خاص الاجتهاد: المرجع الديني آية الله السبحاني: ينبغي مراجعة مباني أصول الفقه وأسسه، فمنذ زمن صاحب الفصول باتت المسائل الفلسفية أسساً لبعض مسائل أصول الفقه، في حين أنّ المسائل الفلسفية مرتبطة بالعلوم الحقيقية والتكوينية؛ أمّا أصول الفقه فهو علم اعتباري وقانوني. / يظهر من بعض كتابات المرحوم الأصفهاني( الكمباني) وآية الله الخوئي (قدس سرهما) أنّهما كانا يرغبان بشدة بحصول مراجعة بنيوية الدفعية في تنظيم مسائل أصول الفقه، ومثل هذا النوع من إعادة المراجعة يُبعد الأجيال المعاصرة عن آثار القدماء، ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الأسلوب لا يحمل الكثير من الفائدة.
وفقاً للاجتهاد، أقيم الأسبوع الماضي مؤتمر” دور علم الأصول في تفسير القرآن الكريم ” في دار القرآن للعلامة الطباطبائي بقم المقدسة و ذلك في الذكرى الـ 38 لوفاة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله تعالى.
نظراً لأهمية كلمة المرجع الديني آية الله الشيخ جعفر السبحاني في هذا المؤتمر حول ضرورة التحول ومراجعة مباني أصول الفقه وأسسه، نقدم لكم النص الكامل لكلتة سماحته:
محاور كلمته
1. منزلة أصول الفقه في الاستنباط
(نوعان من أصول الفقه عند علماء أهل السنّة)
2. مراجعة تنظيم وترتيب مسائل أصول الفقه
3. مراجعة مباني أصول الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
سوف أتحدث حول الموضوعات الثلاثة الواردة في العنوان:
1. منزلة أصول الفقه في الاستنباط
إنّ منزلة أصول الفقه وموقعها بالنسبة إلى استنباط الأحكام الشرعية هو موقع المبادئ التصديقية في كلّ علم بالنسبة لذلك العالم،
لاشكّ أنّ لكلّ علم سلسلة من القضايا يكون هذا العلم سببا للتصديق بالنسب والأحكام فيها؛ فعلى سبيل المثال يقال أنّ المنطق من المبادئ التصديقية للفلسفة، وذلك لأنّ الإنسان يصل إلى اليقين بالقضايا الفلسفية عبر القياسات الأربعة المنطقية؛ وفي الحقيقة النسبة السابقة هي ذات نسبة أصول الفقه إلى استنباط الأحكام؛
مثلا إذا ما استنبطنا بعض الأحكام عن طريق أخبار الآحاد فإنّ صحة مثل هذا الاستنباط تتوقف على إثبات حجيّة خبر الواحد في علم أصول الفقه، وعليه لايمكننا تجاهل دور أصول الفقه في عملية استنباط الأحكام،
ولذلك كانت هذه الأصول ومنذ البداية محل اهتمام أصحاب الأئمة(ع)، وبعضهم صنّف رسائل في بعض مسائل هذا العلم، من قبيل رسالة “اختلاف الحديث” ليونس بن عبد الرحمن (ت 208 هـ)، و كتابا “الخصوص والعموم”، و”الأسماء والأحكام” من تأليف أبي سهل النوبختي (ت 311هـ)، وكذا “الخبر الواحد والعمل به” تأليف الحسن بن موسى النوبختي.
وطبعا شكّلت هذه الرسائل ما يمكن تسميته نواةً لتدوين علم أصول الفقه كاملاً، والذي بدأه الشيخ المفيد؛ وذلك عبر تأليفه كتابا بعنوان ” التذكرة بأصول الفقه”،ورغم ضياع أصل هذا الكتاب وعدم وصوله إلينا ولكن طبعت خلاصته ضمن كتاب “كنز الفوائد” للكراجكي،
وبعد الشيخ المفيد ترك لنا تلميذه الشريف المرتضى (ت 436هـ) أثراً علمياً قيّما وهو كتاب “الذريعة إلى أصول الشريعة”،واستمر تلامذة مدرسة الشريف على نهجه؛ فألف سلّار الديلمي (ت 448هـ) كتابا بعنوان “التقريب في أصول الفقه”، وبعدّه صنّف الشيخ الطوسي (ت 460هـ) كتاب “العدّة في أصول الفقه”،وفي الواقع فقد وصل هذا العلم إلى التكامل في القرنين الرابع والخامس.
واستمرّ هذا النهج من القرن الخامس وحتى القرن العاشر بصور وأشكال شتّى، إلا أنّ هذا العلم قد شهد نوعا من التوقّف والركود في القرنين الحادي والثاني عشر،وشكّل ظهور المدرسة الأخبارية عائقا أمام تطوره،
ولكن وصل هذا العلم إلى كماله في القرن الثالث عشر على يد المحقق البهبهاني، واستمر تلامذته على نهجه فكان للشيخ مرتضى الأنصاري(ت 1281هـ) الدور البارز والأساس في تنظيم مسائل هذا العلم، وبعده في القرن الرابع عشر وصل هذا العلم إلى الأوج في التكامل والانسجام، ومن علاماته البارزة كتاب “الكفاية” للمحقق الخراساني.
وطبعاً ينبغي ألّا نتصور أنّ هذا العلم لم ينهل من روايات المعصومين(ع) بل إنّ الكتاب والسنّة يشكلان جزءً من مباني وأسس علم أصول الفقه، وقد جمع الشيخ الحر العاملي (ت 1104هـ) في كتابه “الفصول المهمّة” مجموعة من الروايات التي يمكن أن تكون سنداً وداعماً لمسائل أصول الفقه.
ولا شك بأنّه كان لأهل السنّة خطوات في هذه المسائل، وأول مصنّفاتهم في ذلك “الرسالة” لمحمد بن إدريس الشافعي، وهذا الكتاب يدرّس في بعض جامعات الدول العربية.
نوعان من أصول الفقه عند علماء أهل السنّة
لعلماء أهل السنة نوعان من أصول الفقه:
لا يقول الفقهاء الأحناف بمرجعية أصول الفقه؛ بل يعتبرون فتاوى الإمام أبو حنيفة ميزاناً لصحة القواعد من عدمها، ويستخرجون قواعد أصول الفقه من فتاوى فقه أبي حنيفة، ولا يعيرون أهمية للقواعد التي تتعارض مع الفتاوى الصادرة عنه.
وفي الضفة الأخرى يقف فقهاء الشافعية؛ الذين ذهبوا للقول بمرجعيةٍ لأصول الفقه، وهم يقيّمون الفتاوى وفقا للقواعد، ولا يعيرون أهمية للفتاوى التي تتعارض مع القواعد المسلّمة.
ولكن فقهاء الشيعة يأخذون بكلا المنهجين ويجمعون بينهما، فهم مع قولهم باعتبار أصول الفقه وأصالتها نراهم يستنبطون بعض قواعدها من روايات أهل البيت(عليهم السلام)، من قبيل حجية خبر الواحد، وأصلي البراءة والاستصحاب.
إلى هنا ينتهي كلامنا حول موضوع مكانة أصول الفقه وموقعه في استنباط الأحكام الشرعية، وسنبدأ بتناول موضوعنا الثاني.
2. مراجعة تنظيم وترتيب مسائل أصول الفقه
لا شكّ أنّ كل علم يدخل في الركود والسكون سوف تكون نهايته الاضمحلال والفناء، فالعلم المتسم بالحياة والاستمرار هو العلم الذي لاتتوقف فيه حركة النقض والإبرام، وعلم أصول الفقه غير مستثنى من هذه القاعدة، وفي تنظيم وترتيب مسائل أصول الفقه هناك نظريتان تعرضتا للنقض والإبرام.
المراجعة البنيوية الدفعية
كان للمرحوم آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سرّه) رأيٌ في تنظيم مسائل أصول الفقه؛ حيث وفّق لتنظيم مقدارٍ يسير منها، ويبدو أنّ المرحوم آية الله الخوئي (قدس سره) كان ينوي القيام بعمل مشابه، بحيث تتم عملية المراجعة تحت عنوان “النهج الحديث في أصول الفقه”،
ومما يظهر من بعض كتاباتهما أنّهما كانا يرغبان بشدة بحصول مراجعة بنيوية، ومثل هذا النوع من إعادة المراجعة يُبعد الأجيال المعاصرة عن آثار القدماء، ونحن نعتقد أنّ مثل هذا الأسلوب لا يحمل الكثير من الفائدة، وذلك لأنّ إيجاد فصل وتباعد بين الأجيال الجديدة وبين آثار القدماء ومصنفاتهم سوف يحمل الكثير من الأضرار.
المراجعة التدريجية
نحن نعتقد أنّ جميع أنواع المراجعة يجب أن تحصل بشكل متدرج، ونقدم فيما يلي بعض النماذج:
في بداية تعليم أصول الفقه نقول للطلاب المتعلمين:
موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة؛ إمّا ذات الأدلة أو بقيد الدليلية، ولكننا لا نرى أبواباً مستقلة خاصة بهذه الأدلة الأربعة في الكتب الأصولية المصنّفة منذ زمن الشيخ الأنصاري وحتى يومنا الحاضر،
وغالبا ما يتمّ تضمين حجيّة الكتاب في باب حجيّة الظواهر، وتضمين حجيّة السنّة في حجية خبر الواحد، وحجيّة الإجماع المحصّل في الإجماع المنقول، وحجية العقل في بحث قطع القَطّاع وغيره.
وهنا من المفيد الاقتراح بأن يراعى في تصنيف الكتب الأصولية مستقبلاً تخصيص أبواب لكل واحد من الأدلة الأربعة، وأن تبحث هذه الأدلة بشكل مستقل.
نموذج آخر لعملية المراجعة التدريجية
حجيّة العقل هي واحدة من مصادر أصول الفقه، ولا يراد بالعقل هنا البراهين الفلسفية كالدور والتسلسل وغيرهما؛ بل المقصود هو الحسن والقبح العقليين،
وللأسف لم يكن هناك تناول كثير لهذا الموضوع في الكتب الدراسية، ومن المؤسف للغاية أنّه يتم النظر إلى هذه القاعدة في بعض الكتب على أنّها من القضايا المشهورة والمقبولة عند العقلاء، بحيث أنّه لو فقدت هذه القاعدة يوماً السند والشهرة العقلائية فإنّ كثيرا من القواعد الأصولية سوف تنهار؛
في حين أنّ هذه القاعدة برهانية وليست جدليّة أو من المشهورات، فكما أنّ العقل النظري فيه مسائل ضرورية ونظرية فالعقل العملي كذلك يحمل هذه الخاصيّة، وقضية الحسن والقبح العقليين هي واحدة من أقسام هذين الجزأين ويحكم عليها العقل بشكل قاطع.
والأسوأ من ذلك أنّ البعض يفسّر الحسن والقبح العقليين بالمصالح والمفاسد، في حين أنّ مكانها الأصلي هو معرفة أفعال الباري تعالى، وهناك لا يمكن الحديث عن مصلحة ومفسدة،
وأول من درس هذه المسالة وحللها بشكل علمي دقيق هو المرحوم المحقق اللاهيجي في كتابه “سرمايه ايمان” (رأس مال الإيمان)،
وهنا أكتفي بالإشارة المختصرة لهذا الموضوع، وقد قدّمت شرحاً موسعاً وتفصيلياً حولها في كتابي “التحسين والتقبيح العقليّان”.
نموذج ثالث للمراجعة التدريجية
نستعرض مثالاً آخر على قضية المراجعة التدريجية في تدوين كتب الأصول، وهو لزوم إدخال بحثين معينين في كتبنا، وهو الأمر الذي كان موجوداً إلى حدٍ ما في كتب القدماء.
الظنون غير المعتبرة عندنا، والمعتبرة عند أهل السنة كالقياس والاستحسان، وسدّ الذرائع، وفتح الذرائع، والمصالح المرسلة، وفتوى الصحابي و… على الرغم من أنّها غير معتبرة عندنا، إلا أنّه ينبغي للأصولي أن يطلع على ما كتبه الآخرون وما يعتقدونه حولها،
ولذلك نجد أنّ هذه المسائل قد طُرحت في “الذريعة” و”العدّة”، وعليه يجب إعادة دراسة هذه المسائل بنيوياً.
في الفترة الأخيرة طرحت مسألة المقاصد الشرعية في المحافل الفقهية في المغرب وتونس ومصر، على الرغم من أنّهم من الأشاعرة _وفي المدرسة الأشعرية لا تتبع أحكام الشريعة المصالح والمفاسد_ إلّا أنهم وضعوا هذا الأصل جانباً، وتابعوا هذه المسألة ميدانياً عبر تأليف الرسائل،
فقالوا إنّ المقاصد الشرعية على ثلاثة أنواع:
1. الضروريات، 2. الحاجيّات، 3. الكماليات،
ويقومون بدراسة وتحليل كلّ واحدة منها، ونحن ينبغي علينا أنّ نتابع هذا الموضوع وفق أسلوبنا ومنهجنا.
إلى هنا انتهينا من الموضوع الثاني، وفميا يلي الموضوع الثالث:
3. مراجعة مباني أصول الفقه
ينبغي مراجعة مباني أصول الفقه وأسسه، فمنذ زمن صاحب الفصول باتت المسائل الفلسفية أسساً لبعض مسائل أصول الفقه، في حين أنّ المسائل الفلسفية مرتبطة بالعلوم الحقيقية والتكوينية؛
أمّا أصول الفقه فهو علم اعتباري وقانوني، ولا تصح الاستعانة بالقوانين التكوينية في العلوم الاعتبارية؛ فمثلا استخدم المحقق الخراساني قاعدة “الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد” في كثير من المواضع، من قبيل إثبات موضوع علم الأصول، والتصور الجامع بين أفراد الصحيح.
وغالباً ما يستعين الأصوليون اليوم بقاعدة امتناع الدور والتسلسل في بحث “التّعبدي والتّوصلي”مسألة امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلق؛ في حين أنّ قاعدة امتناع الدور والتسلسل منفصلة تماماً عن المسائل الاعتبارية.
ومن أمثلة ذلك لجوء المحقق النائيني في مسألة “اجتماع الأمر والنهي” إلى تركيب الجنس والفصل وهل هو انضمامي أم اتحادي؛ في حين أنّ هذه المسألة لا ارتباط لها بتركيب الغصب والصلاة.
حتى الشيخ الأنصاري ولكي يثبت بقاء الموضوع في الاستصحاب استعان بقاعدة “امتناع انتقال العرض” الفلسفية، والمحقق الخراساني تحدث أثناء بحثه في استصحاب الزمان والزمانيات حول الحركتين القطعية والتوسطية.
فينبغي على “مجمع أصول الفقه” أن يبحث في اجتماعه القادم مسألة ضرورة مراجعة الأسس والمباني التي يقوم عليها علم أصول الفقه.
وقد أكدّ العلامة الطباطبائي مراراً على ضرورة استناد كلّ علم على المباني الخاصة بهذا العلم في تكامله وفي استخلاصه للنتائج، ولذلك نراه اتبع هذه القاعدة في حاشيته على كتاب الكفاية.
وقد قدم لي مؤخرا مدير “دار العلامة الطباطبائي للقرآن الكريم” السيد “نجفي قدسي” ثلاثين صفحة من أحد مصنفات العلامة الطباطبائي في أصول الفقه، وقد قارنت هذه الصفحات مع تعليقته على الكفاية، فوجدت هذا الأثر مختلفاً عن التعليقة، وهو أكثر شمولاً وعمقاً منها، وإذا ما تمكّنا من ضمّ بقية الصفحات وطباعتها سوف يكون ذلك أول كتاب في أصول الفقه يصدر عن هذه المديرية.
يوم باسم “أصول الفقه” في التقويم الرسمي
وفي الختام أطلب من مجلس المديرية إرسال رسالة إلى المجلس الأعلى للثورة الثقافية يطلب فيها تعيين يومٍ في التقويم الرسمي للبلاد باسم “يوم أصول الفقه”؛ بحيث يكون ذلك اليوم إمّا يوم وفاة الشيخ الأنصاري أو يوم وفاة المحقق الخراساني.
هذه خلاصة كلامنا، وندعو الباري تعالى أن يحفظنا من الخطأ والزّلل.
مصدر النص الفارسي لكلمة المرجع السبحاني : موقع شفقنا
تقرير مصور عن المؤتمر