خاص الاجتهاد: الإمام الخميني (ره) يُعدّ أحد كبار علماء الإسلام في العصر الحديث، وله إسهامات علمية وعملية واسعة النطاق. في هذا الجزء من عرض أفكاره العلمية والعملية، سنتناول موضوعين مهمين: دقة الإمام وظرافته في المسائل الفقهية، وسلوكه مع طلابه وتلاميذه.
على الرغم من المكانة العلمية الرفيعة للإمام الخميني (ره)، إلا أنه كان يتعامل مع طلابه وتلاميذه بكل تواضع واحترام. فعندما كان يُلقي درسًا، وإذا طرح أحد الطلاب سؤالًا، كان يتوقف باهتمام ويستمع إليه ويُجيب عليه بأفضل طريقة.
حتى في بعض الأحيان، عندما كان أحد الطلاب يتحدث دون إذن أثناء الدرس، لم يكن الإمام يغضب، بل كان يُشجّع جرأته وشغفه.
يُظهر هذا السلوك من الإمام حبه للعلم والمعرفة، كما يُظهر اهتمامه بتعليم جيل من العلماء الفضلاء.
تُعدّ إعادة قراءة فكر وآراء وسيرة الإمام الخميني (ره) النظرية والعملية ضرورة تاريخية للحاضر والمستقبل، وذلك لتعريف جميع أفراد الأمة، خاصة جيل الشباب الطامحين في الحوزات العلمية والمفكرين والثوريين، بهذه الأفكار التحولية بشكل أوضح، وجعلها أساسًا ونموذجًا حقيقيًا لمجتمعهم.
وفي ضوء هذه الأفكار السامية والإنسانية، توسع آفاقهم الفكرية والفكرية، ويتخذ الحياة المؤمنة المصحوبة بتقوى الجهاد نصب أعينهم.
لذلك، نقدم في هذه المجال نصوص خطابات أصحاب السماحة: الشيخ محمد يزدي، وعلي أكبر مسعودي الخميني، والسيد محمد سجادي، ومحي الدين حائري الشيرازي، عن سيرة الإمام الخميني رحمة الله عليه
يقول آية الله السيد محمد سجادي عن خصائص درس أستاذه الإمام الخميني “قدس سره“
كان أهمّ ما كان يسعى إليه الإمام الخميني في النجف الأشرف هو البحث في المسائل الفقهية ومباني الحكم الإسلامي. وكان يتميز مجلس درسه بخصائص لم تكن شائعة بين علماء النجف وقم.
أحد هذه الخصائص هو الشخصية الأخلاقية للإمام في دروسه، فمع قوة و صلابة و هيبة الإمام الخميني في البحث، كان يبذل أقصى دقة وتتبع في المسائل الفقهية. وكان من ناحية تعامله مع الطلاب والحوزة العلمية، مجلس درسه أشبه بحوزة أخلاقية وعرفانية وروحية.
لا شكّ أنّ ذكر أسماء العلماء ونقل أقوالهم أمرٌ شائعٌ في المباحث الفقهية، لكنّ الإمام كان حريصًا جدًا على ذكر أسماء الأشخاص باحترام وتقدير. وهو مع تأكيده على أنّه لا ينبغي للطلاب والباحثين عن العلم أن يُقَيّدوا أنفسهم بِعِظَمَة الشخصيات العلمية، بل يجب عليهم التركيز على محتوى البحث، إلّا أنّه كان يحرص في الوقت نفسه على مراعاة الأخلاق والتواضع. هكذا كان سلوك الإمام في الدرس.
كان الإمام الراحل يتعامل مع الطلاب والتلاميذ بلطفٍ وتواضعٍ شديدين. فإذا طرح أحد الطلاب سؤالًا أثناء الدرس، كان يتوقف ويستمع إليه ويجيب عليه. في حين أنّ معظم الدروس لا تسمح للطالب بالتحدث، وعادةً ما يُمنع الطلاب من التحدث أثناء الدرس، إلّا أنّ الإمام كان يرحب بشدة بِمُلاحظات وإشكالات الطلاب.
يقول آية الله مسعودي الخميني: من بين المسائل الصعبة في مبحث الطهارة، هي مسألة الحيض والنفاس والاستحاضة. كان الإمام (ره) يدرس مسألة الحيض، وفي سياق ذلك يناقش قاعدة الإمكان. تُعدّ قاعدة الإمكان في باب الحيض من القواعد المُشكلة، ويجب على من يريد إظهار علمه أن يُظهر ذلك في هذه القاعدة.
ناقش الإمام الخميني هذه القاعدة، وأصبح نقاشه لمسألة الحيض كتابًا. مع مواصلة شؤون الثورة، عرضتُ على الإمام (ره) طباعة هذا الكتاب، فأعطاني إياه.
أخبرتُ السيد مصباح أنّ الإمام قد أعطاني الكتاب وسيتمّ طباعته. سألتُ أخوه السيد پسندیده إن كان لديه المال لطباعة الكتاب؟ فقال: ليس لديّ الآن، لكنّك اقترض وانا أعيد المال لاحقًا. فكان لديّ سجادة، فبعتُها وطبعتُ كتاب الطهارة للإمام.
بعد طباعة الكتاب، كتبت مقدمةً له، وذكرتُ فيها “آية الله الحائري”. عندما رأى الإمام هذه الجملة، انزعج وقال: أكتب “آية الله العظمی” ويجب تصحيح ذلك. بعد الطباعة، صادرت ساواك جميع النسخ.
قال لي أحد الأعلام اليوم: لم أكن أرى السيد حاج آقا روح الله دقيقًا من الناحية العلمية، لكن بعد طباعة رسالة الحيض ورأيت قاعدة الإمكان للإمام، أدركتُ أنّه دقيقٌ جدًا من الناحية العلمية، وأثق به تمامًا من الناحية الفقهية.
يقول آية الله محمد اليزدي عن خصائص ونوعية تدريس الإمام الخميني:
الجودة في الواقع هي التعليم غير المباشر، والتعليم المباشر هو المناقشات العلمية التي يطرحها الأستاذ. على سبيل المثال، في بحث أصول مباحث الألفاظ، يناقش مثل مباحث العموم والإطلاق والظاهر والنص وما شابه ذلك، ويُقسم علم الأصول إلى قسمين: مباحث الألفاظ والمباحث العقلية.
في مباحث الألفاظ هي التي تُستخدم لفهم ظواهر الآيات والأحاديث، تناقش العموم والإطلاق والمجمل والمبين وما إلى ذلك.
وعند دخول المباحث العقلية للأصول، تُناقش مباحث جهة صدور الروايات، والتعادل والتراجيح، وما إلى ذلك، ويصل الأمر إلى ما إذا كان ذلك في ظروف عادية أو تقية، والمباحث التي يُعبّر عنها بالجوانب العقلية.
أما الأجزاء القليلة التي أريد أن أقولها في قسم التعليم غير المباشر فهي:
أولاً: كان للإمام رحمة الله عليه نظامًا دقيقًا في الوقت، أي خلال هذه السنوات السبع التي كان عليه أن يمشي فيها من منزله إلى مسجد السلماسي في ظروف جوية مختلفة، وكان المسار الوحيد هو المشي سيرًا على الأقدام، متنقلا عبر الأزقة، وكان احترام الوقت أحد الأشياء التي كانت تُراعى بدقة في بداية ونهاية الدرس، أي أن الدرس كان يبدأ وينتهي في الموعد المحدد.
ثانيًا: كان مسجد السلماسي يمتلئ عادةً، وأحيانًا كان يجلس الطلاب على الدرج وعلى مدخل المسجد.
هذه نقطة أُعبّر عنها بنظام احترام الوقت.
المسألة الثانية هي نظام الأستاذ في المسألة الظاهرية، وملبسه، وتنظيم مظهره، مما له تأثيرات خاصة على نفسية الطالب.
كان الإمام دائمًا يرتدي ملابس أنيقة ومرتبًا، ولم نره أبدًا مهملاً، وكان دائمًا يحافظ على مظهره الخارجي، وكان لذلك تأثير كبير على نفسية الطلاب وتعلمهم من الناحية الظاهرية.
على سبيل المثال، في فصل الشتاء، كانت جميع الأزقة في المسار عادةً مغطاة بالطين والوحل، وكان الإمام أول شخصية علمية تتخلى عن الأحذية الخاصة بالطلاب (النعلين) في تلك الظروف وترتدي أحذية عادية. فهو في الواقع، كان يهتم أكثر بما له أساس عقلي وعقلاني.
يقول المرحوم آية الله الحائري الشيرازي:
في تلك الفترة، عندما كان الإمام شابًا وكان لديه حجرة في المدرسة الفيضية، وكان يحضر درس الشيخ عبد الكريم الحائري، رأى الإمام امرأة تلد في أحد الممرات بين مدرسة الفيضية ودار الشفاء. وعندما رأى الإمام هذه الحالة، قام بإعداد الماء الساخن والنبات وأعطاها لها، لكن المرأة لم تتمكن من حمل الكأس، فوضع الإمام الكأس في فمها.
بالطبع، اعتبر طلاب العلم المتشددون أن قيام رجل أجنبي بوضع نبات ساخن في فم امرأة أجنبية أمرًا غير مقبول، لكن من يفهم ويدرك أن حفظ حياة الإنسان أهم من هذه الأمور، لن يرى في ذلك أيّ إشكال.
وفي مرة أخرى، عندما سأله آية الله قديري أسئلة حول آلات اللهو والشطرنج، نصح الإمام في النهاية بعدم الإجابة على هذه الأسئلة.
ثم قدم الإمام نصيحة مقابلة للشيخ قديري، قائلاً: “أنتم تخشون أن تنخفض صيتي ومكانتي بين الجهلاء والمُتشدّقين الأغبياء، لذلك فليكن، لا أريد أصلًا أن يكون لي مكانة بين هؤلاء.” وهكذا كان الإمام في شبابه وفي منتصف عمره وفي نهاية حياته.