خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
خانه / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / منهج المحقق العراقي في علم الأصول /‌ الشيخ أحمد مبلغي
أحمد مبلغي المحقق العراقي

منهج المحقق العراقي في علم الأصول /‌ الشيخ أحمد مبلغي

الاجتهاد: في سماء علم الأصول، يُعدُّ المحقق العراقي واحدًا من كواكبها الثلاثة الأشدّ إشراقًا، بل من أعمدتها الراسخة. وقد ذهب الكثير إلى اعتباره صاحب مدرسة أصولية قائمة، ذات منهج مميّز، يُعدّ تمييزها والوقوف على معالمها من الضرورات الأولى لفهم هذا العلم التأسيسي.

ومع ذلك، فإنّ دراسة المدارس الأصولية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتحديدًا مدرسة ذلك العالم الفذّ، لم تأخذ إلى الآن صورتها اللائقة بعظمة علم الأصول وعمق الاجتهاد فيه.
وما يُعرض في هذه السطور ليس سوى إشارة خاطفة إلى بعض الحلقات المنهجية في تلك المدرسة النفيسة.
ورغم أنّ التركيز هنا ينصبّ على مدرسة العراقي، فإنّ الإطار المفهومي المطروح يصلح أن يكون نموذجًا لكشف مناهج مدارس أصولية أخرى، وأن يُعتمد كمنهج تحليلي لدراسة التيارات الفكرية في هذا العلم.
ومن البيّن أنّ الخوض في هذا المضمار يتطلّب تعمقًا أشمل، ومتابعة متواصلة، وبناء خطاب علمي أوسع.
غير أنّ ما نضعه بين يدي أهل الفكر هو بمثابة معالم أوليّة ونقطة بدء لمسيرٍ معرفي واعد.

أولًا: التحليل المفهومي والفلسفي للمعنى

يتوسّط التحليل الدقيق للمفاهيم الأصولية، بمنهج فلسفي-تحليلي، البناء الفكري للمحقق العراقي. وأبرز مرتكزات هذا المحور هي:

أ. التحليل المفهومي الدقيق:
فهو ينقّب في المفاهيم ويعيدها إلى عناصرها التكوينية، متجاوزًا التطبيقات المتفرّقة ليبلغ بنيتها المعنوية العميقة. فمثلًا، في تحليل مادة “الأمر”، يقوم بالفصل بين المعاني الجامدة والمشتقة، كاشفًا عن الأصول اللغوية والمفهومية الكامنة فيها.

ب. التمييز بين المفهوم والمصداق ومنشأ الانتزاع:
يفصل بدقّة بين ماهية المفهوم، وتمثلاته الخارجية، والمنشأ الواقعي الذي انتُزع منه. وهذا التمييز هو من أسس تفكيره الفلسفي-الأصولي، ويحول دون خلط المفاهيم وإساءة فهم الألفاظ.

ج. التمييز بين مقام الثبوت ومقام الإثبات:
وهو من أدواته التحليلية المركزية؛ تمييز معرفي-أنطولوجي يُعين على تفكيك المفاهيم. يميز بين ما هو موجود في الواقع (الثبوت) وما يظهر في الخطاب والدلالة (الإثبات)، مثل تمييزه بين الطلب الواقعي والطلب الظاهري، موضحًا أن دلالة اللفظ لا تستلزم تحقق المعنى خارجيًا.

د. منشأ الانتزاع كأداة تحليلية:
يرى أن مثلًا “الطلب” ليس هو المفهوم في ذاته، بل هو المنشأ الذي يُنتزع منه المفهوم، ويجعل من ذلك أداة في فهم الدلالات.
هـ. التقسيم المفهومي
يعمد إلى تقسيم المفاهيم إلى أنواع دقيقة، كما في مادة “الأمر” التي يقسّمها إلى الجامد والمشتق، لتُبنى شبكة مفهومية متماسكة، يتمايز فيها كل مصطلح عن غيره.

