الاستعباد

مناشئ الاستعباد في العالم .. الشهيد مرتضى مطهري

ما هي المباني الرئيسة لإقرار العبودية في الإسلام، من القرآن والروايات المعتبرة ؟ وهذا السؤال هو من جملة الأسئلة التي تطرَّقنا إلى بحثها بشكلٍ وآخر، بمعنى أننا قد ذكرنا مناشئ الاستعباد، وأسبابه في النُّظُم الوضعية، مع بيان الأسباب التي لا يقرّها الإسلام منها.

الاجتهاد: هذا البحث مقتطف من مقالة بعنوان: الرقِّية والاستعباد في الإسلام .. للشهيد الشيخ مرتضى مطهري. ترجمة: حسن علي مطر، مجلة نصوص معاصرة العددان المزدوجان: 36 – 37.

بقي عددٌ من الأسئلة التي أثارها السيد المهندس (مصطفی) كتيرائي، نرى طرحها هنا؛ لنجيب عنها، ونختم المسألة بشكلٍ كامل.

إن من بين الأسئلة التي ذكرها المهندس: «ما هي المباني الرئيسة لإقرار العبودية في الإسلام، من القرآن والروايات المعتبرة»؟

وهذا السؤال هو من جملة الأسئلة التي تطرَّقنا إلى بحثها بشكلٍ وآخر، بمعنى أننا قد ذكرنا مناشئ الاستعباد، وأسبابه في النُّظُم الوضعية، مع بيان الأسباب التي لا يقرّها الإسلام منها، وخلاصتها كما يلي:

 
1ـ عجز المَدين عن الوفاء بأداء الدين

إن من بين الأعراف التي كانت سائدةً في بعض أقطار المعمورة في الحد الأدنى أن يكون الشخص مَديناً لشخصٍ آخر في بعض الأحيان، ولا يستطيع أداء دَيْنه، فلا يبقى أمامه سوى تمليك نفسه له. وكان هذا يمثِّل طريقاً لإحقاق الحقّ؛ إذ يقولون: إن حق الدائن يجب أن يُؤدَّى له، وحيث إن المَدين لا يملك شيئاً فلا مندوحة من استعباده.

وهذا لا وجود له في الإسلام قطعاً. فحتى إذا كان المَدين مُعْسراً لا يحق للدائن أن يضيّق عليه، بل عليه أن يتساهل معه حتّى يتمكن من سداد الدين. وقد ورد التعبير عن ذلك في القرآن الكريم بالقول: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ (البقرة: 280).

2ـ الاستعباد الطَّوْعي

إن من بين مناشئ الاستعباد الأخرى هو الاستعباد الطوعي. حيث يقال: إن بعض المجتمعات تشهد حالات يتبرَّع فيها بعض الأفراد إلى تسليم قياد أنفسهم لغيرهم بكامل إرادتهم! لماذا؟ السبب في ذلك يعود إلى أن بعض المجتمعات تشهد اضطرابات وأزمات حادّة، يعيش أغلب الناس فيها حالات مأساوية، من الفقر المدقع والمجاعة، حيث ترزح الغالبية من أفراد المجتمع في أوضاع من البؤس والحرمان، بينما يتمتَّع القليل من الناس ومَنْ يلوذ بهم، من المقرَّبين، في بحبوحةٍ من العيش الرَّغيد.

وكان عبيد هؤلاء الأثرياء يتمتَّعون بظروفٍ أفضل من سائر الناس، حتّى الأحرار منهم. من هنا يلجأ بعض الأحرار؛ للخلاص من واقعهم المزري، إلى الأثرياء من السادة وأصحاب الممتلكات والأثرياء، ويعرضون عليهم فكرة استعبادهم بمَلْء رغبتهم وإرادتهم.

فهل يقرّ الإسلام هذا النوع من الاستعباد الطَّوْعي؟ وبعبارةٍ أخرى: هل يملك الإنسان الحُرّ حرِّية التنازل عن حرِّيته؟ فهل يمتلك الفرد القدرة على التجرُّد من حرِّيته، بأن يقول: أنا حرّ، ويجب أن أكون حرّاً في التصرُّف بحرِّيتي بجميع أنواع التصرّف، التي تشمل حتّى تجريد نفسي من حرِّيتي، فأنا أرغب في أن أكون عبداً لشخصٍ آخر؟ فهل يصحّ ذلك أم لا؟ لا شَكَّ في عدم صحّة هذا الكلام.

3ـ الدِّين

إن من بين المناشئ التي ذكرت للاستعباد هي الدِّين، بمعنى أن مجرَّد الدين ـ وليس الحرب بين أتباع دينين ـ يبيح لأتباعه استعباد أتباع الأديان الأخرى، بمعنى أن يقوم أتباع دين ـ لمجرَّد كونهم أتباع هذا الدِّين ـ باسترقاق أتباع دينٍ آخر؛ لمجرّد أنهم يختلفون معه في الدين. وبطبيعة الحال حيث يدور الكلام حول الدين كانت الذريعة المطروحة في هذا الشان هي القول بأن استعباد أتباع الدين الآخر يخلق الأرضية الخصبة للتأثير عليهم.

فهل يجيز لنا الإسلام استرقاق الآخرين؛ لمجرد اعتناقهم ديناً آخر غير الإسلام؟

الجواب: لا شَكَّ في عدم جواز ذلك قطعاً، بمعنى أننا لا نستطيع أن نستعبد شخصاً مسيحياً أو يهودياً أو مجوسياً، بل وحتّى غيرهم، تحت ذريعة اتّباعهم ديناً مختلفاً، دون أن يصدر عنهم عدوانٌ في حربٍ، أو أسرهم في ساحة القتال.

4ـ العِرْق

الأمر الآخر ـ الذي سبق أن ذكرناه في المحاضرات الأولى ـ هو مسألة العِرْق. فهل يمكن القبول بالفلسفة القائلة بأن بعض الأعراق في الدنيا قد خلقت وهي لا تصلح لغير الاستعباد، حالها في ذلك حال بعض الحيوانات، مثل: الخيل والبغال والحمير.

فحيث نجد الناس يبيحون لأنفسهم استخدام هذه الحيوانات، مع أنها في الشعور بالألم وتحمُّل الأذى مثل البشر، ولكنْ مع ذلك يبيح الإنسان لنفسه استعبادها، دون أن يعتبر ذلك ظلماً؛ بحجّة أن خلقتها تختلف عن خلقتنا، فقد خلقت لحمل الأثقال، غاية ما هنالك يجب عدم تحميلها فوق طاقتها، ودون إيلامها وظلمها، مع رعايتها وتوفير الطعام والراحة لها، ومعالجتها إذا أصيبت بمرضٍ.

فهل هناك مثل هذا الشيء بالنسبة إلى بعض الأعراق البشرية، بمعنى أنها خلقت لخدمة الأعراق الأخرى؟ وهذا هو ما ذهب إليه أرسطوطاليس، على ما تقدَّم أن ذكرناه في محاضرةٍ سابقة.

أمّا الجواب عن ذلك فهو: ليس هناك من شَكٍّ في أن الإسلام لا يجيز هذا المنطق.

5ـ العقوبة على جُرْم

إن من بين مناشئ الاسترقاق التي كانت سائدة في الأزمنة الغابرة (الجريمة). وهذا يستحقّ بحثاً مستقلاًّ. فقد قيل: يعتبر الاسترقاق والاستعباد في بعض القوانين الوضعية عقوبةً على بعض الجرائم الخاصّة. فإذا ارتكب شخصٌ الجريمة الاجتماعية الكذائية كانت عقوبته عليها سلب الحرِّية منه.

فهل لدينا في التشريع الإسلامي مثل هذا الحكم؟ هناك في الإسلام عقوباتٌ شديدة تمّ تشريعها لمعاقبة بعض المجرمين، وقد تمّ التصريح ببعضها في القرآن الكريم، أو في السنّة الثابتة القطعية، من قبيل: عقوبة المحارب، والمحارب هو الذي يشهر السلاح بوجه المسلمين، وقد بيَّن الله عقوبة المحارب في القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ﴾ (المائدة: 33)، حيث استعمل كلمة «يُقَتَّلُوا» بصيغة المبالغة؛ للدلالة على شدّة القتل، أو الصَّلْب، أو قطع الأوصال والأطراف من خلافٍ، بمعنى قطع الرجل اليمنى واليد اليسرى، أو الرجل اليسرى واليد اليمنى؛ ليبقى بذلك عبرةً لمَنْ سواه.

ويبدو أنه لا توجد عقوبة في الإسلام أشدّ من هذه العقوبة، ومع ذلك لم يتمّ تشريع الاستعباد في الإسلام، حتّى بالنسبة إلى المحارب.

وعليه فإن المنشأ والمورد الوحيد للاستعباد في الإسلام يقتصر على الذين يُؤْسَرون في ساحة القتال والحرب ـ وقد سبق لنا أن تحدَّثنا عن الحرب في المنظار الإسلامي، وقلنا: إنها تختلف عن سائر الحروب الأخرى، من حيث الهدف، والخصائص، ورعاية الشروط الأخرى المذكورة في مظانّها ـ حيث يجوز الاسترقاق بوصفه واحداً من بين خيارات ثلاثة، وفي بعض الحالات واحداً من بين خيارات أربعة، يعود تشخيصها إلى وليّ أمر المسلمين، فقد يرى المصلحة في عدم الإبقاء على الأسير حيّاً، وأنه حيث أُسر في حالة الحرب أمكن قتله (ولهذا بحثٌ مستقلّ)، أو أن يسترقّه، أو أن يحرِّره مِنَّةً دون قيد أو شرط، أو أن يحرِّره بشرط أن يدفع فديةً، أو أن يُستبدل بأسيرٍ أو أسرى وقعوا في أيدي الأعداء ـ. وهذا هو المورد الوحيد الذي شرَّع فيه الإسلام جواز الاسترقاق والاستعباد، ولا غير.

بيان القرآن

لقد رأيتُ ملاحظةً جديرة بالاهتمام في كتاب «شبهات حول الإسلام»، لمؤلِّفه محمد قطب، حيث أجاد كتابة هذا الفصل من الكتاب، رغم وجود بعض النواقص في بعض فصوله الأخرى من وجهة نظري، بمعنى أنه تجاهلها، ولم يبحثها.

يقول الأستاذ قطب: إن الموجود في القرآن الكريم بشأن أسرى الحرب ينحصر في آيةٍ واحدة فقط، وهي الآية الواردة في سورة «محمد»، وهي قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ (محمد: 4).

يطلق العرب على يوم الحرب مصطلح «يوم اللقاء»، وهنا يستعمل القرآن مصطلح «إذا لقيتم» بهذا المعنى، فعندما يتمّ اللقاء مع الكفّار في ساحة الحرب فعليكم بضرب رقابهم، حتّى إذا أثخنتموهم، وكانت لكم الغلبة عليهم، فشدّوا الوثاق بعد أسرهم.

وبعد أن تمّ توثيقهم وأسرهم يعرض القرآن الكريم في هذه الآية خيارين، وهما: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾، وقد قلنا بأن الفداء على قسمين: إمّا فداءٌ مصحوب بالمَنّ، ومن دون شرط؛ أو فداءٌ مشروط بالفدية ودفع النقود، أو من خلال الاستبدال بأسيرٍ أو أسرى من المسلمين وقعوا في يد الأعداء، وهو الذي لا يزال مألوفاً في العالم، حيث يتم التبادل بين الأسرى من الجانبين. ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ أي حتّى تنتهي الحرب، وهناك بحثٌ بين المفسِّرين بشأن الغاية التي تفيدها هذه العبارة من الآية.

والملفت للانتباه أن القرآن إنّما يقتصر على بيان خيارين من الخيارات الأربعة التي تقدَّم منا ذكرها، والتي يجب على وليّ أمر المسلمين تحديد الأولويّة لواحدةٍ منها.

وبطبيعة الحال فإن هذه المسألة اختيارية، بمعنى أنه يجب أن ينظر مكمن المصلحة في ذلك بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي، ويتَّجه إلى الاختيار على أساسها، لا من منطلق هوى نفسه، فعليه أن يختار، طبقاً لما يراه من المصلحة: إمّا القتل (إذا كان ذلك الفرد لا يصلح معه إلاّ القتل، بمعنى أنه يشكِّل خطراً على المجتمع حتّى في حال استعباده، فضلاً عن إطلاق سراحه، أو أخذ الفدية منه)؛ أو الاسترقاق والاستعباد؛ أو تحريره دون شرطٍ بالمَنّ؛ أو تحريره بشرط أخذ الفدية. أما هذه الآية فلم تذكر سوى الخيارين الأخيرين؛ إذ قالت: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.

النظريّة الأولى

يوجد هنا واحدٌ من ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يقال: إذن لا وجود لذينك الخيارين ضمن الأحكام والتعاليم الإسلامية أصلاً؛ إذ نبقى نحن وما يقوله القرآن الكريم. والقرآن لم يقُلْ أبداً: يمكن لكم استرقاق الأسرى، وإنّما اكتفى بذكر هذين الخيارين، ونحن لا نقبل بسوى القرآن؛ إذ لا قطعية لما سواه. وعليه لا يكون أصل الاستعباد موجوداً في الإسلام.

هذا واردٌ كاحتمال، بمعنى أنه يمكن لشخصٍ أن يحتمل مثل هذا الاحتمال.

إلاّ أن هذا الاحتمال ـ بطبيعة الحال ـ لا يمكن قبوله؛ لأنه على خلاف السيرة القطعية التي سار عليها المسلمون منذ الصدر الأوّل. ويبدو أننا لا نعثر في سيرة الرسول الأكرم‘ على ما يُثبت أنه عامل الأسرى معاملة العبيد، بمعنى أن النبيّ الأكرم‘ في المعارك التي قادها بنفسه قد اختار واحداً من هذين الخيارين فقط، وربما عمد في بعض الموارد إلى الحكم بقتل بعض الأشخاص بعينهم، ولكنْ لم يكن في البين استعبادٌ.

فعلى سبيل المثال: تمّ أسر سبعين شخصاً في معركة بدر. وهؤلاء الأسرى قد أُخذت من بعضهم الفدية، وتمّ تحريرهم وإطلاق سراحهم، أو تمَّ إطلاقهم دون قيدٍ أوشرط من باب المَنّ. وكان هناك من الأسرى في بدر مَنْ لم يكن يملك شيئاً يفكّ به أسره؛ فقال له رسول الله: هل تعلم القراءة والكتابة؟ قال: نعم، فقال له الرسول: فداؤك أن تعلِّم أطفال المسلمين. إلاّ أن النبيّ لم يختَرْ اللجوء إلى الاستعباد أبداً.

وحيث إننا نواجه هذه المسألة حديثاً نجد حاجةً إلى قراءة المزيد بشأنها. وهناك آراءٌ ملفتة للانتباه في هذا الموضوع.

فعلى سبيل المثال: نجد لدى بعض الأفراد ـ وكأنّني رأيت ذلك في بعض كلمات الفخر الرازي ـ نَمَطاً فكرياً يقول: ربما لا يجوز استعباد الأسرى إذا كانوا من العرب؛ لأن الحروب التي خاضها النبيّ الأكرم قد اقتصرت على العرب، وحيث إنه لم يستعبد أحداً في هذه الحروب فهذا يعني أنه لم يستعبد عربياً.

في حين أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون صحيحاً؛ فالذي لا يمكن الشكّ فيه هو أن قوانين الإسلام لم تفرِّق بين العرب والعجم. ويتأكَّد لنا ذلك من خلال الرجوع إلى التصريح بذلك من قبل النبيّ الأكرم‘ نفسه.

بَيْدَ أننا نقول: صحيحٌ أن النبي الأكرم لم يستعبد أحداً بنفسه في الحروب التي خاضها، إلاّ أن هذا لا يعني بالضرورة أن ما كان يقوم به المسلمون بعد ذلك من الاسترقاق باطلٌ، ومخالف لتعاليم النبيّ. نعم، قد يمكن للسنِّي أن يقول ذلك، إلاّ أن قول ذلك بالنسبة إلى الشيعيّ مشكلٌ؛ إذ إن السنّي لا يصحِّح إلاّ قول النبيّ وسنَّته، وبعده لا يجد حَرَجاً في القول بأن كلّ ما قام به المسلمون بعد النبيّ مخالفٌ لتعاليمه؛ لأنهم غير معصومين، في حين أننا كشيعة نعتبر العصمة للأئمة، قولاً وفعلاً وتقريراً، وعليه نقول: لو كان مثل هذا الشيء موجوداً لخالفه الأئمّة المعصومون^.

وبطبيعة الحال صحيحٌ أن الأئمّة لم يقوموا باستعباد الآخرين شخصياً، ولكنْ في الوقت نفسه لم يصدر عنهم ما يوحي بتخطئة هذه الظاهرة، بل كانوا أحياناً يرتِّبون الأثر على ما يقوم به الآخرون من استرقاق الأسرى؛ فكانوا يتعاملون معهم معاملة العبيد، بمعنى أنهم كانوا يشترونهم، وربما كانوا يشترونهم بنيّة الإعتاق، إلاّ أنّهم ـ على أيّ حال ـ كانوا يمضون ذلك من خلال الشراء.

وعلى أيّ حال فإن هذا الاحتمال موجودٌ. فمن الممكن لأولئك الأشخاص الذين يتشبَّثون بتأصيل القرآن، ويقولون: نؤمن بكلّ ما في القرآن، ونرفض جميع ما لم يَرِدْ فيه، ولا سيَّما بالنظر إلى أن سيرة النبيّ الأكرم تخلو من حالات الاستعباد، الأمر الذي يجعل من الممكن لشخصٍ أن يقول: لا وجود للاسترقاق في الإسلام من الأساس، وأن الذي كان قائماً في الحدّ الأدنى هو المعاملة على العبيد الذين كانوا موجودين منذ البداية، وأنه كان يُعاملهم معاملة العبيد بما أسلفناه من الخصائص والضوابط التي رصدت خطّةً لضمان حرِّية عميقة وراسخة لهؤلاء العبيد، بحيث لو نجحَتْ هذه الخطّة ـ وخاصّة إذا تمّ تجفيف المصادر، وسدّ المنافذ التي تفضي إلى الاستعباد ـ لتحقَّقَتْ الحرِّية على مستوىً واسع.

النظريّة الثانية

وأما إذا لم نقل بهذه النظرية فهناك رأيان آخران يمكن قولهما. وأحد هذين القولين ـ وهو قولٌ في غاية الضعف والسخف ـ هو الذي ذهب إليه بعض المتقدِّمين من علماء أهل السنّة، وذلك أنهم؛ حيث وجدوا هذه الآية القرآنية لا تتلاءم مع ما عليه واقع المسلمين، من ترجيح كفّة الاستعباد والاسترقاق، من هنا ذهبوا إلى القول بنسخ هذين الخيارين الواردين في هذه الآية!

وهو كلامٌ في غاية الخطل؛ إذ ما هو الناسخ لهذه الآية؟! هذا ما قاله بعضهم، ولم يَلْقَ قبولاً.

النظريّة الثالثة
الشريعة والسنّة

أما الاحتمال الآخر فهو ما قاله الأستاذ محمد قطب، وهو خير ما عثرت عليه من قبله. ولذلك أجد من الضروري أن أُضيء عليه؛ لما ينطوي عليه من الفوائد في الكثير من الموارد:

هناك بين التعاليم الإسلامية ما يندرج ضمن التعاليم الأساسية والأصلية، وهناك منها ما هو غير أساسي أو غير جوهري، بل هو من قبيل: الإجراءات التي يتَّخذها النبي الأكرم بشكلٍ مرحلي ومؤقَّت. وهذه التعاليم موجودةٌ بكثرة، ولكن قلَّما تمّ تناولها من قبل علمائنا في كتبهم، باستثناء الشيخ النائيني، في كتابه «تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة»؛ والعلامة الطباطبائي، في مقالٍ له [كتبه باللغة الفارسية] تحت عنوان: «ولايت وحكومت»([1])، وهو مطبوعٌ ضمن كتاب «مرجعيت وروحانيت».

وخلاصة الكلام: إن لدينا نوعين من التعاليم والأحكام: النوع الأوّل: هو ما يطلق عليه مصطلح «الشريعة»، بمعنى القانون الذي شرَّعه الله سبحانه وتعالى؛ والنوع الثاني: هو ما يُطلق عليه مصطلح «السنّة»، بمعنى الأسلوب الذي اختاره الرسول، طبقاً لما يتمتَّع به من الولاية، وما يقع في دائرة صلاحيّاته.

أحياناً يكون هناك قانونٌ منصوص ومصادق عليه، من قبيل: التشريعات الصادرة عن البرلمان؛ وتارةً يكون من نوع الأمور التي يسمح فيها القانون لشخصٍ في أن يقوم باتّخاذ الإجراءات والخطوات التي يراها مناسبة في حدود الدائرة التي يرسمها له القانون، وهذا النوع لا يدخل في صُلْب القانون، وإنما هو مجرّد آليّة يقرّها القانون. هناك الكثير من الأمور التي لا تدخل في صُلْب الشريعة الإسلامية، وإنما هي من الأمور الداخلة تحت صلاحيّات الرسول، ليختار منها ما يراه من المصلحة.

والفرق بين الأحكام الأصلية والأحكام من النوع الثاني يكمن في أن الأحكام الأصلية تمثِّل قانوناً ثابتاً لا يتغيَّر، وأما الأحكام التي هي من النوع الثاني فهي أحكام مؤقَّتة، وتابعة لمقتضيات المرحلة. والقانون الأصلي والأساسي بشأن أسرى الحرب هو أحد هذين الحكمين الواردين في قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ (محمد: 4)، وهذا غير قابلٍ للنسخ أو التبديل. وانتخاب أحد هذين الخيارين صحيحٌ دائماً وفي جميع الأحوال. أما الاسترقاق فهو أسلوبٌ مؤقَّت، ولم يتمَّ تشريعه كقانون أصلي ثابت.

المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الرقِّية والاستعباد في الإسلام .. للشهيد الشيخ مرتضى مطهري. ترجمة: حسن علي مطر ، مجلة نصوص معاصرة العددان المزدوجان: 36 – 37 .

 

لتحميل المقالة كاملها أضغط  ( الرقِّية والاستعباد في الإسلام)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky