الاجتهاد: يمكن إجمال ملامح النظرية والرؤية السياسية للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر في مستويين: مستوى حركي، ومستوى نظري، وكلاهما مكملان لبعضهما البعض، فسلوكه الثوري ضد حزب البعث واستبداد صدام حسين يتكامل مع نظريته السياسية المعادية لأي خروج عن الإسلام والداعية للعدالة والحرية والثورة، وسوف نقدّم هنا مجرد قبسات من سلوك وفكر الشهيد للتأكيد على هذا المنحى.
أـ المستوى الحركي: نستطيع الآن وبعد 20 عاماً على استشهاده أن نؤكد أن فكر الشهيد محمد باقر الصدر السياسي كان من أهم أسباب إعدامه؛ وذلك لصلاحية هذا الفكر لكل الأمة الإسلامية ولكل مكان وكل مجتمع؛ لأنه مستمد من الإسلام الصالح لكل زمن ومكان.
كما لم تكن أفكاره طائفية تقتصر على الشيعة فقط، ولكنها كانت لعامة المسلمين كما كان الشهيد الصدر مهتماً بكل شؤون المسلمين ويجاهد من أجلهم، ففي رسالة بخط يده أرسلها إلى أحد إخوانه العلماء سنة 1963 يتحدث في جزء منها عن الإمام الخميني وموقف النجف من الأحداث في إيران يقول:
وأما بالنسبة لإيران فلا يزال الوضع كما كان، وآقاي خميني مبعد في تركيا من قبل عملاء أمريكا في إيران، وقد استطاع آقاي خميني في هذه المرة أن يقطع لسان الشاه الذي كان يتهم المعارضة باستمرار بالرجعية والتأخر؛ لأن خوض معركة ضد إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم أن يصف ذلك بالرجعية والتأخر.
وكتاب اقتصادنا صار الاتفاق على إرساله عن طريق مكتبة أميرالمؤمنين العامة في أول شحن تقوم به وسوف أكتب لكم عن ذلك إذا تحقق. وختاماً تقبّلوا إخلاصاً لا تحدّه إلا أبعاد وجودي، ودمتم ملاذاً وسنداً لمخلصكم، محمدباقر الصدر.
فجهاد الإمام الشهيد محمد باقر الصدر لم يكن مقصوراً على تعبئة الجماهير المسلمة بالعراق وقيادتها، بل تعدّى الحدود العراقية ليلتقي مع كل الحركات الإسلامية في كل أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الإسلام دين عالمي يمتد أثره ودوره إلى أرجاء العالم.
وقد برزت الممارسات الإسلامية الجماهيرية بشكل واضح ومنظم تحت قيادة الشهيد الصدر، الذي كان منظّراً وقائداً حركياً للجماهير أثناء فترة الحكم العارفي (عبدالسلام وعبدالرحمن عارف) تحت قيادة الإمام الحكيم (المرجع آنذاك).
ولكن قوى الهيمنة الغربية كانت تأبى على الحركة الإسلامية أن تنمو، فأرادت وأد الوليد الجديد قبل أن يستفحل خطره، خصوصاً وأنهم شخّصوا هذا الوليد الجديد منذ تحركه الحثيث قبل رحيلهم عن العراق سنة 1958 فباقر الصدر كان علامة بارزة في التحرك الإسلامي في مواجهة الاستعمارين: الإنجليزي والمدّ الشيوعي.
وعلى مستوى الأعمال والنشاطات السياسية، يمكن أن نذكر منها إسهامه في تأسيس (حزب الدعوة الإسلامية) في أواخر صيف 1378ق/1958م، ثم خروجه من الحزب في صيف عام 1380ق/1960م، وأيضاً إسهامه في تأسيس (جماعة العلماء في النجف الأشرف) وإسنادها، وكذلك إسناده لمرجعية آية الله العظمى المغفور له الإمام السيد الحكيم! ومشاركته في مجمل الأعمال السياسية التي كانت تتصدى لها هذه المرجعية، وكذلك رعايته للحركة الإسلامية في العراق بشكل عام، ثم تصوره لتطور المرجعية الدينية وطيّها للمراحل الأربع التي مرت بها والتي كانت آخرها مرحلة (القيادة)،
ثم تأسيسه لبذرة شورى المرجعية في إطار مرجعيته الخاصة، وطرحه لمسألة فصل العمل المرجعي وجهازه عن العمل التنظيمي الخاص (الحزب) عملياً، ثم تطوّر ذلك إلى فكرة فصل الحوزة العلمية بشكل عام عن العمل التنظيمي الخاص (الحزب) وتصريحاته وفتاواه بهذا الصدد التي تعبّر عن موقف سياسي عملي ينطلق من جذور فكرية،
ثم موقفه بعد ذلك من دور التنظيم الإسلامي في الحركة السياسية العامة والذي تجسّد بتعيين ممثّل له لدى بعض أطراف الحركة الإسلامية، ثم تسليم بعض الأطراف الأخرى لقيادته بعد انتصار الثورة الإسلامية، ومبادرته لتأسيس حركات ومكاتب إسلامية في الخارج وتعيين الممثّلين الوكلاء والعلماء في مختلف المناطق بعد تصدّيه للمرجعية الدينية قبل ذلك.[2]
كما التفت الشهيد محمد باقر الصدر إلى نقطة مهمة، وهي تعرّض المرجع للموت فقال عن هذه النقطة: (فلابد من ضمان نسبي لتسلسل المرجعية في الإنسان الصالح المؤمن بأهداف المرجعية الصالحة؛ لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعية إلى من لا يؤمن بأهدافها الواعية، ولابد أيضاً من تهيئة المجال للمرجع الصالح الجديد، ليبدأ ممارسة مسئولياته من حيث انتهى المرجع العام السابق، بدلاً من أن يبدأ من الصفر ويتحمل مشاق هذه البداية وما تتطلبه من جهود جانبية، وبهذا يتاح للمرجعية الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف وممارسة ألوان من التخطيط الطويل المدى.
ويتم ذلك عن طريق شكل المرجعية الموضوعية؛ إذ في إطار المرجعية الموضوعية لا يوجد المرجع فقط بل يوجد المرجع (كذات) ويوجد (الموضع) وهو المجلس بما يضم من جهاز يمارس العمل المرجعي الرشيد وشخص المرجع الصالح في حالة خلو المركز. وللمجلس وللجهاز _ بحكم ممارسته للعمل المرجعي ونفوذه وصلاته وثقة الأمة به _ القدرة دائماً على إسناد مرشّحه وكسب ثقة الأمة إلى جانبه.
ولقد شدد البعثيون الضغط على السيد الشهيد محمد باقر الصدر لعلمهم أنه مصدر الخطر عليهم، فمارسوا ضده أعمالاً إرهابية وصلت إلى حد الاعتقال. وكان ذلك بعد سنة من تولّيه المرجعية سنة 1971 وقد حاول النظام الظالم اعتقاله، ولكن تدهور حالته الصحية جعلهم يدخلونه إلى المستشفى مقيد اليدين ومربوطاً بالسلاسل، ثم أفرجوا عنه خوفاً من نقمة الجماهير التي لم يستطيعوا أن يغيروا اتجاهها رغم بقائهم في الحكم سنتين.
وكان هذا الاعتقال الأول ما هو إلا جسّ لنبض الشارع الإسلامي وترهيب للإمام الشهيد الذي لم يزده الاعتقال إلا صلابة تجسّدت في لقائه لزيد حيدر الذي تم في عام 1972، عندما كانت الأوضاع في العراق تنذر بالانفجار بعد أن أثقل النظام الطاغوتي كاهل الشعب بالضرائب، وكمّم الأفواه بالحديد والنار، وصادر جميع الحريات بالقوة الغاشمة، وقبل كل ذلك كان الإرهاب الدموي ضد الدعاة قد أثار استنكار الشعب وغضبه،
وكمحاولة من النظام الجائر لاستدراك وضعه المهزوم آنذاك، بعثوا بعضو القيادة القومية لحزب البعث المدعو زيد حيدر إلى الإمام الصدر لفتح صفحة جديدة معه ومطالبته بالتساهل مع الحكومة ومجاملتها، وذلك لتخفيف نقمة الجماهير على النظام، وربما كان النظام العفلقي يظن أن هذه الزيارة قد تليّن السيد الشهيد وتثنيه عن مواصلة الجهاد في سبيل الله.[3]
وفي لحظة التقاء مبعوث الحزب العميل (زيد حيدر) للسيد الصدر، كان المبعوث المذكور يبدي عنجهية طاغية، ظناً منه أن ذلك قد يدخل شيئاً من الرعب والخوف إلى قلب السيد الجليل، ناسياً أو متناسياً أن الصدر ابن الإسلام والقرآن ولا يخاف إلا الله.
وقد بدأ المبعوث حديثه مع المفكر الكبير عاتباً عليه عدم زيارته لمجلس قيادة الثورة ورئيسه أحمد حسن البكر، فردّ عليه السيد الصدر بقول رسول الله-: (إذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فقولوا: نِعم العلماء ونِعم الملوك، وإذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فقولوا: بئس العلماء وبئس الملوك). ثم وجه السيد الصدر لمبعوث الطغمة الظالمة قوله: (إذا كنت أنت وحكومتك لكم سلطان على أجساد الناس فإن لي سلطاناً على أرواحهم وضمائرهم، فعليكم أن تعرفوا من أنتم ومن أنا).
ثم عرج بحديث طويل عن دور العلماء في الجهاد ضد الاستعمار والغزاة مخاطباً المبعوث البعثي بقوله: (إن رجل الدين في الإسلام غيره في أوروبا، فلا تختلط عليكم التصورات وكونوا على حذر). وضرب له أمثلة قريبة في هذا الصدد، فذكّره بالمجاهد عبدالحسين شرف الدين الموسوي، الذي حارب الفرنسيين، وبقائد ثورة العشرين الشيخ محمد تقي الشيرازي وغيرهما من المراجع الذين ضربوا أروع الأمثلة في ميادين الجهاد. ثم تحدّث الإمام عن المظالم التي يقترفها حزب البعث بحق الشعب العراقي وسوّد له نماذج منها، وأخيراً خرج زيد حيدر من بيت السيد الصدر وقد خاب ظنه بما كان يتوقعه من لقائه بالسيد المجاهد الجليل).
وتوالت بعد ذلك المحن على الحركة الإسلامية في العراق _ كما نرصد في المحور الثاني _ وتعرضت قياداتها للاغتيال مثل عبدالصاحب دخيل، والشيخ عارف البصري، عمادالدين التبريزي، السيد نوري طعمة، السيد عزالدين القبانجي والسيد حسين جلوخان.
وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران انتعشت النفوس وانبعثت الآمال من جديد. وقوي العزم في الحركة الإسلامية في العراق رغم كل محاولات التصفية التي مورست في حق أعضائها من منتسبي حزب الدعوة. فالشعب العراقي مرّ بصراع رهيب مع السلطة التكريتية وصلت إلى الصدام المسلح في انتفاضة الأربعين التي قادها الأبطال الحسينيون من أهل العراق يوم كان الإمام الخميني في أرض العراق يخطّط للثورة العارمة على دولة الشاه المقبور.
لذلك اتجهت الجماهير إلى قائدها السيد الصدر الذي عاش الحالة الحسينية وآفاقها الجهادية منذ بداية حياته، فقال كلمته وأعلن عن الموقف الذي يفرضه الإسلام على أبنائه وإن أدى إلى فقد الحياة، قالها دون تردد أو تفكير أو خوف مؤيداً الثورة الإسلامية في إيران، وأرسل برقية تهنئة إلى الإمام الخميني عند انتصار الثورة. في الوقت الذي يعلم فيه أن السلطات البعثية تعدّ عليه أنفاسه وتضيّق عليه الخناق؛ خشية تكرار الثورة الإسلامية في العراق بقيادة المرجعية الدينية.
