وجدوا في هذا الطلب نقضاً لما كانوا يخطِّطون له منذ أشهر ـ بل منذ سنوات ـ، احتشدوا وازدحموا في حجرة النبيّ، وأثاروا اللغط في حضرته، رغم اشتداد المرض عليه، واتَّهموه في عقله، حتّى منعوه من كتابة ذلك الكتاب وتلك الوصيّة([34]).
وعلى الرغم من أنّ النصوص التاريخية لا تذكر غير شخصٍ واحد من الذين تحدَّثوا بهذا الكلام في تلك الواقعة([35])، غير أن طبيعة الأمور ـ كما هو واضحٌ ـ تثبت استحالة أن يقوم شخصٌ واحد بهذا الدَّوْر، وتكون له الجرأة على مواجهة رسول الله والمخلصين من أصحابه، إلاّ إذا كان مدعوماً بتيّارٍ قويّ ومنظَّم ضارب بأطنابه بين المسلمين. من هنا يرتفع مستوى الوثوق بالنصوص التي عبَّرَتْ بكلمة «قالوا»، بدلاً من «قال»، دون تصريح بأسماء القائلين([36]).
النتيجة
يتَّضح مما تقدَّم أن الشيعة قد اهتمّوا بواقعة الغدير منذ القرون الأولى من الإسلام. وقد استندوا إليها، واستشهدوا بها في كتبهم. وإنّ أقدم كتاب موجود من بين تلك الكتب هو كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي، فقد استند إلى هذه الواقعة في مواضع مختلفة.
وبعد مضيّ قرون زاد الاهتمام بهذه الواقعة، من خلال الاهتمام بتدوين الكتب المفردة والمستقلّة، حتّى شهد القرن الهجري الرابع منعطفاً كبيراً في هذا الاتجاه.
إلاّ أن الآفة التي أصابَتْ هذه الواقعة عند تدوينها عبر القرون تتمثَّل في الإضافات والزيادات التي أُدخلت على هذه الواقعة، حيث نرى ذَرْوَتها في القرن الهجري السادس، وفي كتاب مثل: «الاحتجاج»، للطبرسي.
إن هذا النوع من تدوين الوقائع وإنْ نجح في إشباع العقيدة الشيعية حدّ الإتخام، إلاّ أنّ الالتفات إلى الإشكالات المضمونية والسندية الواردة على هذه الإضافات يُبْطل إمكان الاحتجاج بها؛ إذ إنها من جهةٍ تظهر هذه الواقعة وكأنّها أسطورةٌ من الأساطير؛ ومن جهةٍ أخرى فإن أسانيد هذه الإضافات من الضعف بحيث لا تتمتَّع حتّى بإمكانيّة إثباتها بالقواعد الرجالية المعروفة حتّى بين الشيعة أنفسهم.
وقد حالت دون سعي المجتمع العلمي الشيعي للتعرُّض إلى هذه الإضافات؛ للكشف عن الصحيح وغير الصحيح منها، أسبابٌ مختلفة، من بينها: الخشية من سراية نقد هذه الإضافات إلى نقد أصل واقعة الغدير، الأمر الذي زاد من تمادي البعض في المبالغة في هذه الإضافات.
وفي المرحلة المعاصرة سعى بعض المخالفين للشيعة، وبعض الناقدين من الشيعة، إلى نقد هذه الواقعة، من خلال الدراسات التي تبدو منهجيةً في ظاهرها، وقالوا بعدم إمكان إثباتها حتّى طبقاً للقواعد الشيعية المعروفة.
وقد تمّ إيراد الكثير من الشبهات على هذه الواقعة، بحيث لا يمكن حتّى للدراسات والتحقيقات التي قام بها أمثال: العلامة الأميني أن تجيب عن جميع هذه الشبهات؛ لأن بعض هذه الشبهات تأتي من خلال الاستناد إلى كتابه القيِّم، والانتقاد الذي وُجِّه إليه من الناحية الأسلوبية والمضمونية.
من هنا تقتضي الضرورة إعادة دراسة وتحليل هذه الواقعة من مختلف الزوايا، من خلال توظيف الأساليب التحليلية المعروفة، والبحث عن إجاباتٍ جديدة عن الشبهات الحديثة، ومن أهمِّها: عدم الاستناد إلى واقعة الغدير في قضية السقيفة.
والخطوة الأولى في هذا السياق تتمثَّل في التنقيب في تضاعيف الركام الكبير من النصوص التي ترصد واقعة الغدير، والعمل على غربلتها، وتمييز الصحيح من السقيم منها، بالاستفادة من الدراسات الرجالية والروائية والتاريخية، والتحصُّن بعد ذلك خلف المطالب الأصيلة وغير الدخيلة؛ للدفاع عن أصل هذه الواقعة.
والانتقال بعد ذلك إلى الخطوات التالية، من خلال توظيف الدراسات الفرعية وقراءة ما بين السطور؛ وكذلك القراءات التاريخية، من طريق تحليل النصوص المتوفِّرة، التي يمكن التوصُّل من خلالها بوضوحٍ إلى أسباب عدم الاستناد إلى واقعة الغدير في اجتماع السقيفة.
ونتيجة هذه الدراسات هي أن واقعة الغدير، بل كلّ ما من شأنه أن يكون تنصيصاً على إمامة الإمام علي “عليه السلام”، بل حتّى النصوص غير الصريحة في هذا الشأن، كانت ـ بالالتفات إلى دراسة طبيعة ذلك المجتمع دراسةً اجتماعية تاريخية ـ تواجه رفضاً قاطعاً من قِبَل غالبية القبائل من قريش وغيرها، ولذلك فقد بذلوا كلّ جهدهم من أجل منع تحقُّق هذه الغاية الإلهية، وعدم إبلاغها من قبل النبيّ.
وبطبيعة الحال فإن الكثير من التقارير التي ترصد هذه النشاطات لم تصِلْ إلينا؛ لمختلف الأسباب المعروفة، إلاّ أن ردود أفعال النبي الأكرم ، ولا سيَّما في خصوص ما يتعلَّق بكيفية تجهيز جيش أسامة، وسعيه إلى كتابة ذلك الكتاب الذي نجح المخالفون في منعه من كتابته، يمكن أن يرفع جانباً من الستار عن تلك الأنشطة المحمومة.
من هنا يتَّضح أن السقيفة إنّما عقدت على هامش الغدير، والعلم بإمكان تحقُّق الخطّة الإلهية التي دعا إليها النبي الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم”، بمعنى أن جميع الذين حضروا في السقيفة كانوا يعلمون بالغدير والنصّ فيه على الإمام علي “عليه السلام” بالخلافة، إلاّ أنهم وجدوا في ذلك ما يخالف مصالح القبائل من قريش وغيرها، وحتّى الأنصار، ولذلك فإنّهم إنما سارعوا إلى عقد الاجتماع في السقيفة لقطع الطريق أمام تحقُّق هذه الغاية، وتجاهل النصوص الكثيرة التي صدرت عن رسول الله.
وأخذت كلُّ واحدة من تلك الجماعات تفكِّر بتغليب مصالحها المختلفة في الاستيلاء على منصب الخلافة. ولم يشذّ عن ذلك حتّى الأنصار، حيث شهدوا المساعي والجهود المبذولة من قبل المهاجرين في سياق مصادرة الخلافة لأنفسهم، ولكي لا يفوتهم نصيبهم من الأمر سارعوا إلى عقد اجتماعهم، ولم يؤجِّلوا الأمر إلى ما بعد تجهيز النبيّ، ولم ينتظروا بُرْء زعيمهم سعد بن عُبادة من مرضه، أو أن يتمكَّن في الحدّ الأدنى من رفع صوته بالحديث حين احتدم الخلاف بين الحاضرين، فلم يتمكَّن من إيصال كلمته إلى أسماع حتّى أتباعه وأصحابه، فكانت الغلبة في ذلك للجماعة المنافسة من تيار المهاجرين، بقيادة أبي بكر بن أبي قحافة.
إن السبب الأكبر وراء تعجيل الأنصار عقد اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة يعود إلى أنهم شهدوا في هذه الفترة القصيرة، الممتدّة في هذين الشهرين اللذين فصلا بين واقعة الغدير واجتماع السقيفة، جهوداً متسارعة من قبل المهاجرين، ولا سيَّما أولئك الذين اجتمعوا في بيت رسول الله، ولم يمنعهم ضعفه، من شدّة ما به من المرض والنزع، من التنازع في حضرته، وبلغت بهم الجرأة حدَّ منعه من كتابة وصيَّته المصيرية، واتِّهامه بأنه يهجر.
وبذلك أدركوا أن الذين يملكون الجرأة للقيام بما قاموا به والنبيّ على قيد الحياة سيصدر عنهم؛ لتنفيذ خطّتهم، ما هو أكبر بعد رحيله، من طريق أَوْلى.
وعليه فبالالتفات إلى هذه النتائج كان من الطبيعيّ أن لا يؤتى على ذكرٍ لواقعة الغدير في السقيفة؛ لأن السقيفة إنّما عقدت للحيلولة دون تحقيق مضمون الغدير. وبكلمةٍ أخرى: إن السقيفة إنّما كانت عملية انقلاب على الغدير.
وبذلك سيكون الاستشهاد بواقعة الغدير من قبيل: الضرب في الهواء؛ لأن الإمام علي “عليه السلام” وأصحابه قد أدركوا أن مَنْ اجتمعوا في السقيفة كانوا من العلم ببيعة الغدير بحيث يكون تذكيرهم بها ضَرْباً من تحصيل الحاصل. ومن هنا أدركوا أن محاججتهم بحديث الغدير لن يُفضي إلى نتيجةٍ من شأنها إعادة الناس إلى صوابهم، وردعهم عمّا كانوا بصدد فعله.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ جامعيّ، متخصِّصٌ في تاريخ التشيُّع، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى العالمية. له مؤلَّفاتٌ مستقلّة حول الغلوّ.
([1]) للوقوف على جانبٍ من هذه الشبهات انظر ـ على سبيل المثال ـ: مقالة (غدير)، بقلم: محمد باقر الأنصاري، المنشورة في المجلّد الثامن من «دانشنامه إمام علي “علیه السلام”»: 225 ـ 272؛ وانظر أيضاً: «غدير شناسي وپاسخ به شبهات»، بقلم: علي أصغر رضواني (والمصدران مكتوبان باللغة الفارسية).
([2]) للمزيد من الاطلاع، انظر: السيد عبد العزيز الطباطبائي، الغدير في التراث الإسلامي.
([3]) في ما يتعلق بتاريخ اليعقوبي لا بُدَّ من الإشارة إلى أن طبعة النجف (مطبعة العربي) 2: 32 قد حملت العبارة التالية: «وكان نزولها [آية الإكمال] يوم النفر [النصّ] على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ بغدير خمّ»؛ وأما في الطبعة الجديدة، الصادرة عن (دار صادر)، فقد أبدلت عبارة (بغدير خمّ) إلى عبارة (بعد ترحّم). وهي واضحة التحريف، ولا تنطوي على أيّ معنى معقول.
([4]) انظر: كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي 1: 153.
([5]) للوقوف على الآراء المختلفة بشأن اعتبار وقيمة كتاب سُلَيْم ومؤلِّفه انظر: مقدّمة كتاب سُلَيْم بن قيس الهلالي؛ والسيد حسين المدرسي، ميراث مكتوب شيعه (مصدر فارسي): 121 وما بعدها.
([6]) انظر: الكافي 8: 18.
([7]) انظر: الخصال: 550.
([8]) انظر: مسند أحمد بن حنبل 4: 370.
([9]) يمكن لنا الإشارة من بين النماذج لهذا النوع من التحقيقات إلى كتاب «شاهراه اتّحاد» (مصدر فارسي)، لمؤلِّفه: حيدر علي قلمداران، حيث تمكَّن من التشكيك بكلّ بساطة في دلالة الغدير على الإمامة المنصوصة، من خلال القراءات التاريخية والروائية. والذي يبدو لي أن هذه المقالة لم تَلْقَ حتّى الآن الردّ المنهجي الشافي والحاسم.
([10]) للوقوف على جانب من هذه الوقائع وأسانيدها انظر: الطبرسي، كتاب الاحتجاج، ج1؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج37؛ ابن طاووس، الطرائف من مذاهب الطوائف؛ وكذلك مقالة: «غدير»، بقلم: محمد باقر الأنصاري، المنشورة في دانشنامه إمام علي (مصدر فارسي) 8: 225 ـ 244؛ ومحمد هادي اليوسفي الغروي، موسوعة التاريخ الإسلامي 3: 622 ـ 634.
([11]) انظر: الطبرسي، الاحتجاج 1: 69؛ المجلسي، بحار الأنوار 37: 150، نقلاً عن مناقب ابن الجوزي.
([12]) انظر: الطبرسي، الاحتجاج 1: 66 ـ 84.
([13]) للوقوف على الإشارة إلى نقد هذا العدد الكبير من الجماهير انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي 3: 626 ـ 627.
([14]) انظر: مسند أحمد بن حنبل 4: 372.
([15]) انظر: الآلوسي، بلوغ الأرب 2: 372.
([16]) انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي 3: 627، نقلاً عن: تفسير العياشي 1: 332، ح153.
([17]) انظر: موسوعة الإمام علي “علیه السلام” 3: 66 ـ 67، نقلاً عن مصادر من قبيل: تاريخ الطبري 4: 223؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2: 218. وللوقوف على إجابة ابن عباس لعمر انظر: المصادر السابقة أيضاً.
([18]) انظر: أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار 1: 88، تحقيق: رشدي الصالح المحلّس، منشورات الشريف الرضي (أوفست)، ط3، قم المقدَّسة، 1403هـ.
([19]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 12: 69؛ وانظر أيضاً: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب”عليه السلام”، 3: 69 ـ 70.
([20]) انظر: ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة 1: 29.
([21]) للوقوف على جانب من هذه النصوص انظر: ترجمة كتاب (الغدير والمعارضون) : 35 فما بعد، تحت عنوان: (ستيز با آفتاب). المؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي، المترجم: الأستاذ حسين شاندجي.
([22]) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 9: 22. وانظر تحليله أيضاً في 16: 151، 112؛ 14: 299.
([23]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: موسوعة الإمام علي “علیه السلام” 3: 73 ـ 74.
([24]) ابن هشام، السيرة النبوية 4: 250.
([25]) للوقوف على تفصيل هذه الروايات انظر إلى المصادر الشيعية والسنية في موسوعة الإمام علي “عليه السلام”، ج2.
([26]) انظر: ابن هشام، السيرة النبوية 4: 291؛ الطبقات الكبرى 2: 249.
([27]) انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2: 17 وما بعدها (في أحداث السنة 11هـ).
([28]) انظر: الطبقات الكبرى 2: 66؛ صحيح البخاري 4: 1620، ح4198، نقلاً عن: موسوعة الإمام علي “علیه السلام” 2: 396.
([29]) انظر: الطبقات الكبرى 2: 249؛ 4: 66.
([30]) انظر: موسوعة الإمام علي “علیه السلام” 2: 395 ـ 397، نقلاً عن مصادر من قبيل: أنساب الأشراف 2: 115؛ الطبقات الكبرى 4: 68؛ الواقدي، المغازي 3: 118.
([31]) انظر: أنساب الأشراف 2: 115: كان في جيش أسامة أبو بكر وعمر ووجوه من المهاجرين والأنصار. وانظر أيضاً: المغازي 3: 1118: لم يبْقَ أحدٌ من المهاجرين الأوّلين إلاّ انتدب في تلك الغزوة، نقلاً عن: موسوعة الإمام علي “علیه السلام” 2: 396.
([32]) انظر: الشيخ محمد رضا المظفَّر، السقيفة: 81.
([33]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1: 14؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 6: 52.
([34]) للوقوف على تفاصيل هذه الأحداث والروايات والنصوص التي ترصد هذه الواقعة وتحليلها بدقّةٍ انظر: غلام حسين زينلي، نامه إي كه نانوشته، ماند: «تحليلي درباره حديث دوات وقلم» (مصدر فارسي).
([35]) انظر: عبد الرحمن أحمد البكري، من حياة الخليفة عمر بن الخطاب.
([36]) انظر: غلام حسين زينلي، نامه إي كه نانوشته، ماند: «تحليلي درباره حديث دوات وقلم» (مصدر فارسي): 52، نقلاً عن: مسند أحمد 1: 355؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى 2: 242.
المصدر: نصوص معاصرة