ثانيًا: قواعد التحليل اللغوي والاستعمالي

يتعامل المحقق العراقي مع اللغة لا بوصفها ظاهرًا جامدًا، بل باعتبارها حقلًا دلاليًا عميقًا يستدعي تأملًا عقليًا:
أ. التفريق بين الوضع، الاستعمال، والتحقق
يشير بوضوح إلى أنّ “الوضع” (جعل اللفظ للمعنى)، و”الاستعمال” (استخدام اللفظ لمعناه)، و”التحقق الخارجي” (وجود المعنى الواقعي) هي ساحات مستقلة. وهذا التفريق هو قاعدة في فهم الاستعمالات الأصولية.
ب. التحليل الصرفي والنحوي
يفكك المفردات وفقًا لقواعد الصرف العربي، مثل تمييزه بين “أمور” كجمع جامد و”أوامر” كمشتق، مما يمنحه دقة أكبر في استكشاف المعنى.
وفي مواطن أخرى، يتخطّى التعاريف المصطلحية الجاهزة، كما في مفهوم “المطلق” حيث يراجع دلالة “الجنس” و”الشيـاع”، داعيًا إلى تجاوز الأُطر الظاهرية لمفاهيم المنطق والنحو، نحو تعمقٍ في الأصول المفهومية.
ج. الاستفادة من قواعد اللغة
كما يستخدم قواعد الاشتقاق والاشتراك اللفظي والتعدد المعنوي. ففي موضوع “الاشتراك اللفظي” يبيّن أن تعدد الوضع لا ينافي تعدد المعاني، ما دام ذلك منسجمًا مع قواعد الوضع اللغوي.

ثالثًا: مناهج الكشف والحكم المفهومي

لم يقتصر المحقق العراقي على القواعد اللفظية، بل استند أيضًا إلى آليات معرفية عقلانية:
أ. الرجوع إلى الوجدان اللغوي (الذوق العرفي):
بدلًا من التقريرات النظرية الجافة، يستند إلى “الوجدان اللغوي” بوصفه دليلًا حيًا على ظواهر لغوية كوجود الاشتراك في الاستعمالات.
ب. الاستقراء المفهومي:
في استكشاف مصاديق الألفاظ، يستخدم الاستقراء لإثبات تعدد الاستعمال وتنوع المعنى.
ج. إزالة الأوهام وتنقية المفاهيم:
لا يتعجل في الحكم، بل يبدأ بتحليل الأوهام والمغالطات الشائعة، مثل توهم أن الاشتراك ينافي الحقيقة، أو حصر المعاني في جامع واحد.
د. التحليل العقلي المنطقي:
حين تطرأ تعميمات خاطئة أو خلط مفاهيمي، يواجهها بالتحليل العقلاني، كما في تمييزه العميق بين “الطلب الحقيقي” و”الطلب الظاهري”.

رابعًا: المبادئ العليا للفكر الأصولي

يتجاوز المحقق العراقي الأدوات الجزئية، ليبني فكره على مبادئ كليّة تؤطّر منهجه:
أ. الاكتفاء الذاتي المفهومي
يعالج المفاهيم من داخل المنظومة الأصولية، دون أن يستورد نماذج فلسفية أو أنظمة فكرية خارجية.
وهذا ما يمنح فكره طابعًا مستقلًا، دقيقًا، متصلًا بالقضايا، ومؤثرًا في التطبيقات العملية لفهم اللغة والتكليف.
ب. الدقة التحليلية والتفريق المفهومي
يمارس تفكيكًا دقيقًا للمفاهيم المتقاربة، ويتجنب الخلط بينها بكل حذر.
ج. تنقية المفاهيم من الشوائب
يرفض التأويلات المتكلفة ويحرص على تقديم المفهوم بأقصى درجات الصفاء والوضوح.
د. النفوذ من ظاهر اللفظ إلى حقيقة المعنى
لا يكتفي بظاهر المفردة، بل يتوغل في طبقتها المعنوية-الوجودية، مستجليًا ماهيتها.

الخاتمة

منهج المحقق ضياء الدين العراقي في علم الأصول هو توليفة متينة من الدقة الفلسفية، والتحليل المفهومي، والفهم اللغوي، والتعقّل المنطقي.
وقد أسّس من خلال هذه العناصر نسقًا منهجيًا لفهم الفكر الأصولي، لا يتوسّل اللفظ بظاهره، ولا يقف عند قواعد الاستخدام، بل يخترق طبقات المعنى، مصفّيًا بؤر التداخل، ومشيدًا صرحًا تحليليًا يُضيء درب الاجتهاد الأصولي.
إنه يُفكّر… لا على عجل، ولا على سطح، بل برويّةٍ عميقةٍ، وبعقلٍ مصقولٍ، وباحترامٍ للّغة بوصفها مرآة الفكر الأصولي.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *