الاجتهاد: السؤال: ما هي مكانة الإمام الباقر (عليه السلام) العلمية؟ الجواب: سخّر الإمام الخامس(عليه السلام) حياته طوال فترة امامته، رغم الأجواء الخانقة، لنشر واشاعة الحقائق والمعارف الإلهية، والإجابة على المشاكل العلمية، وأرسى دعائم نهضة علمية واسعة والتي هيأت المناخ المناسب والأرضية الصلبة لتأسيس(الجامعة الإسلامية الرائدة) التي وصلت إلى أوج عظمتها وعطائها في فترة امامة ولده الإمام الصادق(عليه السلام).
وقد روى جابر بن عبد الله، وهو من أصحاب نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) الأجلاء، ومنقطعاً إلى أهل بيت النبوة أنه قال: قال لي رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله): (إنك ستدرك رجلاً منّي اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً). وقد تنبأ النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بهذا الموضوع في حين لم يولد الإمام الباقر(عليه السلام) بعد.
مضت سنوات عديدة على هذا الموضوع، إلى أن كانت فترة إمامة الإمام الرابع(عليه السلام). فبينما جابرٌ يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مرّ بطريق، في ذاك الطريق كتّابٌ فيه محمد بن علي، فلمّا نظر إليه قال:
يا غلام، ما اسمك؟
قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين، فجعل يقبل رأسه، ويقول: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقرأك السلام.
وكان جابر بعد هذا الحادث يلتقي الإمام(عليه السلام) مرتين في اليوم الواحد تكريماً للنبي(صلى الله عليه وآله)، وتعظيماً لمكانة الإمام(عليه السلام). وكان جابر يجلس في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله) وينقل تنبأ النبي(صلى الله عليه وآله) ويردّ على بعض المغرضين الذين كانوا يعيبون حبّه وولائه لأهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله).
وكان الإمام الخامس أثرى رجال العلم والزهد والرفعة والفضيلة بين كبار بني هاشم، وأجمع الأصدقاء والأعداء على مقامه العلمي والأخلاقي الرفيعين. وقد ترك لنا من الروايات والأحاديث في مجالات المسائل والأحكام الإسلامية، والتفسير، والتاريخ الإسلامي، وأنواع العلوم، ما لم يتركه لنا إلى تلك الحقبة التاريخية أحد من أبناء الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)(1).
وقد أخذ من نمير علومه كبار العلماء أنذاك، وانتهل من معارفه أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
وقد أخذ من علومه، وروى عنه من دون واسطة أو بعدة واسطات كلاً من: (جابر بن يزيد الجعفي) و(كيسان السجستاني وهو من التابعين)، وفقهاء من أمثال: (ابن مبارك) و(الزهري) و(الأوزاعي)، و(أبو حنيفة)، و(مالك)، و(الشافعي)، و(زياد بن منذر النهدي).
وتزخر كتب ومؤلفات علماء ومؤرخي أهل التسنن بأقوال الإمام الخامس وجملة(قال محمد بن علي) أو (قال محمد الباقر) شاخصة في جميع كتبهم، منها مؤلفات الطبري والبلاذري والسلامي والخطيب البغدادي وأبو نعيم الأصفهاني وكتب من قبيل موطأ مالك وسنن أبي داود، ومسند أبي حنيفة، ومسند المروزي، وتفسير النقاش، وتفسير الزمخشري وعشرات الكتب الأخرى التي هم من أمهات كتب أهل السنة(2).
والكتب الشيعية هي الأخرى ثرية بأقوال وأحاديث الإمام الباقر(عليه السلام) على مختلف المجالات، ويذعن بذلك من له معرفة بسيطة بهذه الكتب. وقد ملئ صيت علوم ومعارف الإمام الباقر(عليه السلام) الأقطار الإسلامية حتى لقب بـ (باقر العلوم).
كتب (ابن حجر الهيتمي) في حق الإمام(عليه السلام):
اظهر من مخبئات كنوز المعارف وحقايق الاحكام والحكم واللطائف مالا يخفى الا على منطمس البصيره او فاسد الطويه والسريره ومن ثم قيل وفيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه وارفعه(3).
ويقول عبد الله بن عطا وهو من الشخصيات البارزة وكبار علماء عصر الإمام:
ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه(4) .
وكان الإمام الباقر(عليه السلام) يستند في معظم حديثه على آيات القرآن المجيد ويستشهد بكلام الله ويقول: (إذا حدثتكم بشيء فاسألوني أين هو من كتاب الله تعالى(5).
وقد تخرّج على يديه الشريفتين وتتلمذ في صرحه العلمي كوكبة من العلماء وعيون الفقهاء في مجالات الفقه والحديث والتفسير والعلوم الإسلامية الأخرى حيث يعدّ كلّ منهم قطباً علمياً كبيراً ومن هذه الشخصيات الكبيرة: محمد بن مسلم، زراره بن اعين، ابو بصير، بريد بن معاوية العجلي، جابر بن يزيد، حمران بن اعين، وهشام بن سالم.
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: ما أحَدٌ أحيَا ذكرنا وأحاديث أبي(عليه السلام) إلاَّ زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمَّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحدٌ يستنبط هذا، هؤلاء حُفَّاظ الدين، وأمَنَاء أبي(عليه السلام) على حَلالِ الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة(6).
تلامذة مدرسة الإمام الباقر(عليه السلام) كانوا خيرة الفقهاء والمحدثين في عصرهم وتفوقوا في ساحة السباق العلمي على الفقهاء والقضاة غير الشيعة(7).
(1). الشيخ المفيد، الارشاد، قم، منشورات مكتبة بصيرتي، ص 261.
(2). ابن شهر آشوب، مناقب آل ابي طالب، قم، موسسة منشورات علامه، ج 4، ص 195.
(3). الصواعق المحرقة، الطبعة الثانية، القاهرة، مكتبة القاهرة، ص 201.
(4). سبط ابن الجوزى، تذكرة الخواص، النجف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1383 ه”.ق، ص 337 – علي بن عيسى الاربلي، كشف الغمة، تبريز، مكتبة بني هاشم، 1381 ه”.ق، ج 2، ص 329 – فضل بن الحسن البداية والنهاية، الطبعة الثانية، بيروت، مكتبة المعارف، 1977 م، ج 9، ص .311 وفي بعض النسخ ذكر«حكم بن عيينة» ولكن الصحيح هو «عتيبة». ر.ك به: كاظم مدير شانه چى، علم الحديث ودرايه الحديث، چاپ سوم، قم، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، 1362 ه”.ش، ص 67.
(5). الطبرسي، الاحتجاج، النجف، المطبعة المرتضوية، 1350 ه”.ق، ص 176.
(6). الشيخ طوسى، اختيار معرفة الرجال (المشهور برجال الكشي)، التصحيح والتعليق: حسن المصطفوي، مشهد، جامعة مشهد، ص 136 و137 (رقم الحديث 219)
(7). التجميع من كتاب: سيرة الأئمة، مهدي بیشوائي، ص 310