الاجتهاد: من المعلوم لدارس المذاهب الفقهية، ولتاريخ نشأتها، أنها كلها نبعت من خلال مدارس للصحابة والتابعين، ومن أفراد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت كل المدارس الفقهية تنتفع من كل ذي علم وفقه، دون النظر إلى تصنيفه، أو اتخاذ موقف منه. ثم نشأت المذاهب الأربعة، أو الثمانية، بما فيها مدرسة الفقه الشيعي، ولن ندخل في تفاصيل نشأة المذاهب، ولا في تفاصيل أصولها.
ولست معنيا هنا بالحديث عن الموقف العقدي من المذهب الشيعي، ولا الموقف السياسي لدول تعتنقه، فهذا له حديث وسياق آخر، ولكن حديثي هنا عن الوصل بين هذه المدارس من حيث الانتفاع الفقهي والعلمي، بعد أن رأينا قطيعة فقهية، لم يكن ذلك ديدن فقهائنا الكبار إلى نصف قرن مضى، بل كان الأزهر يدرس مع المذاهب الأربعة، المذاهب الأخرى، ولو بذكر الرأي الفقهي، لعلمه بأهمية الاطلاع على الآراء المختلفة، والانتفاع بما يفيد.
فالمذاهب الفقهية ثروة علمية كبيرة، سواء من حيث النظرة الفكرية والعقلية، أو من حيث النظرة القانونية. وإذا جاز لنا أن ننتفع بقوانين غربية لدول كانت مستعمرة لبلادنا، واستطعنا أن نفرق بين الاستعمار وثقافته الاستيطانية الاستعمارية، وبين ما يفيد من أنظمة وعلوم، فما قامت به مدارسنا الفقهية قديما من سعة الأفق في النظر في الفقه الشيعي، وغيره من المذاهب، مثل الظاهري، والزيدي، والإباضي.
ذكرت أنه إلى نصف قرن مضى، كانت النظرة مختلفة عند العلماء في النظر والاستفادة من الفقه الشيعي، حتى عند علماء كبار من السلفية، فرأينا العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في كتابه: “نظام الطلاق في الإسلام”، يميل إلى شرط الإشهاد على الطلاق والرجعة، ويستند في رأيه إلى المذهب الشيعي.
ودار حوار راق جدا بينه والعلامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء وهو من كبار فقهاء الشيعة في العراق، يناقشه فيما ذهب إليه، ويؤيده في رأيه(1)، ويخاطبه شاكر بأستاذنا، في مقالين مهمين على صفحات مجلة “الرسالة” المصرية.
ومن قبل ذلك، أخذ القانون المصري على عهد الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، بالفقه الشيعي، في قانون ما يسمى: الوصية الواجبة، وهو إذا مات شخص في حياة أبيه، وترك أولادا صغارا، ولهم أعمام، يرثون جدهم، ويحجبونهم من الميراث، فأخذ القانون بوجوب الوصية هنا، وهو مذهب الجعفرية، لأنه يحل مشكلة ظلم تقع على أيتام صغار.
وأخذ العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، والعلامة الشيخ مصطفى الزرقا، ومال إليه العلامة الشيخ يوسف القرضاوي كذلك، في قضية: إحصان الزاني، متى يكون الزاني محصنا؟
المذاهب الأربعة السنية ترى أن من تزوج ولو لساعة واحدة، ثم طلق، أو ماتت زوجته، أو سافر وحيدا بعيدا عنها، فهذا محصن، إذا زنى يرجم، بينما يشترط الفقه الشيعي في الإحصان، أن يكون الزوج له زوجة (أو حسب تعبير الفقه الشيعي: له فرج) يتمكن من جماعه وقتما يشاء بلا مانع، فلو زنى المسافر، أو المسجون، أو من لا يمكنه جماع زوجته، فعندئذ يجلد ولا يرجم، وما يقال عن الرجل يقال عن المرأة، فأخذ به العلماء الثلاثة الكبار، وهم من السنة، لأنه أوفق للرأي، وأقوى، رغم أن الزرقا والقرضاوي رأيهما أن الرجم ليس حدا.
وعندما قام الدكتور توفيق الشاوي رحمه الله بعمل تجديدات في كتاب “التشريع الجنائي الإسلامي” للمرحوم عبد القادر عودة، عهد به إلى أحد رموز الفقه الشيعي، ليضع أسفله رأي الفقه الشيعي، ليكون جنبا إلى جنب مع الرأي الفقهي السني في المذاهب الأربعة، فكان إضافة علمية مهمة.
وحاول المرحوم الدكتور محمد كمال إمام تكرار ذلك، ولكن مع كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لابن رشد، بأن يضع في هوامشه رأي المدارس الفقهية الأخرى، وبخاصة الشيعة والإباضية، ولا أدري هل طبع الكتاب أم لا.
كانت هناك محاولات قديمة في النصف الأول القرن العشرين، قامت بها دار التقريب بين المذاهب، في عرض المدارس الفقهية معا كعلم وبحث فقهي، حتى رأينا شرحا لمجلة الأحكام العدلية، وهي من أهم ما صدر عن الحكم العثماني، كتقنين للفقه الإسلامي على المذهب الحنفي، فشرحها عدد من العلماء السنة، ورأينا شرحا مهما لأحد علماء الشيعة، وهو كتاب “تحرير المجلة” لمحمد الحسين كاشف الغطاء، وهو شرح مهم، وقد زاد على الشرح أنه أكملها، حيث إن المجلة لم تتعرض لأحكام الأحوال الشخصية.
أما عن كيفية الاستفادة من الفقه الشيعي، وغيره، كالإباضي والزيدي والظاهري، فهو أن نقرأ كل هذه الكتب، وكل هذه المذاهب والمدارس، وننظر إلى ما يقال بميزان الدليل الشرعي، لا بميزان المذهبية الضيقة، ولا بميزان آخر غير العلم. ومما يؤسف له أن كثيرين ممن ينتقدون المذاهب الفقهية غير السنية، لا يطلعون عليها اطلاعا صحيحا.
فقد رأيت مرة أحد طلبة العلم يسخر من رأي الشيعة في المسح على الرجلين في الوضوء، وهو رأي فقهي يعتمد على آية كريمة، وعلى فهمها وفق اللغة العربية، سواء اتفقنا معه أم اختلفنا، فالآية في سورة المائدة تقول: “وأرجلكم”، فالآية لها قراءتان: “وأرجلَكم” و”وأرجلِكم” (بالفتح والكسر)، فمن قرأ بالفتح، رآها معطوفة على غسل الوجه، فرأى غسل الرجلين، ومن قرأها بالكسر، رآها معطوفة على مسح الرأس، فرأى مسح الرجلين، وهو ما أخذ به بعض فقهاء السنة في المسح على الجوربين، مستدلين بنفس استدلال القراءة الثانية للآية، وهو ما أخذ به الشيعة.
البحث العلمي والفقهي لا يأخذ موقفا من رأي لعلة صاحبه، بل ينظر فيه، على أنه حكمة وعلم وهو أحق بها، بغض النظر عن صاحبه، فكم من آراء لدى الخوارج والمعتزلة وغيرهم، نظر إليها الفقهاء والمفكرون فوجدوا أنها تفيد، ووضعوا لها ضوابط.
يمكننا الاستفادة من كتب الأصول في الفقه الشيعي، وبخاصة كتب القواعد الفقهية، من تقسيمات فقهائهم. فطريقتهم في التقسيم والتناول مهمة ومفيدة، وكذلك التكوين العلمي للمشايخ لديهم من الاطلاع على العلوم الإنسانية، كالمنطق والفلسفة وغيرها، يتضح لكل قارئ في تراثهم.
الموضوع طويل يحتاج لتفاصيل ونماذج أكثر، لكن ما ذكرته من نماذج تدل على أوجه وكيفية الاستفادة من الفقه الشيعي، ومن كل ألوان الفقه، ما بقي منه من مدارس، وما اندرس منها، فليس معنى عدم وجود مدرسة وأتباع لها كالطبري، والليث ابن سعد، وغيرهما، أن نرفض هذه الآراء، أو لا نستفيد منها، بحجة عدم الاعتماد والذيوع والانتشار، أو المخالفة لهذا المذهب!
(1) للمزيد راجع كتاب الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف – الجزء الثاني العلامة الشيخ جعفر السبحاني (هنا )
المصدر: موقع عربي 21