أرفض أن نقول بأنّ على الفقه أن يتكيّف مع الحياة العصريّة، فهذا الكلام على إطلاقه ـ لاسيما بالطريقة التي بات يفهمها أو يمارسها بعضهم ـ غير مقبول وليس بصحيح، وهو بالتأكيد سوف يفرّغ الشريعة من مضمونها وأصالتها بمرور الوقت.
الاجتهاد: للفقه أصول ثابتة وعالميّة لا تخضع لتغيّرات الزمان وتحوّلات المجتمع، هل يمكن بهذا المنطق أن نواكب مسيرة التحوّل العالمي وسيول التغيّرات الكبيرة في الثقافة والظروف، لنصنع ـ مع هذا ـ مشروعاً نهوضيّاً تنمويّاً أم لا؟ وكيف؟
وعندي سؤال آخر وهو أنّ الفقه قد وضع اليوم أمام ضرورة البحث والتفكير في القضايا النهوضيّة والتنمويّة، فهل يتوقّع لو سار الفقه خاضعاً للتحوّلات العصريّة أن يصبح علمانيّاً أو بشريّاً أو ما شئت فعبّر؟
دعني أجيب عن هذين السؤالين دفعة واحدة. إنّني أرفض أن نقول بأنّ على الفقه أن يتكيّف مع الحياة العصريّة، فهذا الكلام على إطلاقه ـ لاسيما بالطريقة التي بات يفهمها أو يمارسها بعضهم ـ غير مقبول وليس بصحيح، وهو بالتأكيد سوف يفرّغ الشريعة من مضمونها وأصالتها بمرور الوقت.
لكن ما أريد أن أؤكّد عليه في قضيّة التكيّف مع العصر، هو أنّ هناك منهجاً اجتهاديّاً ما يزال غير مقبول تقريباً في المحافل العلميّة والحوزات الدينيّة ـ رغم أنّه يمارَس أحياناً ـ يمكنه لو تمّ اختياره أن يجعل حجم تصادمنا مع الحياة ومتغيّراتها أقلّ بكثير، ولا أقول بأنّنا نريد اختيار هذا المنهج الاجتهادي لأجل تخفيف تصادمنا مع الحياة المعاصرة، بل أقول بأنّ هذا المنهج يستحقّ في نفسه الدرس، ومن نتائجه تخفيف حدّة التوتر بين الدين والواقع بتحوّلاته السيّالة المتدفّقة، بحيث لا نضحّي بالفقه لأجل التكيّف مع الواقع.
هذا المنهج هو المنهج الذي يعيد قراءة النصوص الدينية ومصدرها من خلال فكرة جوهريّة تقول: إنّ ما يبدو لنا في النصوص ليس هو الأحكام الشرعيّة الإلهيّة بالضرورة ودائماً، بل قد يكون تطبيقات أو وسائل أو مُعينات لتلك الأحكام المستكنّة خلف هذه النصوص أو في بعضها فقط..
هذه الدعوى التي اُطلقها أعرف أنّها خطيرة جدّاً، وهناك من طرح أفكاراً قريبة منها أو مطابقة لها، وهذه الفكرة تفتح على الفهم التاريخي للنصوص من جهة، وعلى وعي عميق لدور النبيّ وأهل بيته وصحابته في بيان الأحكام الشرعيّة من جهة ثانية..
والموضوع طويل لكن يمكن أن نشير إلى بعض عناصره الرئيسة على الشكل التالي:
العنصر الأوّل: لو لاحظنا فتاوى الفقهاء المسلمين في رسائلهم العمليّة أو في كتب الاستفتاءات، فسوف نجد آلافاً من المسائل الفقهيّة، لكنّ الأحكام الشرعية أقلّ من عدد الفتاوى؛ لأنّ الفقيه في كثير من الأحيان لا يبيّن الحكم الشرعي الأصلي، بل يطبّق الحكم الشرعي على المورد الذي وجّه إليه السؤال فيه، فلو كان الحكم الشرعي هو وجوب إيقاع عقد النكاح شفويّاً بحضور الطرفين مثلاً، ثم سُئل الفقيه عن حكم العقد في التلفون فسوف يقول: لا يجوز العقد في التلفون ولا يقع النكاح، ثم لو سئل عن العقد عبر (السكايب مثلاً) لقال: لا يجزي العقد عبر السكايب، ولو سئل مرّة ثالثة: هل يجوز العقد عبر البث المباشر كما في التلفزيون فسوف يقول: لا يجزي هذا العقد ولا يصحّ، فهذه ثلاث فتاوى، لكنّ الحكم الأصلي في الواقع ليس سوى اشتراط المشافهة والحضور للطرفين حال العقد مثلاً.
وهكذا لو سُئل الفقيه عن السجود على قشر الليمون فسوف يقول مثلاً: يجوز، ولو سئل مرة ثانية عن السجود على الحشيش فسوف يقول: مثلاً: يجوز، فهاتان مسألتان واستفتاءان، لكنّ الحكم واحد وهو أنّ السجود على غير ما يُؤكل عادةً جائز
كلّ من يراقب ويتتبع كتب الاستفتاءات سيجد هذه الظاهرة بوضوح، ويعرف أنّ عشرة استفتاءات لا تمثل عشرة أحكام، بل هي تطبيقات من الفقيه لحكم شرعي واحد، ولا أقصد تطبيقات لقاعدة أصوليّة واحدة، فأرجو التنبّه.
حسناً، كم من المنطقي أن نفترض أنّ النبيَّ وأهل بيته قد حصل معهم الأمر نفسه، فأمروا وأجابوا عن مجموعة أشياء وليست سوى تطبيقات لحكم شرعي واحد انصبّ على عنوان قاموا هم بتفكيك هذا العنوان على موارده في عصرهم أو حسب السؤال الموجّه إليهم؟
سأعطي مثالاً افتراضيّاً مبسّطاً،
لنفرض أنّ الحكم الشرعي هو تنظيف الإنسان لجسده وأنّ الشريعة حثّت المؤمن على هذا الأمر، فهنا حكمٌ شرعي واحد هو رجحان النظافة في الجسم، ولكنّ أهل البيت عندما بيّنوا هذا الحكم من الطبيعي أن يجدوا أنّ هذا البيان العام لا يكفي لحثّ الناس على التطبيق، بل قاموا بالدخول أكثر إلى الواقع وملامسة ما يعيشه الناس؛ لدفعهم من حيث التطبيق إلى ممارسة هذا الحكم الشرعي، فقالوا لهم مثلاً: ارفعوا قميصكم عن الأرض فهو أطهر، واغتسلوا قبل المجيء يوم الجمعة إلى المسجد، وأزيلوا شعر العانة والإبطين كلّ فترة زمنيّة، وضعوا العطور للصلاة وعند الخروج، ومشطوا شعر الرأس واللحية، والمسواك جيّد، و.. إنّ كلّ هذه النصوص التي أوردت هذه الأمور ليست أحكاماً شرعيّة مستقلّة، بل هي تطبيقات لحكم شرعي واحد هو الموجود في الشريعة الإسلاميّة، وهو حُسن التطهّر والتنظّف والظهور بمظهر حسن في البيت والمجتمع.. طبعاً أنا لا أقول بأنّ هذا المثال صحيح، لكن أضربه بوصفه مثالاً لا أكثر.
إذا قبل شخص مبدأ أن يكون النبي وأهل بيته قد مارسوا هذه الطريقة، ورأى أنّ هذا الأمر ممكن نظريّاً، وسعى للتفتيش عن القرائن والشواهد هنا وهناك على أمرٍ من هذا النوع، فإنّ من شأن هذا الأمر أن يسمح بتكيّف الفقه مع أوضاعنا اليوم، فبدل العطور القديمة تصبح العطور الجديدة تطبيقاً آخر للحكم نفسه، وبدل الماء تصبح المواد الصناعية المنظِّفة وسيلةً لتطبيق الحكم نفسه، وهكذا، وهذا ما سوف يفصلنا عن الشكل التاريخي لتطبيق مفهوم النظافة، ويسمح للحكم الشرعي بأن يطبّق تبعاً لطبيعة الأعراف والظروف والإمكانات في كلّ عصر.
أليس من المعقول جداً أن يكون النبي واهل بيته قد مارسوا هذا الأمر؟
نعم، منهج المعرفة والتمييز هنا يحتاج لدراسة وقواعد حتى لا يكون الأمر اعتباطياً وجزافاً، فأنا أقرّر أصل الفكرة، أمّا كيفية تطبيقها فهذا يحتاج لقواعد، تماماً مثل أن نقول بأنّ الظهور حجّة أمّا كيف نستكشف الظهور وما هي قواعده العرفيّة، فهذا بحث آخر.
العنصر الثاني: إنّ القرآن الكريم قد تحدّث عن نفسه بأنّ فيه بيان كلّ شيء، والرسول الكريم قد قال للناس بأنّه ما من شيء يقرّبهم إلى الجنّة أو يبعدهم عن النار إلا قاله لهم، هذا يعني أنّ في الكتاب الكريم كلّ الدين أو فلنقل: أغلب الدين، لا أريد أن أخوض في هذه القضيّة، لأنّ علينا أن نعيد النظر في الفكرة التي تقول بأنّ القرآن لم يبيّن إلا الأساسيّات فيما السنّة هي التي بيّنت تفاصيل الدين والشرائع، يجب أن نفكّر جيداً في هذه القضيّة، وفي الدليل عليها، إذ الدليل العمدة عليها قد يكون هو ما نلاحظه من كثرة التفاصيل الأحكامية في السنّة مقابل قلّة البيانات الأحكاميّة في القرآن نسبيّاً، لكنّ القرآن نفسه يقول بأنّ فيه تبياناً لكلّ شيء، والمقدار المتيقّن من تبيانيّته هو تبيانه للأمور الدينية والبعد التوجيهي والإرشادي للبشر، فإذا كان الأمر كذلك، ولم نقبل بفكرة أنه تبيان لخصوص المعصوم لا مطلقاً، فلماذا لا نحتمل أنّ الكثير من تلك التفاصيل التي جاءت في السنّة قد تكون تطبيقات للأحكام الشرعية القرآنية، وليست أحكاماً جديدة، وقيمة النبيّ والإمام أنّه يشرح لنا القرآن ويمارس تطبيقه على موارده ومصاديق حكمه بطريقة معصومة، ويبيّن من خلال تجربته ويعلّمنا كيف نمارس نحن هذا التطبيق الأفضل للأحكام التي وردت في القرآن الكريم..
إنّني أدعو الحوزات العلميّة لإعادة النظر في المسلّمة المفتَرَضَة التي تقول بأنّ في القرآن الكريم بعض الأحكام القليلة التي لا تبلغ حدّ العشرة في المائة من الشريعة الإسلاميّة، وأجد أنّ القرآن احتوى أغلب الأحكام وليس جميعها.
بهذه الفكرة يمكن أيضاً أن نفهم الكثير من الأحاديث التي وردت عن النبي وأهل بيته عليهم السلام في سياق كونها تطبيقات للحكم القرآني، لا تأسيسات لأحكام شرعيّة جديدة بالضرورة. ولا أنفي وجود تأسيس في السنّة بل أقول: إنّ حجمه أقلّ بكثير ممّا افترضناه نحن في طريقتنا في الاجتهاد الشرعي. فمثلاً قد يقال بأنّ تحريم أكل الطّحال في الذبيحة ليس تأسيساً لحكم جديد، بل هو نفس تحريم الدم الذي جاء في القرآن؛ غاية الأمر أنّ أهل البيت طبقوا عنوان الدم عليه، وبيّنوا أنّ فيه نسبة عالية من الدم والكريات الحمراء مثلاً، وهذا التعليل موجود في كلماتهم فليراجع.
العنصر الثالث: مسألة التفويض التشريعي لأهل البيت عليهم السلام، فقد تعرّضّتُ في كتابي (حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم) لمسألة جامعيّة القرآن التي تحدّثنا عنها قبل قليل، كما تعرّضتُ لمسألة التفويض التشريعي لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ومن خلال دراسة مجمل النصوص والروايات في هذا الموضوع توصّلتُ إلى ما ذهب إليه العديد من الفقهاء والأصوليين من أنّ أهل البيت عليهم السلام لا يؤسّسون أحكاماً ذات طابع إلهيّ دائمي، بل إذا أسّسوا فإنّ أحكامهم ولائيّة، ودورهم المقدّس هو بيان وشرح وتفسير الكتاب والسنّة وتطبيقهما على الواقع المعاصر لهم، إضافة إلى ولايتهم على النفوس والأرواح والأموال.
فعندما نفهم سنّة أهل البيت في هذا الإطار فقد تحدث تحوّلات في فهمنا تصبّ في صالح عمليّة التكيّف مع الواقع التي تحدّثنا عنها، فقد توصلتُ هناك إلى قاعدة تقول ـ وأرجو أن نبحثها جميعاً ونتناولها بالنقد والإبرام ـ: إنّ الأئمة حيث كانوا لا يؤسّسون أحكاماً إلهيّة شرعيّة غير ما جاء في الكتاب والسنّة النبويّة، فكلّ حكم بيّنوه ورأينا أنّه لو كان صادراً في العصر النبويّ في الكتاب أو السنّة لَبَانَ وظَهَرَ، ومع ذلك لم يَبِنْ ولم يَظْهَر، فهذا يكشف عن كون هذا الحكم ولائيّاً، وقد مثلتُ لذلك بمسألة خمس أرباح المكاسب، فلو كان هذا الخمس موجوداً في العصر النبويّ وفهم المسلمون من القرآن أو من السنّة النبوية ذلك لظهر هذا الأمر وبان وكثرت الأسئلة حوله، ومع ذلك لا نجد في هذه القضيّة سوى روايتين أو ثلاث في بعض كتب التاريخ، فيها إشارة ما إلى الموضوع، هذا يعزّز أنّ ظهور مسألة خمس أرباح المكاسب في عصر الإمام الباقر ومن بعده كان من باب ولاية الأئمة على الأموال، فأرادوا أن يحقّقوا تضامناً وتكافلاً بين الشيعة ليعين بعضهم بعضاً حيث لم يكن يعطيهم السلطان شيئاً من حقوقهم بوصفهم مواطنين في الدولة..
أعرف أنّ هذا الموضوع فيه الكثير من التفاصيل، لكن هذا مجرّد مثال قد توافقون عليه وقد لا نوافق عليه، لكنّه يشرح لنا الأدوار التي يقوم بها أهل البيت بعد العصر النبوي، ومن ثم فيفتح أعيننا على أنّهم لم يكونوا في كلّ نصوصهم ليبيّنوا أحكاماً إلهيّة دائميّة، بل كان للأحكام الولائيّة والزمنيّة دور كبير أيضاً في الكثير من النصوص والمواقف التي صدرت منهم عليهم السلام.
هذا يعني أنّه بدل أن نبقى على صيغة الخمس في أرباح المكاسب، فسوف يكون الخمس حالة ثانوية ترتئيها الدولة الإسلاميّة أو الحاكم الشرعي بحيث تقبل التغيّر والتكيّف تبعاً لأوضاع الشيعة وحالاتهم ومصالحهم النوعيّة.
العنصر الرابع: كان الشاطبي قبل حوالي سبعمائة سنة يتحدّث عن تشريعات وسائل وتشريعات مقاصد، وهو الموضوع الذي طرح في الأوساط الحوزوية خلال العقد الأخير بمصطلحات أخرى، وأعتقد أنّ التمييز بين تشريعات الوسائل وتشريعات الأصل (ولا أريد أن أستخدم كلمة مقاصد؛ لأنّها قد لا تكون دقيقة)، مهم جداً، والأمثلة فيه كثيرة للغاية.
لكن دعوني أعطي مثالاً من مسألة اللعان وتأثيره في قضيّة النسب، فعندما ينفي الزوج الولد عنه يذهب الفقهاء إلى أنّ المرجع في حصول النفي هو اللعان، فلو حصل اللعان انتفى الولد، لكن لو أنّ الفقيه فهم من قضيّة اللعان في مجال نفي الولد (لا في مجال إثبات تهمة الزنا على الزوجة، حيث قد يقال بأنّ القرآن الكريم لم يرد فيه اللعان إلا من حيث حدّ الزنا لا من حيث نفي الولد)، أنّها مجرّد وسيلة للنفي حيث تنعدم الوسائل الأخرى، فالشرع حيث لا وسائل في تلك الأيّام عمد بعد فقدان البيّنات إلى استخدام الأسلوب النفسي عبر الحلف والأيمان، فعندما نصل إلى عصر كشف الشفرة الوراثية وإمكان الوصول إلى حدّ الاطمئنان بانتساب الولد لأبيه أو نفيه عنه عبر مثل فحوصات الـ DNA، فأيّ معنى لفقه اللعان حينئذٍ؟ وهل قضيّة اللعان تعبدّية ذات أسرار أم أنّها طريق لإثبات الولد أو نفيه حيث لا طريق آخر؟
عندما يفهم الفقيه أنّ هناك تشريعات طرقٍ وأساليب، وهناك تشريعات أصلٍ لها خصوصيتها القائمة، فمن الممكن جدّاً في هذه الحال أن يخرج الفقيه ليعتبر جملةً من الأحكام الفقهيّة مجرّد طرق للحكم الحقيقي (إثبات الولد أو نفيه مثلاً بوصف الانتساب أمراً واقعيّاً والبنوّة أمراً واقعيّاً) لا غير، وهذا لو طبّق ضمن منهج محدّد وعلى نطاق واسع في الفقه لا ضمن نطاق جزئيّ محدود بموارد لا تعدو أصابع اليد الواحدة، لأمكن أن ندّعي أنّنا بتنا نحقّق التكيّف مع العصر ـ مطلق عصرٍ ـ وهذا ما يقلّص بعض الشيء من التعبّديات الحرفيّة في غير مجال العبادات.
أعود وأكرّر بأنّ الأمثلة التي أطرحها هنا هي لإثارة التفكير، لا من باب التبنّي والاختيار النهائي لها.
وكمثالٍ افتراضيّ آخر على الموضوع، دعونا نلاحظ قضيّة الحيض والنفاس، فهذه العناوين هي عناوين واقعيّة، فلو استمرّ الدم الخارج من المرأة خمسة عشر يوماً متواصلاً، وعلم الطبّ أنّ هذا الدم هو نفس الدم الذي يخرج في الأيام العشرة الأولى ومن نفس الأسباب والمكوّنات، فإنّ الخمسة عشر يوماً هي حيض، وكذلك الحال في النفاس؛ لأنّ هذه عناوين واقعيّة لم يؤسّسها الشارع، وإنّما افترض الفقهاء أنّ الشارع أسّس جعلاً جديداً أسميناه الحيض الشرعي؛ لأنّهم لاحظوا النصوص التي تتحدّث عن أنّ أكثر الحيض عشرة وأقلّه ثلاثة، لكن لماذا لا نحتمل وندرس هذا الاحتمال بجديّة، وهو أنّ النبيّ أو الإمام إنّما وضعا هذه الأرقام (ثلاثة وعشرة) لمساعدة المكلّفين الذين لا يعرفون الحيض ولا يميّزونه عمّا ينشأ من الأسباب الأخرى، فأعطونا في هذه الحال قاعدةً غالبة، لكي يميّزوا من خلالها هذا الأمر، فهذه القاعدة طريق لا أنّها حكمٌ أصل، إذ الشريعة لم تؤسّس مفهوماً جديداً للحيض أو النفاس، وإنّما جعلت أحكاماً مترتبة على هذا الأمر الواقعي المسمّى قبل الشرع بالحيض والنفاس..
إذا أقحمنا هذه الشخصيّة وهذا الدور للنبي أو الإمام فسوف نكتشف أنّ بعض النصوص لم تكن لتبيّن أصل الحكم بقدر ما أرادت تبيين طريقة غالبة مساعدة لمعرفة الموضوع الذي يترتب الحكم عليه.
ولعلّ من مصاديق هذا الدور أيضاً أنّنا نجد في بعض نصوص باب السفر روايات صحيحة السند تبيّن أنّ القصر والإفطار في السفر كانا بملاك التعب والنصب الذي يواجهه الإنسان عادةً كما جاء في صحيحة عبد الله بن سنان مثلاً، فإذا ضممنا هذا المفهوم التعليلي الموجود في بعض النصوص والذي يساعد عليه الاعتبار أيضاً، إلى روايات تحديد القصر بالزمان فسوف نجد أنّ هذا المفهوم التعليلي يقف لصالح روايات المعيار الزماني للسفر؛ لأنّ استمرار السفر ليوم وليلة متعبٌ نوعاً.
إذن، لماذا حدّد أهل البيت المعيار في نصوص أخرى بالمسافة والفرسخ؟ والجواب إنّه من الممكن جداً ـ جمعاً بين النصوص ـ أن يكون هذا التحديد لمساعدة المكلّفين؛ لأنّك لو قلت للناس: عندما يكون سفركم متعباً فقصّروا، فقد يفقدون الضابطة في هذا ويخطؤون كثيراً ويوهم كلّ إنسان نفسه أنّه متعب وقد يصوم المتعب واقعاً وقد يفطر غير المتعب واقعاً، فأريد هنا وضع معيار محدّد نسبيّاً لكي ينضبط الجميع له، وهذا المعيار غالبي، أي في غالب الحالات يقع التعب النوعي فيه، وهو مسيرة يوم وليلة المطابقة بحسب سير القوافل في ذلك الزمان لهذا العدد من الفراسخ، فلو تغيّر الوضع كان علينا أخذ التشريع الأصل لو أمكن ضبطه بغير هذا المعيار الغالبي.
أعرف أنّ كلّ ما أقوله سوف يناقَش بأنّ علماء أصول الفقه قد قالوا بأنّ الأصل في العناوين المأخوذة في النصوص هو الموضوعيّة لا الطريقيّة، ولن أدخل في مناقشة هذه القاعدة المدّعاة على إطلاقها، وقد سبق لي أن تحدّثت عنها بالتفصيل في بحثي المتواضع حول تاريخيّة السنّة في كتابي (حجية السنّة في الفكر الإسلامي)، وأبديت هناك تحفّظات عليها في بعض مساحاتها التطبيقيّة، والوقت لا يسعفنا الآن للتفصيل.
أكتفي بهذه العناصر الأربعة (تشريعات الأصل وتشريعات التطبيق ـ تشريعات الأصل وتشريعات الوسائل ـ دور الأئمّة في البيان دون التأسيس ـ موقعيّة القرآن في بيان التشريعات لا العناوين العامّة المجملة فقط) لأشير من خلالها إلى أنّ تأسيس الاجتهاد الشرعي على هذا النمط من التعامل مع النصوص، إلى جانب ما أشرتُ له في جواب السؤال الأوّل، سوف يحدث تحوّلاً ليس بسيطاً في النتائج الفقهيّة، وتغييراً في نمط البيان القانوني والمضمون الشرعي لهذا البيان، وستكون الفجوة بين الفقه الديني والفقه الإنساني أقلّ نسبيّاً.
لكنّ المسألة بحاجة إلى خطوتين كبيرتين:
الخطوة الأولى: التنظير الكلامي والأصولي لمثل هذه العناصر الكبرويّة الأربعة المشار إليها، وليس مجرّد الاكتفاء بفرضها والدفاع الخطابي والشعاري عنها.
الخطوة الثانية: الاشتغال الأصولي على وضع قواعد للتمييز بين النصوص، والتمييز بين مضمونها من حيث الأصل والوسيلة، أو الأصل والتطبيق، أو الحكم الأولي والولائي والمرحلي أو غير ذلك، فإذا لم يُفتح هذا الباب في الاجتهاد الأصولي ودروس البحث الخارج ـ بعد التسليم بالخطوة الأولى ـ فسوف يكون هذا المنهج الاجتهادي عرضةً للفوضى والاستنسابيّة وتفتيت الشريعة وتلاشيها، وهذا خطر كبير ينبغي التنبّه له، لهذا نهيب بالفقهاء والمجتهدين أن يدرسوا هذه الأمور ولو بشكل أوّلي، سواء وافقوا عليها أم رفضوها، لينتقل البحث المعمّق في هذه القضايا إلى الأجيال اللاحقة بشكلٍ صحيح، إن شاء الله تعالى.
المصدر: مستل من حوار مع الشيخ حيدر حب الله بعنوان “مآزق ومفاتيح لتطوير عمليّة الاجتهاد” المنشور في مجلة ” نصوص معاصرة ”