وقد سألته السلطة عن موقفه هذا وكيف يرسل برقية للإمام الخميني قبل إعلان الموقف الرسمي للحكومة البعثية؟ فأجابهم ما مضمونه أنه يمارس دوره الشرعي وينطلق من حكم الإسلام في ذلك.. . إضافة إلى أنه غير خاضع لقرارات الحكومة، بل هو قائد للأمة يعبّر عن رأيها، الأمر الذي أدى إلى توتر الأوضاع بينه وبين النظام البعثي مما دفعهم لاغتياله في النهاية.
ب ـ على المستوى الفكري
هذا ولقد بدأ الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله علیه تصوره النظري للرؤية وللنظرية السياسية انطلاقاً من عدة نقاط فقهية وعملية نذكر منها:
الاستفادة من آية الشورى <وَأَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ>[4] للدلالة على إمكان إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة الشورى، باعتبار أن الحكم وإقامة الدولة يمثّل أمراً مهماً من أمور المسلمين، ولا يمكن تجاهله فيمجتمعهم؛ لأن التجاهل يؤدي إلى تهديد أصل الدين، بالإضافة إلى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي.
ولابد من الالتزام بحكم الأكثرية في الشورى؛ لأن الإجماع في الأمور الاجتماعية أمر نادر، وهذا يعني أن إقامة الحكم على أساس الشورى يعني الرجوع إلى الأكثرية وإلا تعطلت آية الشورى ولم يكن لها مدلول عملي.[5]
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإسلام والدين من أهم الواجبات الإسلامية، ولما لمتكن هناك طريقة محدّدة وإطار سياسي عام مشخص لهذه الدعوة، كان ممكناً انتهاج كل أسلوب مؤثر فيهذا المجال يعطي للمسلمين القوة والقدرة على تحقيق هذا الهدف أو القيام بهذا الواجب الإسلامي وحينئذ يمكن طرح أسلوب (التنظيم الحزبي) بوصفه أفضل طريقة تجريبية توصّل إليها الإنسان في التحرك السياسي؛ حيث إنها الطريقة المتّبَعة والمعروفة الآن في المجتمعات الإنسانية (الحضارة الغربية والشرقية) والتي أثبتت جدواها وتأثيرها من خلال التجربة.
كما أن هذه الطريقة هي التي يمكن أن تواجه هذا الأسلوب الجذاب في المجتمع الإنساني الذي اعتمدته الأيديولوجيات والنظريات الحديثة الوضعية.
أن للفقهاء _ فيالنظرية الإسلامية وفيالتاريخ الإسلامي _ دوراً متميزاً. أما على مستوى النظرية، فنجد ذلك واضحاً في مجال استنباط الأحكام الشرعية وفي القضاء الإسلامي. أما على مستوى التاريخ الإسلامي فإن الأمة ارتبطت بالفقهاء عملياً وواقعياً، خصوصاً في أوساط أتباع أهل البيت(؛ إذ أصبحت تقدّسهم وتنقاد لهم وتنظر إليهم بوصفهم نوّاباً عن الإمام% وحكّاماً للناس والشريعة.
وهذه حقيقة عقدية وتاريخية لا يمكن تجاهلها في العمل السياسي، ولا يمكن التفكيك عملياً بين هذا الواقع العقدي والتحرك السياسي حتى لو انتهينا إلى التفكيك بين المرجعية في الفتوى والقيادة السياسية على المستوى النظري، ولذا لابد من منحهم هذا الدور في التصور النظري للتحرك السياسي.
يرتبط بالمحاور السابقة التي أشار إليها السيد محمدباقر الحكيم نقاط أخرى مهمة تكمّل نظرية الشهيد الصدر سياسياً، ومن ذلك رؤية الشهيد للغرب، حيث كانت له رؤية ثابتة فينواحي الاختلاف بين الإسلام والغرب، وهو يرى فيهذا الصدد أن الذي يعلم جوهر الصراع بين الإسلام والغرب يدرك أن هذا الجوهر يشتمل على نظرة كلا الجانبين (للإنسان) وموقعه والجانب الروحي للإنسان وتأثيره. وهذا ما لم يفهمه طابور المبشرين والمشوّهين التاريخيين الذين يقع في ذيلهم (سلمان رشدي وآياته الشيطانية) على سبيل المثال وليس الحصر.
فإذا ما علمنا _ كما يقول الإمام باقر الصدر)[6] أن للإنسان جانبين: أحدهما مادي يتمثل في تركيبه العضوي، والآخر روحي _ لا مادي _ وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي، فليس الإنسان مجرد مادة معقدة، وإنما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادي وآخر لا مادي.
وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفاً عسيراً في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين: المادي والروحي من الإنسان، ونحن نعلم قبل كل شيء أن العلاقة بينهما وثيقة حتى أن أحدهما يؤثر في الآخر باستمرار، فإذا خيّل إلى شخص أنه يرى شبحاً في الظلام اعترته قشعريرة،
وإذا كتب على شخص أن يخطب في حفل عام أخذ العرق يتصبب منه، وإذا بدأ أحدنا يفكّر حدث نشاط خاص في جهازه العصبي، فهذا أثر العقل أو الروح في الجسم، كما أن للجسم أثره في العقل، فإذا دبّت الشيخوخة في الجسد وهن النشاط العقلي، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشيء شيئين، فكيف يتاح للجسم والعقل أن يؤثر أحدهما في الآخر إذا كانا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات، فالجسم قطعة من المادة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم، وهو يخضع لقوانين الفيزياء.
وأما العقل _ أو الروح _ فهو موجود غير مادي ينتسب إلى عالم المادة، ومع هذه الهوّة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما، فقطعة من الحجارة يمكن أن تسحق نبتة في الأرض؛ لأنهما معاً ماديان، وقطعتان من الحجر يمكن أن تصطكّا وتتفاعلا.
وأما أن يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى شيء من التفسير، وهو الذي عاق التفكير الأوروبي الحديث على الأغلب عن الأخذ بفكرة الازدواج بعد أن رفض التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، فقد كان أفلاطون يتصور أن الروح جوهر قديم مجرد عن المادة يعيش في عالم وراء دنيا المادة ثم يهبط إلى البدن ليدبّره كما يهبط السائق من منزله ليدخل العربة ليسوقها ويدبّر أمرها.
وواضح أن هذه الثنائية الصريحة والهوّة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كل إنسان يشعر بأنه كيان موحّد وليس شيئين من عالمين مستقلين التقيا على ميعاد.
وقد أدت المشاكل التي تنجم عن تفسير الإنسان على أساس الروح والجسد معاً إلى بلورة اتجاه حديث في التفكير الأوروبي، إلى تفسير الإنسان بعنصر واحد فنشأت المادية في علم النفس الفلسفي القائلة: إن الإنسان مجرد مادة وليس غير، كما تولّدت النزعة المثالية التي تجنح إلى تفسير الإنسان كله تفسيراً روحياً، هذا طبعاً بعكس الإسلام تماماً الذي ركّز على الروح والمادة معاً وبسمو فريد.
الإسلام يقود الحياة السياسية والمجتمع إلى الأفضل
تلك نماذج من رؤى الإمام وأقواله التي وردت في كتابه (الإسلام يقود الحياة)، والتي تؤكد مجتمعة أركان نظريته السياسية الاجتماعية عن دور الإسلام السياسي في قيادة الأمة:
يقول السيد الشهيدمحمد باقر الصدر :
فمن ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً، نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب، ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة، ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية، وهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية.[7]
وحول ذات المعنى يقول الشهيد:
وما دام الله تعالى هو مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية.
إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرّع في ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية.
هذا ويميّز السيد محمد باقر الصدر هنا في كتابه المهم بين ثلاث حالات للشريعة، فيرى أن هناك أحكاماً ثابتة واضحة لا يمكن إلا الالتزام بها حرفياً، وهناك أحكام يختلف فيها الفقهاء، كما أن هناك حالات لم تُسْتَخرج أحكامها بعد، ولكل من هذه الحالات يحدّد السيد الشهيد موقفاً، فهو يرى:
أولاً: أن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعدّ _ بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية _ جزءاً ثابتاً في الدستور، سواء نصّ عليه نصاً صريحاً في وثيقة الدستور أم لا.
ثانياً: أن أيّ موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعدّ في نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعيّن من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة في ضوء المصلحة العامة.
ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة، من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثّل الأمة أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً.[8]
ومن ناحية وظيفة الدولة يقول الإمام في كتابه المهم:
نرفض إسلامياً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق _ أصالة الفرد _ والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع، ونؤمن بأن وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحمت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد، بل بقدر ما يعبّر عن أفراد وما يضمّ من جماهير تتطلب الحماية والرعاية.[9]
وخلاصة الأمر هنا أنه يمكن أن نقول: إن تفكير السيد الشهيد كان منصبّاً _ في مسألة التنظير للحكم والدولة السياسية الإسلامية العادلة _ على ضرورة الكشف عن التكامل الذاتي والموضوعي القائم بين نظرية ولاية الفقيه، وبين نظرية الشورى.
فقد كان الشهيد يرى أن للفقيه دوراً يتحرك في موقع الشهادة، وأن للأمة دوراً يتحرك في موقع الخلافة؛ لأن الشهادة والخلافة يجتمعان للمعصوم، ولكنهما لا يجتمعان للفقيه بهذا الشكل الشمولي الحاسم، لكن عدم اجتماعهما لا يمكن أن يؤدي إلى حدوث تسلط أو استبداد في الدولة؛ لأنه لا منافاة أبداً بين أن يتمثل الفقيه العادل دور القيادة للأمة والشهادة عليها، وبين أن تمارس الأمة دورها في المجال السياسي، وتتمتع بحقوقها المشروعة انطلاقاً من حاكمية الشريعة الإلهية التي تجسّد الغطاء الشرعي لأي فاعلية سياسية من قِبل الفقيه العادل أو من قبل الأمة التي بايعته على الاستقامة والثبات على طريق الحق.[10]
وتحت عنوان: (الخلافة العامة في القرآن الكريم) يدرج الشهيد الصدر الآيات الآتية في كتابه سالف الذكر، وهي تشكّل أركان نظرته العظيمة للدور القرآني والإسلامي في قيادة الحياة:
<وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قٰالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قٰالَ إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ * وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ * قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ>.[11] <إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ>.[12] <هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فيالأَرْضِ>.[13] <يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فيالأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ>.[14] <إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً>.[15]
وتحت عنوان: (الشهادة في القرآن الكريم) يدرج الصدر الآيات الآتية:
<فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً>.[16] <وَكَذَلِك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً>.[17] <وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ>.[18] <وَيَوْمَ نَبْعَثُ فيكُلِّ أُمَّة شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئنَا بِك شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ>.[19] <هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفيهَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ>.[20] <إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْك الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ>.[21] <إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ>.[22] <وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِي بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لايُظْلَمُونَ>.[23]
هذه الآيات مجتمعة تؤكد من وجهة نظر الشهيد مفهومي الخلافة والشهادة وتؤسسان السياسية الإسلامية الصحيحة المرجوة.
المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان: الإمام.. والطاغية؛ جدلية الصراع بين الحق والباطل في سيرة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر وسيرة العراق- للدكتور رفعت سيد احمد ؛ كاتب وباحث مصري، مدير مركز (يافا) للدراسات والأبحاث بالقاهرة، نشر له 27 مؤلفاً في قضايا الإسلام والصراع الإسلامي الصهيوني حول فلسطين.
مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر