متكلمو الإمامية: السيد الخرسان مثالاً / فضيلة الشيخ عبد الجليل البن سعد

الاجتهاد: لم يكن لعلم الكلام سابقة قبل الإسلام فقد ولد في ظل ظروف تمثل ردات فعل طبيعية أو سياسية تحدث عنها المحقق الكبير والفقيد الجليل السيد محمد مهدي الخرسان ضمن أطروحته الفريدة في مقدمة تراث الشيخ ابن ادريس الحلي، والتي تتماهى مع الاطاريح الاكاديمية نهجا وأسلوبا.

ومنذ نشأ هذا العلم لم يشهد تجزءا أو تصنيفا خارج الأطر المذهبية فيقال علم الكلام على الطريقة الاشعرية او المعتزلية او الامامية مثلا، الا انه ومع مرور الزمن قد تأثر بعوامل تعرية التقدم من جهة فتخلت الكتب الكلامية عن مباحث الالهيات بالمعنى الأعم لصالح تقدم علوم الطبيعة التي تختص بمعالجة كثير منها، وفي الضمن ظهرت محاولة لاخراج بعض مسائله وتجنيسها فوق أرض كلامية جديدة تحت مسمى علم الكلام المعاصر، ومن جهة أخرى صرنا نرى تجزءا او ما يسمى بالتخصص في بعض أبوابه بصورة عامة، و في باب الامامة بالذات.

وفي المائة والخمسين سنة الأخيرة انجبت حاضرة النجف العلمية متكلمين متخصصين في الإمامة. منهم السيد اللكهنوي في موسوعته المذهلة “عبقات الانوار”.

ويليه السيد محمد حسن القزويني وكتابه “الامامة الكبرى والخلافة العظمى” قضى في تأليفه نصف قرن! ثم الشيخ الاميني في موسوعته الخالدة “الغدير “. .وكذلك الشيخ بن صفر الهمداني صاحب كتاب “سند الخصام” .

وخاتمتهم العلامة السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان الذي فاجأنا نبأ ارتحاله عن هذه الدنيا، وقد كان محلا لشهادة كبار الاعلام كالسيد الخوئي؛ الذي خصه بمهمة شرح منظومته العلوية وكان هذا قبل ما يزيد على الثلاثة عقود وقد ترك فوق رفوف المكتبة الإسلامية سلسلة ثرية أشادت أكثر مما أعادت، ولها حق الاكتشاف في كثير من مواطن الجدل بين المذاهب الإسلامية سواء في الإمامة أو التراث الحديثي والإسلامي عموما.

وبحد علمي وفهمي فإن تركة هذا المحقق الجهبذ تهم كل من يشتغل على التراث التاريخي والعقائدي الذي يرجع إليه المسلمون، وكل من يتطلع إلى قراءة حديثة ومثيرة في هذا الصدد .

الاجتهاد في مدرسة الامامية:

هذا العنوان هو أحد أهم فصول التاريخ الإمامي وقد مر بأطوار تشكلت حولها انطباعات قديمة، كالانطباع عن عصر ما بعد الشيخ الطوسي بأنه عصر المقلدة، ولكن دون أن يبذل حول هذه المسألة أي جهد من قبل أحد من المحققين إنما هي شذرات وتصورات تذكر في كتاب رجالي هنا أو فقهي هناك وغالبا ما تكون بمناسبة مرور ذكر الفقيه ابن ادريس الحلي .

ولعلّي لم اقف على من بسط البحث في هذه الانعطافة التاريخية سوى محققنا الكبير السيد الخرسان في مقدمته الضافية لموسوعة ابن ادريس الحلي نفسه، وهي الدراسة التي تزلجت عيناي فوق سطورها حتى أتيت على آخرها في العام ١٤٣٩هـ، ولم يكرمني هذا الكتاب بالمعلومات والتدقيقات فقط، بل إنه استطاع أن يعاديني بعدوى البحث وحب النظر والتأمل؛ وذلك لأنه قلمٌ يثير استفهامك بقدر ما يثير إعجابك، وهذه في تصوري وحسباني ميزة فريدة ترسم علامات كثيرة حول الكاتب؛ لأنها تدلل على انه ممن يكتب كما يفكر و يعبر بما يرى، ومن كان كذلك من الكتّاب لابد ان يترك مساحة لقارئيه ومتابعيه يجدون معها الفرصة لتقديم تجربتهم في المداخلة والتعليق.

ولعلّه لم يُسبق في انصاف الشيخ ابن ادريس والاشادة بتحقيقاته وريادته لمرحلة من مراحل الاجتهاد الفقهي بالشكل الذي طالعنا به، ولا غرو فقد توصل الى ذلك بعد سبر للاقوال والكلمات حول شخصية ابن ادريس وهو الخبير بخلفية المتكلمين يعلل لابي داوود في رجاله ومنتجب الدين في فهرسته والعلامة في مختلفه ماذا قالوا في ابن ادريس ولماذا قالوا.. فيطالعك بالأسرار والأفكار التي ليس من وسع كل قارئ ان ينتهي إليها بفكره.

ولكنه بالرغم من هذا كله لا يأتيك بعبارات غامضة ولا باصطلاحات يهدف من ورائها إلى إرعاب القارئ ليتصور القارئ المسكين انه أمام محقق ليس له إلا التسليم بمخرجاته. .

بل إنني احتفظت ومن أول قراءة لنصه بمجموعة استفسارات عشت الأمل في أن اجتمع به وأفيد من مناقشتي له حولها، ولكن ها قد أتى أمر الله الذي لا بد منه.

وان كان لا يرضي القارئ الا المثال فاني اشير هنا وبومضة سريعة الى ما جمعه بين الصفحة( ٨٩ – ٩٧) من كلمات ابن ادريس والتي ستصبح فيما بعد مستمسكا يأخذه على الشيخ الحلي ليدينه بتحامله على الشيخ ابي جعفر الطوسي، فمن ناحيتي كنت أعيش الشعور بالغرابة مع ما ساقه من شواهد، ولما لا وقد رأيت ابن ادريس يتحدث في جميعها معتذرا للشيخ ابي جعفر الطوسي أوضح منه متحاملا، بل استطيع القول بأن العذر لديه كان واضحا، وما حق تعقيبه – المتكرر باللفظ والمعنى- على كل خبر ينقله عن الشيخ في نهايته: “وهذا ما أورده شيخنا أبو جعفر إيرادا لا اعتقادا” الا ان يُحمل على تأكيد الاعتذار لا على التحامل!

والقارئ يهمه ان يعرف كيف يجمع بين تأويل عبارة ابن ادريس بالتحامل حسب ما يتناقله بعض الأعلام المتعقبين له، وببن ما يُفهم منه من الاعتذار الصريح ؟!

وعلى صعيد مقارب فقد فهم الأستاذ الخرسان التعريض بالشيخ الطوسي من تكرار ابن ادريس لقوله ” ان العمل بخبر الاحاد علىخلاف مذهب اهل البيت “عليهم السلام”، في الوقت الذي هو –السيد الخرسان – قد نقل عن ابن ادريس: أن الشيخ أبا جعفر الطوسي قد قدّم اقتراحا في كتابه عدة الأصول للعمل بخبر الواحد، وهكذا يتأتى لنا فهم وقراءة أخرى فيمكننا ان نقول بان وصف الاقتراح من قبل ابن ادريس يذهب بنا الى معنى آخر وهو ان الشيخ الطوسي ليس عاملا بالخبر الواحد على الطريقة الشنيعة والمتهاوية في الضعف بحيث تكون خارجة عن مذهب أهل البيت عليهم السلام .

فلا هذا كان من الطوسي ولا هو مراد الحل ي إن شاء الله تعالى .

وعلى حد ذلك تأتي الموارد الأخرى التي تعقب فيها ابن ادريس الشيخ وأشار الى انه قد خلط او انه قدّم حجة غير متسقة مع المباني العامة، فليس بالضرورة أن نسلم لفهم من يصرفها إلى وجه التحامل او التجهيل للشيخ ،فان كان بدا ذلك للبعض ولعل السيد الخرسان منهم فان البعض الاخر يهوّن موضوع هذا الأسلوب ويرى انه ممارسة تبدو على جل الفقهاء بعضهم حيال بعض، فحتى من سبق منه المؤاخذة على ابن ادريس كالعلامة والشهيد الثاني نراهم يطعنون في اجماعات الشيخ بانها متناقضة ولم يستدعِ ذلك تسجيل أي موقف منهما فيما قالاه !

وحسبنا ان نتقبل التعدد في الفهم والذي له مناشئه فهذا ما يجعلنا نجل الناقد والمنقود معا، والا فحتى الموارد التي تحفظ عليها العلامة الحلي واعتبرها تسرعا من ابن ادريس في حق الشيخ الطوسي، لا يزال هناك فسحة في عبارته تعطي المجال واسعا لأن نُجلّه عن سوء الأدب مع الشيخ الطوسي، فهو رحمه الله له تقدير خارج المألوف لكتابي الخلاف والمبسوط، وعليه لا زال يحاول جاهدا في كل موضع ان يؤكد لمن جاء بعد عصر الطوسي على ضرورة ان يستوعبو ا غرض الشيخ نفسه من هذين الكتابين وانه قد ارسلهما في اتجاه غاية ما، غير الاتجاه الذي تسير نحو غايته كتبه الأخرى، وشاهد ذلك ما قاله في بعض الموارد :

“”وشيخنا أبو جعفر في جميع كتبه الإخبارية موافق على ذلك، ومسلم مع أصحابه، وانما يورد في هذا الكتاب يعني المبسوط مقالة المخالفين لانه كتاب فروع المخالفين”” . ( السرائر الحاوية. ٣ / ٤١٧ )

وفي موضع آخر اصرح واشمل يقول:””وما يذهب اليه في مبسوطه ومسائل خلافه معظمه فروع المخالفين”” (السرائر الحاوية . ١ / ٤٢٦ )

وغير هذا من الكلمات ولا يضرنا تحول هذا الرأي والتقدير في حق الكتابين الى منشأ نزاع لاحقا بين العلامة وبين ابن ادريس، فقد قال الأخير في مختلفه:”” ونحن نطالبه بوجه ماقاله”. (مختلف الشيعة. ٣ . ٦٠٠ )

واخر باب فتحه هذا السيد الموفق في مقدمته البديعة هذه هو تعقبه لالصاق تهمة التشفع والشافعية بالشيخ الطوسي فقد عرض لها ببعض وجوه التأمل و إخاله لو كان يعلم الغيب بما سيقوله المتحاملون الجدد على شيخ الطائفة اليوم لاستكثر من الخير الاستدلالي ولبسط البحث حول هذه النقطة لحسم مادة الشبهة.

صبر الباحث أمان للحقائق:

لا يخترق الباحث موضع السهى من سماء البحث إلا بالصبر الطويل الذي يمكنه من الاستقراء المضني، بل بالصبر يصبح الباحث في منجى من الوقوع في مشكلة استعجال النتائج والاطمئنان لتصوراته الأولية ،وهي الافة التي أراها قد احاقت بكثير من الناقدين للتراث في هذا  العصر، فأنا لم يصادفني في حياتي بين الكتب والأساتذة المحققين سوى القليل منهم الذين استطيع تمجيدهم بصفة الروية وعدم الاطمئنان للاشكال الا بعد قتلها بحثا وتقليبا بين الوجوه، و طبعا جل ما قرأته لهذا السيد المعظم يشهد شهادة حسية أو قريبة من الحس بأن دون نَفَسِه تنقطع الأنفاس!!

بل قد استلهمت منه ومن السيد اللكهنوي على وجه الخصوص ان اكثر استبعادات المحققين تأتي نتيجة مخجلة لقصر باعهم وقلة صبرهم على الفكرة التي يبدون الرأي فيها، فكم امر اجمع كتّاب يعزز لهم كتّاب آخرون على انه ضعيف وانه لم يصلنا عنه سوى بضع روايات او شيء من الطرق التي لا تتجاوز الآحاد، وقد سمعت مثل هذا القو وقرأته عن بعضهم وهو يتحدث عن المحسن السقط مثلا، بينما استطاع هذا السيد بطول صبره وعميق غوصه ان يخرج لنا عشرات المصادر عدا عن مراكمة القرائن الأخرى في اثبات هذا المخلوق الشريف الذي مضى في ظروف صعبة ومعروفة!

وهو الأسلوب نفسه الذي يكسح بها استبعادات كشف الدار الشريف في قراءة صيادة للقرائن الواضحة التي يستجيب لها العقل بالتصديق، فقد لاحظت ذلك ويمكنك ان تلاحظه أيضا بين الصفحة ١٧٣ -١٧٥ .

بين التاريخ والمعارف الأخرى :

لقد تداولت المدارس العلمية ومنذ القدم لقب العلامة و لا اظنه م يشيرون بذلك إلى كثرة العلم بوصف الكثرة فقط، وان كان هذا ففي حدود المعطى اللغوي للكلمة، وأما بحسب المعنى القصدي والاصطلاحي فهي تدل على معنى لوازمي وهو ان الفقيه العلامة أعرف وأخبر بتأييد مطالب الشريعة بما يستخرجه من العلوم والمعارف الأخرى فالفقه وان كان لا يحتاج إلى أزيد من الدليل المنصوص عليه في دراسات الحجج من علم الأصول، ولكن لا شك أن العلامة يستطيع ان يثري المسألة بما يحيط به من علوم العرفان والتفسير والكلام والفلسفة واللغة.

بل اني ادعي ان التاريخ أيضا هو من بين المعارف التي لا يستطيع فتح قناتها على الفقه إلا الأوحدي من الفقهاء!!

فالتاريخ ولو بشكل جزئى يمثل المحك لبعض المفاهيم الفقهية يجعلها تخرج من غطائها العقلي الذي لا يكاد تتضح له ملامح!

وفيما قدمه هذا العيلم ضمن كتبه وعلى الأخص كتاب المحسن السبط، يمكننا فهم واقع الناصبي وطبيعة النصب فهماً تاريخيا يزيل الكثير من التشويش المفاهيمي الذي أصاب العقل الفقهي في تشخيص موضوع هذه التسمية!!

وللقارئ العزيز ان يلتقط الكثير من الصور من صفحة ( ١٤١ – ٤٥٦ .)

وي كأني أقرأه لأول مرة:

هذه من الكلمات التي ربما تنسل عن لساني ولسانك في وضع لا إرادي حينما يتناول أحد العباقرة حكاية أو نصا عزيز ا بعزة النسبة الى الله أو الى رسوله، وقد قتله الناس بحديث مكرر لم يزده التكرار الا تشابها فيما يأتي ذلك المحقق العبقري الألمعي من ور ائهم ليقدمها لك على طبق من فهم فيكون هو الأشهى والألذ على عقلك وتفكيرك.

وأنا زعيم بأن هذه هي الصبغة العامة لمحققنا القدير في كتابه “علي إمام البررة” الذي يقع في ثلاثة مجلدات.

وما حان الوقت ولا يحين في مقال قصير كهذا لندلك على العديد من مواضع ذلك في هذا الكتاب الذي يستحق ان ينعت بالجديد في علم الإمامة.

ولكني آخذ بيدك إلى زاوية منه قد ارسل أضواءه فيها فاذا به يجلي عن تقنية في البحث العقدي الإسلامي وهي المقارنة بين تراثي الإمامية وغيرهم، وكيف تتحول المقارنة إلى دولاب يدور ليستخرج لك من بئر النوايا و الطوايا ما هو عجيب!

فبعد وقوفه على غزوة ذات السلاسل رأى بأن تاريخها مطوقا بسلاسل غلاظ، من الصعب ان تخرج منها أحدا تم ذكر ه فيها أو تضيف من لم يذكر تعمدا كعلي عليه السلام. .

ولكنه في مقارنة من أدق المقارنات استطاع ان يجلّي عن اليد العابثة التي ارادت ان توظف العصبية في تجريد لباس العز عن هذا وخلعه على من ليس له؟ !

فسيجعلك في ذهول وانت تتابع معه فلمه التحفيزي والخارق الذي يوضح لك انه قد امسك بخيط التحقيق بعد الانتقال إلى تفاسير سورة العاديات، حيث كانت تخبطات العبث فيها أوضح وأصفى، وهي تنطق بالحقيقة من حيث أصابت المؤرخين لعنة المفسرين!!! ( انظر:علي إمام البررة: ٣ / ١٧٤ )

المسبار المتابع لتحركات التحريف :

وأشير في الضمن إلى ان سيدنا المحقق وان لم يكن الأول ممن تتبع وتمرس في اكتشاف التحريفات في متون الروايات ونُسَخِ الكتب، ولكنك ستقف أمام عَلَم ف ذ يضيف إليك من الشواهد ما لم يسبقه إليه غيره، وفي هذا الامر يمكننا ان نعود من جديد الى كتاب “المحسن السبط “بين الصفحات التالية: ( ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٥ ، ١٦٨ ، ١٧٣ ، ١٧٥ )
فهناك تراه يقدم الحديث المسهب حول التحريف مع التبيين لدوافعه والتي منها خوف الشنعة .

هوية الباحث:
اذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه فإن الكاتب قد يقرأ من كتابه، الا ان يطرأ على العنوان او الكتاب غموض بحساب أو دون حساب من كاتبه، وان عموم كتب سيدنا المبجل تحكي صورة واحدة وان اختلفت في النصاعة والزاوية والهيئة، ولعلّي لا أجانب الصواب إذا رأيت في كتابه “نافذة على التاريخ في ربع قرن” الكتاب الذي يعرض ملامحه الفكرية من جنبات وزوايا مختلفة، تكون هي الأفضل لتقييمه والوقوف على الخطوط الدقيقة لمنهجه من وراء تلك الخطوط العريضة التي ارتسمت لنا من خلال مؤلفاته المتقدمة.

أ) المطالعة الحرة:
لا يتوارى في هذا الكتاب اسم احد ممن قرأ له السيد الخرسان سواء كان مستشرقا ام عربيا مسلما ام غيره، فانه وبالمتابعة لذوي الاذواق والمشارب المختلفة ينبئ قراءه بسر من أسرار تشكل النظرية المختلفة والدقيقة، فمن يجمع الرأي إلى الرأي هو الذي يستطيع بالعادة ان يتجاوزهما إلى رأي ثالث أو يقف خلف احدهما بقوة ثالثة وان لم يختلف الرأي! !

فسيدنا المبجل كيثرا ما يغرف في هذا الكتاب بل وفيما سبقه من نتاج عن اعلام الفكر العربي والإسلامي وغيره وممن درج على الاستشهاد بهم في الأجزاء الستة من نافذته التاريخية هم العقاد وطه حسين وحسن فرحان المالكي ومحمد الخالدي والعديد من الكتّاب والدارسين .

وربما استهواه سؤال وجواب فينقلهما ثم يكتفي بهما كما صنع فيما نقل عن خالد محمد خالد (وهو من أكثر الكتاب المصريين إثارة في وقته)، فقد نقل عنه سؤالا افتراضيا: هل الحسين ذهب ضحية خدعة؟ ثم وضع جوابه الطويل بنصه وفصه مرتضيا له.

ب) ارسال الأراء غير المألوفة:

يزخر هذا الربع من القرن الإسلامي الأول بالكثير من القضايا وان بدا أنها تبحث وتثار باستمرار، ولكن لا تزال أوراقها الصفراء متناثرة تحت طاولة التحقيق، ويرى المحقق الخرسان انه معني بجمعها وتنسيقها من جديد، على علم منه بأن تلك الوظيفة قد تزيف أمرا مسلّما أو تدعم ما هو مشكك فيه او تأتي بجديد لم يخترق سمع أحد من قبل .

فقد عاد يتصفح كتب التاريخ التي أحاطت بساحة كربلاء وسبر الاقوال حول انصار الحسين عليه السلام واعدائه وعددهم فرأى ان الخلاف واسع، فعالجه لينتهي إلى ان انصار الحسين ١٤٥ بين فارس وراجل، وان أعداء الحسين في ٥٠٠٠ على أقل تقدير، وفي ٣٠٠٠٠ في تقدير خاص لم يخفِ سيدنا ميله إليه. (نافذة على التاريخ . ٦ . ١٧١ – ١٧٥)

هذا شيء مما جاء به في المحطة الحسينية ولم يكن نصيب الحسن عليه السلام بأقل، فقد استوعب منه البحث في قضاياه التاريخية العالقة قرابة المجلدين من هذه الموسوعة.

ومن المؤكد ان يقف أسوة بغيره عند رواية (المزواج المطلاق)، وقدّم مادته التي تكشف عن ان هذه الصفة هي من صفة المغيرة بن شعبة في زمن الحسن الزكي عليه السلام بل ومن صفة غيره من الأمويين أو أعوانهم، وعليه فلابد من الجري وراء الاثار ان كانت ستكشف لنا انها لعبة لالقاء ذنب غيره عليه وتدنيس طهارته بأدران غيره.

وقبل ان نتحدث عن الغريب في هذه المعالجة الخاصة علينا ان نحيل القارئ الى مقدمة الكتاب فقد مهد فيها لغرائب النتائج التحقيقية التي ينوي بثها ونشرها بين صفحاته.

واذا ما عدنا الى تلك القضية الحسنية فاننا يجب ان نستحضر المنهج العام لرواتنا فانهم يخرّجون الاحاديث على أسس ومرتكزات متباينة فيما بينهم بل ذلك هو الحال مع سائر المحدثين المسلمين حتى من كان من غير الشيعة أيضا، فطريقة وخطة ابن ماجة تختلف عنها لدى النسائي ومسلم النيسابوري، وكذا البخاري أيضا. .

بل ربما لا ي نضبط التحديث بطريقة واحدة عند المحدث الواحد فالشيخ الطوسي مثلا يجعل اول حديث من كل عنوان ما يعتمده ويفتي به، هذا ما يُعلم من حاله في كتاب الاستبصار خاصة ولا ينطبق على كتابه التهذيب! !

وتكاثر الاحتمالات والتوجيهات حول خطة الكليني وكتابه الكافي خلق حجابا دون نقده، وهذا ما نعترف به، لكنه يختلف عن حجاب التقديس بطبيعة الحال وفي ميزان المقال أيضا؛ فالمظنون ان ما ذكره في ترجمة الائمة غير مشمول للضوابط التي ذكرها في مقدمته لانها مخصصة بكل مصطلحاتها في الفتوى ما يعني ان نظره في تلك المقدمة الى باب الاحكام.

فلا مانع لديه ان يروي الحديث انسياقا وراء طرقه؛ لان اخذ الرواية من طرقها نوع تحمل يدفع بالمتحمل الى التأدية والمناولة، وليس بالضرورة يعني قبوله وتدينه بكل ما ينقله لا في باب الاحكام ولا ما عداها .

فكان هذا هو النهج العام الذي جعل العلماء لا يزايدون في شأن كتاب الكافي لاسيما الأصول منه، ولا يهتمون بنقده اهتمامهم بنقد المتكلمين .

الا ان عالمنا الفاضل قاده عدم ارتياحه من هذه اللصيقة التي الصقت ولا زالت عالقة بثوب الامام الحسن عليه السلام قاده الى توجيه اللوم الى الشيخ الكليني وشدد في الامتعاظ من الكافي! (نافذة على التاريخ في ربع قرن. ٣ . ٣٠٣ – ٣١٠ )

وذمة البحث وراء أي محدث او كتاب حديثي تقتضي نقد الموازين الدرائية التي خُرّجت عليها و هذا حق مكفول لمن يستطيع، ولكنه لا يبرر الموقف الشخصي من أي متحدث بعينه إلا في حدود منهجيته، إلا أن محققنا الجليل لم يكتف بتجاوز ذلك فحسب، بل انه نسي ما كان قدمه من تعليل وراء ابي داود في رجاله وانه قد يصنف الثقة في الضعاف مرة وفي الثقات أخرى ليس تخليطا بل لانه مجبور على نقل الغميزة المروية في الثقة وان كان لا يبني عليها، فكيف انغلق باب التعليل لأئمة المحدثين هنا؟ !

على ان هذه القاعدة من الوضوح بمكان حتى ان الكشي أيضا روى مثل هذه الروايات في حق الحسن عليه السلام و روى ما ظاهره الذم في حق اعيان الثقات، بل ان كاتبنا الكبير صارح بتعجبه من ابن ادريس حينما بنى على ذم يونس بن عبد الرحمن لوجود بعض الروايات الظاهرة في الذم ولم يسكت له، بل ادانه بعدم معرفته بطريقة الكشي في انه يخرج كل غميزة للشهادة على ما يروى لا الاستشهاد به.

فما عدا مما بدا ؟ ؟

كما ان مما ي ؤخذ على دراسة الأماثل عدم وقوفه على بعض التوجيهات النقدية الأخرى بالقبول أو الرفض، والتي تجنح للقول بصحة اصل وقائع الزواج و الفراق بناء على خصوصيات زمانية و مكانية يأتي ما جرى من فلان و فلان شاهدا عليها، مع عدم الشك في وقوع الزيادات والتهويلات المريبة، علما بأن استكثار او استغراب الزواج والطلاق في حياة عامة أبناء ذلك الزمان وقبل التفتيش عنه داخل ذاكرة التاريخ لن يقيّم إلا بكونه نزعة اسقاطية، وهي التي اسميها با لطرفة التاريخية،أي عطف زمن على زمن يفصل بينهما مئات الأعوام.

وقد كانت لي تجربة مشابهة مع المنطق السلفي و قد خرجت بنتائج مدهشة بعد ان عزلت القضايا عن الفضاء الاسقاطي وعدت بها إلى أصلها التاريخي. و أهيب بالجميع أن لا يلتبس عليهم الموقف فليس الاكثار من الوجوه و التوجيهات مواجهة لما أبداه سيدنا المعلّم و لا غيرة منا على الكليني او من سواه، فالامر لا يتجاوز الت نبه إلى ان بعض الانتقادات تعكس ضيقا لا يتناسب مع فسحة الموضوع!

وفي نهاية الجولة:
نبدي ظننا الحسن بأساتذة الحوزة اليوم في ان يبادروا للعناية بهذه المشاريع عناية نقدية فالسيد الخرسان وغيره من أصحاب الكعب العالي في البحث والتحقيق يجب ان يخلّدوا بعقد مؤتمرات تُصب فيها أبحاث ومقالات محكمَّة حول تراثهم، لتمسك بقياد المسائل التي تنوء بهذه المقالة القصيرة، ولتثري كل عنوان وأثر مبارك من أثارهم مراجعة و شرحا واعتذارا ونقدا بما هو حق لاحق لهذه الجهود.

لا سيما مع موسعته الضخمة و الباذخة حول ابن عباس والتي لم يتسنى لي مطالعتها بعد، انمانتفاءل بها استيناسا بما وقفنا عليه من يراعه و اعتمادا على اهتمام بعض الجهات بها من أهل التحري الذين لا يظن يهم التساهل .

القريحة الأدبية :
ان الأفكار مهما كانت موغلة في العلمية والتخصص فانها لا تحتاج لتصل الى العقول اكثر من طريق معبد بالحبكة الأدبية والأساليب البلاغية والنغمات اللغوية فانها حادي الاذهان الذي يطربها وتسلس له القياد فتعزم على قطع طريق القراءة والتعلم مهما كان طويلا.

وهنا لابد ان يلفت القارئ لمتكلمي الامامة في عصرنا ان كتاباتهم تحف أدبية ومنفلوطية عقائدية مما جعل هواة الادب يشتركون مع طلاب العقيدة في قراءة مثل المراجعات لشرف الدين والغدير للأميني واخالهم لن يتوانوا عن طلب الاستراحة في المجاني الأدبية للسيد الخرسان لانها تنطوي على نفس ادبي سهل ممتنع .

وكتب : عبد الجليل البن سعد
الاحساء – ٢ / ٣ / ١٤٤٥ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky