الاجتهاد: تختلف نظرة الشيعة الإمامية الإثنا عشرية لليلة القَدر بشكل كبير عن نظرة أهل السنة لها، فإن كان السنة يعتقدون أن ليلة القدر هي ليلة واحدة فقط، فإن الشيعة يؤمنون أنها مقسمة على ثلاث ليالي.
حيث نُقل عن بعض الأئمة الشيعة قولهم بذلك، فعلى سبيل المثال، أورد الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة، أن الإمام جعفر الصادق قد قال لأصحابه “التقدير في ليلة تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين”، ومن هنا فإن الليالي الثلاثة، 19 و21 و23، تُعرف سوياً بليالي القدر عند الشيعة الإمامية.
يحتفل أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين حول العالم بليلة القدر التي اعتاد المسلمون على تحريها وإحيائها في الثلث الأخير من شهر رمضان المبارك.
تحمل هذه الليلة قيمة رمزية خاصة في المجتمعات الإسلامية، حيث تعتبرُ باباً روحياً غيبياً إلى السماء، وطاقة تشع منها أنوار الرحمة الإلهية. وفي كل عام ينتظرها الناس بلهفة، آملين أن يستجاب فيها رجاؤهم وأمانيهم.
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي تمثلها تلك الليلة عند المسلمين، فإن العديد من الاختلافات تحيط بأصلها وموعدها والظواهر المرتبطة بها والتأويلات التي اعتمدتها الفرق الإسلامية المختلفة.
التسمية والمكانة
اختلف علماء المسلمين اختلافاً واسعاً في تحديد الأصل اللغوي والدلالي الذي اشتق منه اسم ليلة القدر.
ذكر القرطبي في تفسيره جميع تلك الأراء، فيورد أنه قد ذهب فريق من العلماء إلى أن كلمة القدر إنما تعني المصير أو المآل، وذلك لما تواتر في الأحاديث النبوية من أن تلك الليلة تشهد كتابة وتقدير الأرزاق والمقادير للبشر في ذلك العام.
وذهب فريق أخر من العلماء، إلى أن كلمة القدر هنا بمعنى الحظوة والشرف وذلك لعظيم قدرها وأهميتها، وفضلها على جميع الليالي، ولفضل العبادة فيها، وللمكانة المرتفعة التي ينالها العبد الذي يجتهد فيها بالتقرب إلى الله عز وجل.
وأما الرأي الثالث، فيرى أصحابه أن القدر هنا بمعنى الضيق، وذلك لما حُكي من أن تلك الليلة تشهد نزول الكثير من الملائكة بحيث تضيق بهم الأرض والسماء والدنيا.
ورغم الاختلاف الكبير في تحديد سبب تسمية تلك الليلة، فإن المسلمين يتفقون على أن ليلة القدر هي أعظم الليالي وأفضلها مكانة وأهمية على مدار العام، والسبب الرئيس لتلك الأهمية يكمن في ارتباط تلك الليلة بنزول القرآن الكريم.
حيث يعتقد أغلبية المسلمين بأنه وفي تلك الليلة تحديداً، قد تم إنزال القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة الموجود في السماء الأولى، وبعد ذلك، فإن آياته صارت تتنزل على الرسول الكريم بحسب ما يعرض له من مواقف أو أحداث، وذلك على مدار ثلاث وعشرين سنة متتالية، وهي المدة التي استمرت فيها البعثة النبوية.
وقد أورد ابن جرير الطبري في تفسيره، أن عبد الله بن العباس قد قال “أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وكان إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه”.
وقد عارض هذا القول جماعة من العلماء، ومنهم ابن العربي المالكي، الذي قال إن ذلك الرأي يقتضي بأن يكون بيت العزة في السماء الدنيا قد صار مرحلة وسيطة في التنزيل، “وهو قول فاسد، لأنه ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة”.
وتوجد أراء أخرى تعتقد بإمكانية أن تكون ليلة القدر قد شهدت كذلك نزول آيات القرآن من بيت العزة على الرسول للمرة الأولى.
ومما يرجح ذلك الرأي، أن معظم الكتابات والمصادر التاريخية الإسلامية تتفق على أن الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، كانت أول ما نزل من القرآن على الرسول، وأن جبريل قد تنزل بهم عليه في النصف الثاني من شهر رمضان في العام الأول من البعثة.
الاختلاف في تحديد موعد ليلة القدر
لم يرد تحديد ميعاد محدد لليلة القدر، حيث وردت بعض الأحاديث في صحيح البخاري والتي تذكر أن جبريل قد أخبر الرسول بميعادها، ولكن الأخير نساها بعدما وجد اثنين من الصحابة يتشاجران مع بعضهما البعض.
ورغم ذلك فقد تم تعيين الليلة في العشر الأواخر من رمضان، وبالخصوص في الليالي الوترية منها، كما ذكرت أحاديث أخرى أن الاحتمال الأكبر هو أن ليلة القدر تصادف ليلة السابع والعشرين من رمضان، ويعتبر ذلك القول هو الأكثر شيوعاً عند أهل السنة والجماعة.
كما إن العديد من الدول الإسلامية قد اعتادت أن تحتفل بليلة القدر في ليلة السابع والعشرين من رمضان في كل عام.
وهناك من العلماء من يرى أن ليلة القدر يتغير ميعادها من عام لآخر، وذلك لاختلاف الأثار الصحيحة المنسوبة للرسول، والتي ذكر بعضها إنها في ليلة 21 وذكر البعض الآخر أنّها في ليلة 23 أو 27.
ولهذا فإن السبيل الوحيد للتوفيق ما بين تلك الأقوال المتعارضة وبعضها البعض، هو الجمع ما بينها، وممن قال بذلك مالك وابن حنبل والماوردي وابن حجر العسقلاني وغيرهم الكثير.
علامات ليلة القدر
كانت المكانة المهمة التي شغلتها ليلة القدر، والثواب الكبير الذي وعد به المسلم الذي يتقرب إلى الله فيها بالعبادات والطاعات، سبباً في انشغال المسلمين بمحاولة تحري العلامات والظواهر المرتبطة بهذه الليلة.
وقد تناثرت وتواترت الأخبار المحددة لعلامات ليلة القدر في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة في مختلف كتب الصحاح عند أهل السنة والجماعة وغيرهم من المذاهب الإسلامية.
ومن العلامات المهمة التي وردت في الحديث الصحيح عند السنة، ما نقله أحمد بن حنبل في مسنده من حديث عبادة بن الصامت عن النبي أنه قال “إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح”.
ومنها أيضاً ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة، إنه قال، تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله فقال: “أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة”، والمقصود بذلك أنه في ليلة القدر يكون نصف القمر مضيء ونصفه الأخر مظلم.
وهناك أيضاً علامات من المفترض أن تتحقق بعد انقضاء الليلة، مثل ما ذكره مسلم عن أبي بن كعب أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، بحيث يكون في مستطاع الإنسان أن ينظر لها دون أن تؤذى عينيه.
كما أن الكثير من العامة قد أضافوا إلى العلامات السابقة عدداً آخر من الظواهر التي لم ترد مطلقاً في الأحاديث الصحيحة، مثل القول بأنّ الأشجار تنحي ساجدة لله ثم تعود مرة أخرى لسيرتها الأولى، وأنه لا يُسمع فيها نباح الكلاب ونهاق الحمير وصياح الديكة.
ليلة القدر عند الشيعة
تختلف نظرة الشيعة الإمامية الإثناعشرية لليلة القدر بشكل كبير عن نظرة أهل السنة لها، فإن كان السنة يعتقدون أن ليلة القدر هي ليلة واحدة فقط، فإن الشيعة يؤمنون أنها مقسمة على ثلاث ليالي.
حيث نُقل عن بعض الأئمة الشيعة قولهم بذلك، فعلى سبيل المثال، أورد الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة، أن الإمام جعفر الصادق قد قال لأصحابه “التقدير في ليلة تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين”، ومن هنا فإن الليالي الثلاثة، 19 و21 و23، تُعرف سوياً بليالي القدر عند الشيعة الإمامية.
السبب في تعدد الليالي عند الشيعة، يرتبط باعتقادهم بأن أرزاق البشر وأقدارهم تتنزل من السماء للأرض وتتقسم على ثلاث مراحل متتالية، في المرحلة الأولى ليلة 19 تنزل الأرزاق من السماء، وفي ليلة 21 يتم توزيعها على البشر، أما ليلة 23 والتي تُعرف بليلة الإمضاء أو الإبرام ففيها يتم القضاء الذي لا يتغير ولا يتبدل.
ومن هنا فإن ليلتي التاسع عشر والحادي عشر، يعتبران بمثابة مرحلتين تحضيريتين، للمرحلة الثالثة والأهم وهي ليلة الثالث والعشرين.
ولذلك نجد أن الكثير من المصادر الشيعية، قد اعتادت في بعض الأحيان أن تحدد ليلة القدر بليلة الثالث والعشرين دون أن تذكر ليلتي التاسع عشر والحادية والعشرين.
ومن ذلك ما نقله محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق المتوفي في 381هـ/ 991م، في كتابه الخصال، من أنّ إجماع مشايخ الشيعة وعلمائهم كان على أن ليلة القدر هي ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان.
ومن المهم أن نلاحظ أن ليلتي التاسع عشر والحادي والعشرين، ترتبطان بحادثتين على قدر كبير من الأهمية عند الشيعة، وهما حادثة مقتل رابع الخلفاء وأول الأئمة علي بن أبي طالب، في ليلة 19 رمضان، ووفاته بعدها متأثراً بجراحه في ليلة 21 من الشهر نفسه.
ولذلك نجد أن الشيعة في الليالي الثلاث يمارسون بعض الطقوس التعبدية التي ترتبط بذكرى وفاة إمامهم الأول، ومن ذلك زيارة قبره في النجف الأشرف، وزيارة قبر ابنه الحسين في كربلاء، وغير ذلك من الأدعية المعروفة المنصوص عليها من قبل الأئمة.
تأويلات مرتبطة بليلة القدر
حظيت ليلة القدر بالعديد من التأويلات المختلفة، في المذاهب الفكرية والعقائدية الإسلامية. واحد من أشهر تلك التأويلات كان تأويل سياسي يتعلق بفترة حكم الدولة الأموية.
أورد ابن كثير في تفسيره، أنه بعد عقد الصلح ما بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان في عام 41هـ/ 661م، قام واحد من شيعة الحسن وعاتبه على تنازله عن الخلافة، فرد عليه الحسن بقوله ليلة القدر خير من ألف شهر، وفسر ذلك بأن حكم بني أمية سوف يمتد على مدار ألف شهر.
في الوقت ذاته، فقد تم تأويل ليلة القدر بشكل مختلف عند كل من جماعات الصوفية والشيعة التي تميل للتفسير الباطني.
فقد ذكر الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي المتوفي في 638هـ/ 1240م، في معرض تفسيره لسورة القدر أن ليلة القدر هي نفسها الذات المحمدية.
فقال: “ليلة القدر هي البنية المحمدية حال احتجابه عليه السلام في مقام القلب بعد الشهود الذاتي لأن الإنزال لا يمكن إلا في هذه البنية في هذه الحالة، والقدر هو خطره عليه السلام وشرفه إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها”.
أما فرات بن إبراهيم الكوفي الشيعي، فقد ذكر في تفسيره أن المقصود بليلة القدر هي فاطمة الزهراء، وإن من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة بذلك الاسم لأن الخلق فطموا عن معرفتها، ومعنى ذلك أن السرّ المستودع في فاطمة كان هو نفسه سر ليلة القدر، فكليهما كان ممتنعاً عن الناس فهمه أو الإلمام بمضمونه ومحتواه.
أما الآية القرآنية: “ليلة القدر خير من ألف شهر”، ففسرها بأنها تعني أن فاطمة خير من ألف عالم من علماء ذريتها، أو إنها خير من ألف ملك طاغية من الملوك الغاصبين لحق ذريتها في الإمامة والحكم.
المراجع: صحيح البخاري؛ صحيح مسلم؛ مسند أحمد بن حنبل؛ تفسير الطبري؛ تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي؛ تفسير ابن عربي؛ تفسير ابن كثير؛ تفسير القرطبي؛ الخصال للصدوق؛ وسائل الشيعة الحر العاملي
محمد يسري
باحث في التاريخ الإسلامي والحركات السياسية والمذهبية، صدر له عدد من الدراسات والكتب المنشورة، منها الحشيشية والمهدية التومرتية، وثورة الأمصار: قراءة تحليلية في الروايات التاريخية. محمد يكتب بشكل مستمر لرصيف 22.