الثابت-والمتغير

مناشئ تغيّر الحكم وتحديد الثابت والمتغير .. سماحة السيد محمد باقر السيستاني

الاجتهاد: إذا كان الحكم الشرعي مجعولاً من قبل الحاكم على أساس صلاحياته القانونية فيمكن تغييره لاحقا من قبل ولي الأمر، ولا يعد ذلك من النسخ المعروف اصطلاحاً كتقدير الحاكم للعقوية المناسبة في موارد التعزير. وقد يختلف الفقهاء في كون جملة من الأحكام الشرعية من الأحكام الأولية (الثابتة) أو الولائية القابلة للتغيير من قبل من له الصلاحية التشريعية.

من الضروري التفريق في الأحكام الشرعية بين المتغير والثابت من الأحكام الشرعية. فقد يُشكّل حكمٌ ما المقدارَ المعقول من العدالة في ملابسات زمنية سابقة، ولا يكون كذلك في زمان لاحق.

وهذا المعنى – على الإجمال – أمر واضح و بديهي؛ إذ لا يسع للإنسان أن يعتبر الأجيال السابقة كلّها أجيالاً سيئة لممارستها لبعض الأفعال التي تستقبح اليوم؛ لأنها كانت تمارس المفاهيم الفطرية في حدود ما يسمح به الفهم والإدراك الإنساني آنذاك..

فلا يصح القول – مثلاً – : إن آباءنا كانوا ظالمين في ممارستهم لبعض الأساليب في تأديب أولادهم؛ فإنهم لم ينطلقوا في ذلك من مجرد الانفعال، بل كان تأديبهم بحدود المعقول بحسب ما تسمح به ثقافتهم – ما لم يجافِ الفطرة – وقد تحرّوا فيه وجه الحكمة آنذاك بالنظر إلى تقديرهم لمضاعفات العقوبة بها دون ذلك، وليس من الضروري أن يكون هذا الحكم في هذا الزمان كذلك أيضاً.

وعليه: فإن اعتقاد المرء بأن أموراً محددة هي من الظلم من زمان نشأة أول إنسان على الأرض إلى الآن – بلا اكتراث بالثقافة والبيئة والظروف والأعراف والعادات والتقاليد والأماكن والبدائل الميسورة – تفكير ساذج وغير ناضج.

والوجه العلمي والفني في تخريج هذا الاختلاف هو: أن العناوين الفطرية – وإن كانت ثابتة في أصولها العامة في الضمير الإنساني – ولكنها يجوز أن تختلف في تطبيقاتها وأدوات تنفيذها والأعراف الحامية لها باختلاف الأزمنة والظروف.. وهذا المعنی معروف عند علماء الاجتماع والقانون.

وبذلك يظهر أن من الجائز في الحكم المجافي للفطرة في مجتمع في الزمن الحاضر ألا يكون كذلك في الأزمنة السابقة؛ فإذا قُدِّرَ كون الحكم الوارد في الشريعة من المتغير لم يكن هناك من محذور في البين.

ولنذكر هنا إيضاحين مهمين بشأن مناشئ تغيّر الحكم وتحديد الثابت والمتغير..

الإيضاح الأول: حول مناشئ تغير الحكم: فإنّ لتغيّر الحكم مناشئ ثلاثة في الفقه والقانون..

الأول: نسخ الحكم وتغييره من قبل المشرّع.

الثاني: أن يكون الحكم ولائياً جعله الحاكم وفق المصالح المتغيرة باختلاف الأمكنة والأزمنة. وذلك لأن كل نظام تشریعي – كما يحتوي على عناصر ثابتة – فإنه يترك مساحة يخوّل فيها السلطة التشريعية في الدولة للتقنين فيها وفق المصالح المتغيرة مع رعاية الأصول العامة للتشريع.

وعليه: فإذا كان الحكم الشرعي مجعولاً من قبل الحاكم على أساس صلاحياته القانونية فيمكن تغييره لاحقا من قبل ولي الأمر، ولا يعد ذلك من النسخ المعروف اصطلاحاً كتقدير الحاكم للعقوية المناسبة في موارد التعزير.

وقد يختلف الفقهاء في كون جملة من الأحكام الشرعية من الأحكام الأولية (الثابتة) أو الولائية القابلة للتغيير من قبل من له الصلاحية التشريعية.

الثالث: أن يكون الحكم الأولي محدودة بحدود ارتكازية يلتفت إليها أهل الفقه والقانون الذين يطلعون على الأصول العامة للنظام التشريعي المفترض، وعلى المناحي المنظورة بالتشريع الخاص فيوجب ذلك عدم انطباق الحكم في حال اختلاف الظروف والملابسات.

وقد يمثل لذلك بملكية المقاتلين لأربعة أخماس الغنيمة؛ فإنه ناظر إلى الأسلوب السابق للقتال وأدواته المعروفة حيث كان المقاتل هو صاحب الجهد نوعاً في التدريب والتجهيز للقتال دون الحاكم، فلا يحتمل ثبوت هذا الحكم وفق الأسلوب الحديث الذي يكون ذلك كلّه شأن الدولة، بأن يحكم بملكية المقاتلين للطائرات والدبابات والمدافع التي يستولون عليها – مثلاً -.

الإيضاح الثاني: حول تحديد الثابت والمتغير في الشريعة:

فإن هناك منحيين اجتهادييّن في تحديد الثابت والمتغير في الشريعة، وهما ..

١. منحى الأخذ بالنص، ويرى هذا المنحى تعيّن الأخذ بالنص على وجه الإطلاق، فتكون عامة الأحكام المذكورة عنده من قبيل الثابت التشريعي.

۲. منحى الأخذ بالمقاصد – أو الفقه المقاصدي – ويرى تحكيم الذوق الفقهي في تأمل اتجاه النص ومقصده وفق الأصول والمقاصد العامة للشريعة، ويستنبط بموجبه حدوداً للحكم المفاد بالنص يؤدي إلى تجويز اختلاف الحكم وفق المتغيرات بحسب الزمان والمكان.

ويوجد في ضمن هذا المنحى اتجاهات عديدة يتوسع بعضها في تحري المقاصد التشريعية العامة ويعتبر كثيراً من الثوابت وفق المنهج المشهور من جملة المتغيرات.

وتتّفق هذه المناحي الاستنباطيّة رغم الاختلاف بينها على قواعد ثلاثة للاستنباط ..

القاعدة الأولى: عدم إطلاق جميع الأحكام الواردة لجميع الأزمنة، لا لأن لنا سلطاناً على نسخ الحكم، بل لأن بعض الأحكام في الأصل ولائية أو محدودة بحدود تختلف معها باختلاف البيئات والظروف والملابسات حسب الأزمنة، نظير مثال الغنيمة الذي مر ذكره.

وعليه: فلا بد لمن يتصدى لاستنباط الموقف التشريعي من أخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار.

القاعدة الثانية: أصالة الثبات في الحكم والقانون؛ بمعنى: أنه لا يصح البناء على اختلاف الحكم باختلاف الزمان لمجرد بعض وجوه الترجيح والاستحسان، بل لا بد من الاستيثاق فيه حتى يكون المخرج ناضجاً ومدروساً ومؤكداً.

وهذا مبدأ عقلاني عام في الدساتير والقوانين، فإن العقلاء يبنون عليها حتى يثبت المخرَج البيّن عنها.

وهناك اعتبارات عدة يتعارف الأخذ بها لدى العقلاء للتوسعة في الإبقاء على الحكم زماناً ومكاناً ..

منها: أن بقاء القانون في نفسه أمر مناسب بحسب الذوق القانوني، ومن ثَم يكتفى في إبقاء القانون بما لا يكتفى به في إحداثه، فلا يرفع اليد عنه إلا بمبرر قوي؛ ولذا تجد أن الدستور الوضعي في كثير من الأحيان قد جُعل من قبل جيل سابق وفق أعراف و مقتضیات قائمة آنذاك، فيُبنى على بقائه رغم اختلاف الأجيال وتجدد الأحوال، أخذاً بمبدأ الثبات والاستقرار في القانون.

ومنها: العناية بالتواصل التاريخي في ذهن المجتمع بين ماضيه وحاضره؛ اعتزازاً بماضيه، وعناية بالقيم الفاضلة التي يلهمها هذا الماضي في ذهن أهله مما يساعد على الحفاظ على تلك القيم، ويقيه من الهزات التي يمكن أن تحدث في عامة أفراده في تلك القيم جراء تغيير القانون. نعم قد تحدث الهزة بإبقاء القانون في نفوس نخبة من المجتمع، إلا أن الاهتمام بعامة الناس الذين هم الطبقة الأوسع مقدّم على رعاية أذهان النخبة.

وهذا العامل أمر معقول وإن كان لا ينبغي الإفراط في الأخذ بما يجافي العقل والمنطق الفطري الإنساني.

نعم قد يفرض لزوم مفاسد كبيرة من تغيير القانون بالقياس مع الملاحظات المتوجهة إليه فيكون إبقاؤه أفضل بطبيعة الحال.

القاعدة الثالثة: ضرورة عدم مصادمة الحكم حدوثاً وبقاءً مع المبادئ العقلية الواضحة.

وهذه قضية يتفق عليها الفقهاء، وإن اختلفوا في تخريجها، فمنهم من يخرجه على أساس قيمة الحكم العقلي، ومنهم من يخرِّجه على أساس اعتماد الشارع نفسه على تلك المبادئ واتخاذها أصولًا تشريعية، ويعتقد أنه لم يكن يلزمه أن يفعل ذلك، وذلك تحرُّجاً من أن يلزم الشارع بحدود لا يحق له تجاوزها.

وعلى كلا المنهجين فلا شك في أنه متي شُخّص منافاة بقاء الحكم مع القانون الفطري کان ذلك بنفسه نافياً لثبوته وفق ثوابت الشريعة وقواعدها.

محمد باقر السيستاني

المصدر: كتاب حقيقة الدين لسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد باقر السيستاني.

 

تحميل الكتاب

حقيقة الدين – السيد محمد باقر السيستاني

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky