الاجتهاد: قام (ویلسون) بزيارة الإمام محمد تقي الشيرازي في حزيران ۱۹۱۹، إلى بيته في کربلاء. ومما يذكر أنه طرح عليه في بداية حديثه إلتزام الإشراف على مقام الإمامين العسكريين في سامراء، ليستدر عواطفه بهذه الإثارة التي تنفعه طائفياً، ولتكن بداية استدراجه واحتوائه من قبل سلطات الاحتلال، وبالفعل طلب (ویلسون) من الشيرازي ترشيح رجل من الشيعة ليحل محل سادن الروضة الحالي وهو سني المذهب، ولكن خاب ظنه حينما أجابه الإمام بقوله: “ولا فرق عندي بين السني والشيعي، أن (الكليدار) الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله”.
انتقل الإمام محمد تقي الشيرازي الحائري من سامراء إلى كربلاء في ۲۳ شباط ۱۹۱۸م، ۲ جمادی الأولى ۱۳۳۶ هـ، وكان يوم وصوله إلى كربلاء يوماً مشهوداً، فخرجت الجماهير نساءً ورجالاً لاستقباله(۱). وكانت الأجواء العامة في الساحة الدينية والسياسية تشير إلى أنه خليفة المرجع الأعلى السيد اليزدي.
وبالفعل، بعد وفاة السيد محمد کاظم اليزدي في ۳۰ نيسان ۱۹۱۹م، ۳۰ رجب ۱۳۳۷ هـ، أصبح الشيخ محمد تقي الشيرازي المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة ، وسنلاحظ انضواء العراقيين بشكل عام تحت لوائه. وكانت قد شخصت دوائر الاحتلال مؤهلات الشيرازي القيادية منذ البداية، فأولته اهتمامها الكبير بعد رحيل سلفه السيد اليزدي،
ففي ۵ أيار أي بعد خمسة أيام من وفاة اليزدي، كتب نائب (ویلسن) (الكولونيل هاول) رسالة إلى الإمام محمد تقي الشيرازي يعزيه بوفاة الإمام اليزدي، ذاكراً فيها إشارات خاصة، يمتدح فيها سلفه، وهي تحمل دلالات واضحة لرسم النهج ذاته، في التزام جانب الهدوء والسكينة، بالرغم من تطور الظروف وتصاعد الأزمة، فكانت رسالة تعزية ولكنها لا تخلو من محاولة تلقين إملاءاتم المطلوبة(۲).
ومن ثم قام (ویلسون) بزيارته في حزيران ۱۹۱۹، إلى بيته في کربلاء. ومما يذكر أنه طرح عليه في بداية حديثه إلتزام الإشراف على مقام الإمامين العسكريين في سامراء، ليستدر عواطفه بهذه الإثارة التي تنفعه طائفياً، ولتكن بداية الاستدراجه واحتوائه من قبل سلطات الاحتلال، وبالفعل طلب (ویلسون) من الشيرازي ترشيح رجل من الشيعة ليحل محل سادن الروضة الحالي وهو سني المذهب، ولكن خاب ظنه حينما أجابه الإمام بقوله: “ولا فرق عندي بين السني والشيعي، أن (الكليدار)(۳) الموجود رجل طيب، ولا أوافق على عزله”(۴) .
ولما فشل (ویلسون) في محاولته هذه، عرض عليه استعداداته لتنفيذ أوامره، فأستثمر الإمام هذا العرض مباشرة، فطلب منه التعجيل بالرحيل عن البلاد وتنفيذ العهود البريطانية بشان استقلال العراق، موضحاً له بأن هذا هو طلبه الوحيد(۵).
ومن الطبيعي كان لهذا الموقف أثره السلبي لدى المحتلين ترجم بالخيبة وإعادة الحسابات، بينما انعكس في نفوس العراقيين بالعزة والصلابة والالتفاف الفعلي حول الشيخ القائد، وذلك لأنه ركز على الهدف الرئيس الذي تجتمع عليه الأمة، سنة وشيعة،
ومما يذكر في هذا المقام أن الإمام نجح في مسعاه لتوحيد جهود الطائفتين للعمل من أجل إنقاذ العراق(٦) ، وقد ظهر ذلك جليا في بغداد خلال شهر رمضان (۱۳۳۸ هـ ۱۹۲۰م)، ومن هذا المنطلق بدأت تتحرك المسيرة التحريرية نحو ساعة التفجير الثوري، كما كانت تشير تطورات الأحداث، فالمرجع الأعلى متوثب في الميدان، وبقية المجتهدين والحوزة الدينية والسياسيين الوطنيين بل وعموم العراقيين، مع كل خطواته في التصدي والجهاد.
وسنلاحظ توحيد الطاقات الحركية المنطلقة من عدة توجهات شعبية ومحلية ضمن نطاق العمل الوطني، وهي متمحورة حول الهدف المركزي الموحد الذي كرسه الإمام الحائري في الأمة، والذي عزز موقعه القيادي في الأوساط العراقية بشكل عام، فهو بالإضافة إلى مكانته العلمية – الدينية، كان يتمتع بكفاءات شخصية نادرة، يقول السيد محمد علي بحر العلوم في حديثه مع علي البازركان : «إن الميرزا محمد تقي الشيرازي له مكانة كبيرة .. وهو ذو جرأة وحزم وإقدام لا تصده إذا أندفع أية قوة(٧)، لذلك اجتمعت كلمة المسلمين تحت رايته ، واستوعب تحرك الوطنين ضمن خطته العامة.
يقول الدكتور فياض: «يظهر أن الإمام محمد تقي الشيرازي كان يعتقد أن مساندة الحركة الوطنية أمر يمليه عليه الواجب الديني، وأن نجاح هذه الحركة يعني زوال حكم غير إسلامي، وإحلال حكم إسلامي محله.(٨)
وبذلك تحقق الربط الفعلي بين عموم الناس والقيادة في المسيرة الجهادية، ضمن خطة الإعداد الثوري التي بلورت هذا التماسك المصيري مع المرجع القائد. ويمكننا أن نقول: إن هذه المسيرة امتلكت مقومات النجاح، لوجود القائد الواحد، يعني توافر وحدة القيادة ، ووحدة صفوف المعارضة، ووحدة الأهداف العامة. بالإضافة إلى العمق الشعبي الكبير الشخصية الإمام حيث أصبح الرمز القيادي جميع المسلمين بكل طوائفهم، بل لكل العراقيين بكل أطيافهم الحركية والثقافية والسياسية.
ولقد كانت خطوات الإعداد تتركز حول تنظيم إدارة الوضع الحركي والسياسي للمعارضة العامة، ومباشرة الأعمال السياسية والإعلامية، وكذلك التحرك نحو التعبئة العامة للأمة، لغرض المواجهة السلمية، فإن حصلت بواسطتها الأهداف المرجوة فيها، وإلا فإلى المواجهة المسلحة ضد قوات الاحتلال. ضمن هذه الخطوط العريضة تحركت مسيرة التحرير، بتوجيهات القيادة الميدانية، وعلى رأسها الإمام الشيخ الحائري الشيرازي.
ففي المجال الإداري، انصبت الجهود نحو لملمة القيادات الدينية الثانوية إلى جانب زعماء العشائر، ووجهاء المدن، خصوصاً في مناطق التوتر السياسي – الفرات الأوسط -، وربطها بالإمام القائد، وفي هذا الصدد تم تأسيس (الجمعية الإسلامية) في كربلاء وهي جمعية سرية تعنى بشؤون التحرك والثورة وذلك في تشرين الثاني ۱۹۱۸م، محرم ۱۳۳۷ ه(١٠) برئاسة نجل الإمام الشيخ محمد رضا، وكان في عضويتها: السيد هبة الدين الشهرستاني، والسيد حسين القزويني، والسيد عبد الوهاب آل طعمة، وعبد الكريم العواد، وعمر العلوان، وعثمان العلوان، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن، وطليفح الحسون، وعبد المهدي القنبر، ومحمد علي أبو الحب(١١) .
وكان هدفها توحيد الكلمة في مواجهة الاحتلال البريطاني، والسعي للحصول على استقلال العراق بزعامة ملك مسلم (١٢). كما – أشرنا إلى ذلك سابقاً – كما وأسس الإمام محمد تقي الشيرازي جمعية أخرى هي (الجمعية الوطنية الإسلامية) ضمت : عبد الحسين المندلاوي، ومهدي المولوي، ويحي الزرندي وغيرهم.
وقد أسس السيد أبو القاسم الكاشاني في الكاظمية جمعية سرية هي (الجمعية الإسلامية) كان يدعمها شيخ الشريعة الاصفهاني. وأيضا أسس الحزب النجفي السري في تموز ۱۹۱۸م، ۱۳۳٦ ه ضم عدداً من علماء الدين في النجف، من أبرزهم: الشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محمد جواد الجزائري، والشيخ جواد الجواهري، السيد محمد سعید کمال الدين، الشيخ حسين العلي، الشيخ عبد الحسين معطر، والشيخ محمد علي القسام، بالإضافة إلى بعض رؤساء العشائر ورموز المجتمع، أمثال : السيد علوان الياسري، السيد كاظم العوادي، محسن شلاش، هادي زوين، والشيخ شعلان أبو الجون(١٣).
ولهذه التطورات والمواقف العملية الشيخ المرجع على المستوى الحركي والتنظيمي، أصبح بمنزلة القطب من رحى الحركة العراقية، وبالفعل التف السياسيون الوطنيون حول شخصيته باعتباره القائد المنقذ للعباد و البلاد، وذلك لما عرفوه من تمتعه برؤية سياسية ناضجة، وحس وطني إسلامي مستقل، وقرارات ثورية حاسمة، وقد لعب الميرزا محمد رضا، نجل الإمام الشيرازي، دوراً رئيسياً في العمل للحركة الوطنية، وفي توثيق الصلة بين أبيه الإمام الشيرازي وبين قادة الحركة السياسيين (١٤).
وظهرت آثار هذه الإدارة بشكل جلي في أيام الثورة وما بعدها، حيث تشكل مجلس لقيادة الثورة في كربلاء بزعامة الإمام الحائري ضم عدداً كبيراً من علماء الدين، بالإضافة إلى رؤساء العشائر وزعماء المجتمع، لغرض الإعداد للثورة المسلحة وتوجيهها ميدانياً.
وبالفعل لقد أظهرت الشهور الأربعة التي سبقت قيام الثورة، الدور القيادي الحاسم للعلماء في الدعوة والتحضير لها. أما بعد قيام الثورة فقد تمثل هذا الدور في الإشراف العام، الديني والسياسي، على الشؤون العسكرية والسياسية والإدارية، عبر قيادة وتوجيه الهيئات والمؤسسات التي أنشأت إبان الثورة، بشكل مباشر .. (١٥).
ومما يذكر حول نشاطات نجل الإمام الحائري، بالإضافة إلى ما أسلفنا من نشاطه في توثيق العلائق بين أبيه والقادة السياسيين. فقد كان نشيطاً جداّ في فعالياته وتحركاته بين القبائل والمدن لغرض توحيد صفوفها وتنظيم جهودها، للوقوف وقفة رجل واحد ضد سلطات الاحتلال، وكان يعد هو وجهازه الحركي منبع الحركات المناوئة في الفرات الأوسط، ورد ذلك في تقييم السلطات – أيضا (١٦).
أما في إطار العمل السياسي والإعلامي، فقد تكلفت النشاطات السياسية والإعلامية من قبل القيادات الدينية والسياسية، وعلى رأسها نشاطات الإمام الحائري في هذا الاتجاه. فقد مارس ضغوطاً دولية على بريطانيا، فقدم رسالة إلى الوزير المفوض الأمريكي بطهران – سراً – يوضح فيها تعسف سلطات الاحتلال البريطاني في العراق ، وذلك في ١٣ شباط ۱۹۱۹م، ۱۲ جمادى الأولى ۱۳۳۷ هـ مستعيناً في حجته بحق تقرير المصير الذي أعلنه الرئيس الأمريكي (ویلسون).وكانت الرسالة واضحة المطالب، وقد ختمها بتوقيعه وتوقيع الشيخ فتح الله الأصفهاني – الذي يليه في المرتبة القيادية.
ومما ورد فيها؛
.. وبما أنكم كنتم صاحب المبدأ في هذا المشروع، مشروع السعادة والسلام العام، فلابد أن تكونوا الملجأ في رفع الموائع عنه، وحيث وجد مانع قوي يمنع من إظهار رغائب كثير من العراقيين على حقيقتها بالرغم مما أظهرته الدولة البريطانية عن رغبتها في إبداء آرائهم، فرغبة العراقيين جميعهم والرأي السائد، بما أنهم أمة مسلمة أن تكون حرية قانونية واختيار دولة جديدة عربية مستقلة إسلامية، وملك مسلم مقيد بمجلس وطني. وأما الكلام في أمر الحماية فإن رفضها أو الموافقة عليها يعود إلى رأي المجلس الوطني بعد الانتهاء من مؤتمر الصلح.. (١٧)
هذا وقد نشطت الحركة السياسية داخل الأوساط العراقية، فنظمت مضابط توكيل في معظم مناطق العراق بعثت إلى الحكومة الشرقية في الحجاز وسورية، كوسيلة من وسائل المواجهة السياسية، لغرض تمثيل العراق في المؤتمرات الدولية، ومؤتمر الصلح في باريس – بالذات (١٨). وكانت المضابط التوكيلية التي أرسلها الشيخ محمد رضا الشبيبي في أواخر حزيران ۱۹۱۹ (أواخر رمضان ۱۳۳۷ ه)، من العراق إلى الشريف حسين في الحجاز أكثر المضابط التي نظمت في هذا الخصوص أهمية لكثرة الموقعين عليها ولأهميتهم الدينية والسياسية(١٩).
ومما يذكر في المجال الإعلامي، أن مضابط المطالبة بالاستقلال التي نظمت في بغداد بعثت إلى سوريا بغية نشرها في الصحف الأجنبية، وكذلك ليطلع عليها فيصل وأعضاء الحكومة، وكما قدمت نسخ منها إلى القنصليات : الأمريكية والفرنسية والإيرانية في بغداد (٢٠).
وكان الرسالة الإمام الحائري للشريف حسين ، أثرها المميز. حيث أجابه الشريف في ٢٤ ذي الحجة ۱۳۳۷هـ، ١٩ أيلول ۱۹۱۹م برسالة خاصة يتعهد من خلالها ببذل الجهد لتحقيق الأهداف المرجوة، ويطمئنه على ذلك، وقد أرسل المضابط إلى ابنه فيصل الذي كان في باريس لغرض الحضور في مؤتمر الصلح، طالباً منه الدفاع عن حقوق العراقيين . (٢١)
وعلى العموم، فإن هذا التصعيد السياسي والإعلامي للمعارضة العراقية أربك السلطة المحتلة، ودفعها لاعتقال ستة أشخاص من أهالي كربلاء هم أعوان الميرزا محمد رضا نجل الإمام، كأسلوب وقائي، وذلك في ۲ آب ۱۹۱۹ م، ٦ ذي القعدة ۱۳۳۷ ه وتمّ ترحيلهم إلى بغداد بغية تفيهم إلى الهند، وهم: عمر العلوان، وعبد الكريم العواد، وطليفح الحسون و محمد علي أبو الحب والسيد محمد مهدي المولوي والسيد محمد علي الطباطبائي.
وعلى أثرها بعث الإمام رسالة إلى (ویلسون) فيه آب ۱۹۱۹م، ۹ ذي القعدة ۱۳۳۷ ه، يحتج فيها على تسفيرهم ويطلب إخلاء سبيلهم، ودافع عن طريقتهم السلمية في المطالبة بحقوقهم المشروعة.
فأجابه (ویلسون) برسالة مفصلة، يدافع من خلالها عن الأجراء الوقائي، ولكن نزولاً لرغبة الإمام سيتم تسريح السيد الطباطبائي وإرساله إلى سامراء تحت الرقابة العامة، وفي حالة عدم التزامه يتم اعتقاله ونفيه، أما السيد المولوي فسينفي إلى الهند بلده الأصلي، وأما الأربعة من أهالي كربلاء فإنم ينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الإنكليز ويشوشون أذهان الناس(٢٢)
وكان هذا الجواب مؤلماً للإمام الحائري، وعلى أثره استخدم تكتيكاً ذكياً أدى إلى إطلاق سراحهم. حيث أعلن عن عزمه للهجرة إلى إيران وقيادة الجهاد ضد الإنكليز من هناك.
فتوالت عليه الرسائل من العلماء ورؤساء العشائر وأعيان المدن، فتألب الرأي العام ضد اعتقالهم، وضد رسالة (ويلسون) أيضا. ومما جاء في إحدى الرسائل – كمثال -: «..إن حادث كربلاء المقدسة أقام قيامة العلماء وكدر خواطر الفقهاء، أدمي القلوب وأبكي العيون، کیف لا، وأنه اعتداء على مقام الإسلام، وتوهين بمنازل العلماء الأعلام.. یا حجة الإسلام، لم يبلغنا خبر هجرتكم إلا وصممنا على اتباعكم والسير على منهاجكم فلا تطيب لنا بعدكم دار، ولا يكون لكافة أهل العلم قرار، فأمرونا فإننا ممتثلون طوع أمركم، ورهن إشارتكم…(٢٣)
فما وجد (ویلسون) خياراً أمامه سوى استرضاء الإمام الحائري، وتراجعه عن رسالته غير الحكيمة، فأمر بإعادتهم بعد مضي أربعة شهور من إبعادهم، فعادوا إلى کربلاء في ۲ كانون الأول ۱۹۱۹م، فاستقبلوا استقبال الأبطال المجاهدين، كما وأرسل (ویلسون) مبلغاً من المال إلى الإمام عن طريق معتمده محمد حسین خان الكابوني في محاولة استرضائية أخرى، عسى أن تمهد خطوته هذه خطوات أخرى للتقرب والانفتاح ومن ثم التأثير المباشر على الشيخ القائد، ولكن الإمام كان حكيماً وواعياً فصدمه برفضه القاطع(٢٤) وأغلق الطريق عليه تماماً.
وبالمقابل لقد أصبح إطلاق سراح المعتقلين انتصاراً للإمام الحائري، حيث تم ذلك بكفالته، وتؤكد (المس بیل) بان هذا الحادث شجع الناس على المقاومة وحبك الدسائس بدلاً من إيقافها (٢٥) .
وتطورت الأحداث نحو التعبئة العامة ، للوقوف أمام سلطات الاحتلال، فكانت بداية المواجهة السياسية التي تلت تلك التطورات، لغرض تحصين الناس من التأثير بأساليب المحتلين وقطع خطوط الاتصال بها، ففي أوائل آذار ۱۹۲۰م الموافق لأواسط جمادی الثانية ۱۳۳۸ ه، أصدر الإمام الحائري فتوى تحريم العمل الوظيفي في إداريات سلطة الاحتلال البريطاني. وقد انتشرت هذه الفتوى بين الناس كالنار في الهشيم، أدت إلى حملة واسعة من الاستقالات.
إن هذه الخطوة – بحد ذاتها – من الإمام، وما تبعها من الالتزام والطاعة من قبل عموم الناس، وضعت النقاط على الحروف في مسألة الترابط المصيري ما بين القيادة والقواعد الشعبية مروراً بالكادر الإسلامي الوسط.
يقول النفيسي: في مطلع شهر آذار اصدر المجتهد الأكبر في كربلاء فتوی جاء فيها: إن قبول وظيفة حكومية في إدارة البريطانيين ، أمر تحرمه الشريعة الإسلامية، فطغت موجة من الاستقالات في منطقة الفرات الأوسط، والأسفل(٢٦).
فكانت هذه المبادرة القيادية بمثابة بالون اختبار لقدرة الاستجابة لدى الأمة. وبها اكتشف القائد حجم المسؤولية الدينية والوطنية، الملقاة على عاتقه، في قيادة الناس، وهم يستجيبون لفتواه، بترك مصدر رزقهم ومعيشتهم. وعلى ضوء هذه النتيجة بنى القائد انطلاقته في مواكبة الأحداث لغاية الوصول إلى قمتها التي أعلن الإمام فيها فريضة الجهاد ضد العدو المحتل بالمقاومة والثورة. وبالفعل حينما تزداد أواصر الثقة المتبادلة بين القائد والأمة تكون ظروف الإجراءات الثورية الحاسمة أكثر ملائمة.
الهوامش
(1) الوهاب، عبد الرزاق: کربلاء في التاريخ، طبع بغداد ۱۹۳۵، ج۳، ص۲4.
(2) مما جاء في الرسالة: «كان السيد اليزدي تقياً و ورعاً، عالماً علامة محبا للخير والوطن ، عاملاً على تسکین الخواطر، ناصحاً عاملاً، رشيداً حكيماً، حازماً هماماً، محرضاً للناس على التزام جانب السكينة، هاديا لهم إلى طريق الخير والصلاح، ناهيا لهم عن ارتكاب الهفوات والغلطات… هذه اللغة واضحة الدلالة من باب (إياك أعتي واسمعي يا جاره )، للاطلاع على نص الرسالة راجع: الوهاب، عبد الرزاق: المصدر ذاته، ص۵۸-۵۷.
(3) (الكليدار ) هو سادن روضة الإمامين، علي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري (عليهما السلام)، وهما الإمامان العاشر والحادي عشر – من أئمة المسلمين الشيعة – الاثني عشر.
(4) الوهاب، عبد الرزاق: المصدر نفسه، ص ٥٩- ٦٠. يبدو أن مستشاري (ويلسون) كانوا على خطأ كبير في إثارة مراجع الشيعة ضد إخوانهم السنة، وفاتهم أن يدركوا أن إثارة القلاقل والفتن الطائفية هي من صنع العملاء أو الجهلة بتدبير من الاستعمار وهذا الأمر لا يخفى على المسلم الواعي فكيف بالمرجع الديني.
(5) محمد کاظم، عباس: ثورة الخامس عشر من شعبان، مرجع سابق، ص۱۷٦.
(6) البصير ، محمد مهدي: تاريخ القضية العراقية، مصدر سابق، ج۱، ص۱۹۰.
(7) البازركان، علي: الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية، كصدر سابق، ص٧٨.
(8) فياض، المرجع السابق، ص۲۷۳. والملاحظ على الحركات والأحزاب الوطنية والسياسية التي أنشات تلك المرحلة، أنها لم تكن علمانية المنهج، خارجة عن الإطار الإسلامي العام، وإنما واعتمدت الأوساط السياسية العمل الحزبي كأسلوب في العمل من أجل استقلال العراق، وقد جاءت المبادرات اللاحقة على أيدي علماء الدين بالدرجة الأولى ، وعلى أيدي الشخصيات الإسلامية، أو ذات الميول الإسلامية بالدرجة الثانية، حيث تلاحظ أن غالبية الأحزاب كانت تضم قياداتها علماء دين، ووفرت هذه الصفة المشتركة أرضية للالتقاء والتفاهم بين الأحزاب السياسية التي شهدت تنسيقاً جيداً فيما بينها في العمل السياسي المعارض، رغم التفاوت بينها في الحجم والثقل الجماهيري .
شیر ، حسن: تاريخ العراق السياسي المعاصر، مرجع سابق، ج۲، ص۲۰۹. ومما يذكر – مثلا – ان (حزب حرس الاستقلال) الذي أسس في بغداد في شباط ۱۹۱۹ وهو حزب سري معارض لسلطات الاحتلال، ضم في قيادته عدد من علماء الدين والمثقفين الإسلاميين، أمثال السيد محمد الصدر، والشيخ محمد باقر الشبيبي، والشيخ يوسف السويدي وجعفر ابو التمن، وعلى البازرگان وغيرهم. وحينما نطالع عن تلك المرحلة، نجد أن كلمة الوطنية تستعمل ضمن التوجه الإسلامي، فمثلا عندما يتحدث الدكتور فياض عن علاقة حزب حرس الاستقلال بعلماء النجف وكربلاء يقول: «بان الحزب الحرس صلات في المناطق العراقية الأخرى خاصة النجف وكربلاء اللتين كانتا من أهم، إن لم تكونا أهم مراكز الحركة الوطنية في العراق نظرا لوجود علماء الدين ذوي النفوذ الأكبر في نفوس الجمهوره، فیاض، د. عبد الله: المرجع السابق، ص268.
(9) شیر ، حسن: تاريخ العراق السياسي المعاصر، مرجع سابق، ج۲، ص۲۰۹.
(10) الوهاب، عبد الرزاق: کربلاء في التاريخ، ج3، ص۲۵، وكذلك طعمة، سلمان هادي: كربلاء في ثورة العشرين، ص ٤٤ ، ويطلق المؤلف إسم (الحزب الوطني الإسلامي) على هذه الحركة.
(11) للتفاصيل راجع: الوردي، د، علي: المرجع السابق، ج٥ : القسم الأول، الفصل الثامن، بعنوان: نشاة الحركة الوطنية في كربلاء، ص ۱۰۳-۱۱۲.
(12) شبر، حسن: المرجع ذاته ص۲۰۹-۲۱۰. الشيخ عبد الكريم الجزائري، هو عالم جليل، وأديب كبير ، وسياسي مجاهد، ولد في النجف ۱۲۸۹ وتوفي سنة ۱۳۸۲ش، درس على يد كبار المجتهدين أمثال: الآخوند الخراساني والسيد اليزدي وشيخ الشريعة الاصفهاني – شارك في الجهاد ضد الإنكليز سنة ۱۹۱٥م في جبهة القرنة بالجنوب إلى جانب العلامة السيد علي الداماد، وكان من مستشاري الشيخ محمد تقي الشيرازي- قائد ثورة العشرين – ومن رجال الثورة المميزين، كما واصبح المستشار الأول للمرجع الأعلى السيد أبو الحسن الأصفهاني – فيما بعد – للتفاصيل راجع، آل سميسم النجفي، الشيخ محمد حسن: سحر البيان وسمر الجنان – لبنان – بيروت دار البيان العربي، ط١، ١٤١٤ه، ۱۹۹۳م، ص۳٦۸-۳٦۹.
(١٣) فياض، عبد الله: المرجع السابق، ص۲۷۷.
(١٤) الرهيمي، عبد الحليم، مرجع سابق، ص ۲۲3.
(١٥) راجع للتفاصيل، الوردي: د. علي: المرجع السابق، الفصل الثالث عشر (نشاط ابن الشيرازي ونفيه ) ص۱۹۷-۲۱۵، ويورد رسالة من أحد رؤساء الغراف إلى نجل الإمام كدليل على محوريته في الإدارة، ورسائل أخرى صادرة عنه تدل أيضا على أهميته المميزة في دورة القيادي، ولأهمينه قررت سلطة الاحتلال اعتقاله ونفيه.
(16) نص الرسالة، تجدها عند الوردي: المرجع السابق، ص۱۰4-۱۰۵، وسنذكرها في الملاحق.
(17) بعثت هذه المضابط من بغداد وكربلاء والنجف والموصل وبقية مناطق العراق.
(18) فياض، د، عبد الله: المرجع السابق، ص ۲۳۲، ويورد الحسني نص إحدى هذه المضابط ويشير إلى الصعوبات التي اعترضت الشبيبي من طريق الوصول إلى الشريف حسين وخاصة محاولات إلقاء القبض عليه في البصرة، راجع الحسني: الثورة العراقية الكبرى، مرجع سابق، ص۸٤ – ۸۵ وكذلك الوردي في المرجع ذاته، ص ۱۲۲-۱۲۵. تحت عنوان (إيفاد الشبيبي).
(19) البازركان، علي: الوقائع الحقيقة – المصدر السابق – ص۸٦-۸۷.
(20) الوردي، د، علي: المرجع السابق، ص ۱۲۳، نص رسالة الشريف إلى الإمام الحائري تجدها لدى الوهاب: المصدر السابق، ص ۷۵.
(21) نص الرسالة، لدى الحسني ، عبد الرزاق: الثورة العراقية الكبرى، مرجع سابق، ص۹۰-۹۲ وكذلك الوردي، د. علي: المرجع السابق، ص. ۱۰٦-۱۰۸
(22) كانت هذه الرسالة بتوقيع: سعيد كمال الدين، محمد باقر الشبيبي ، محمد الشيخ يوسف، سید حسين كمال الدين، عبد الرضا السوداني، سيد أحمد الصافي، سید سعید جريو، للاطلاع على نص الرسالة راجع: الوهاب: المصدر السابق ج۳، ص۸۵.
(23) الوردي، د. علي: المرجع السابق، ص۱۰۹.
(24) بيل، المس: فصول من تاريخ العراق القريب، مصدر سابق، طبع ۱۹۷۱، ص ٤٤١.
(25) المصدر ذاته، ص ٤٤١، تقول المس بیل في أوائل آذار ۱۹۲۰ قيل إن الميرزا محمد تقي الشيرازي، أصدر فتوى يحرم فيها توظيف المسلمين في الإدارة البريطانية. وان الاستقالات من خدمة الحكومة تزداد يوما بعد يوم..
25 – النفيسي، د. عبدالله: دور الشيعة، ص 133- 134.
المصدر : كتاب” شيعة العراق وبناء الوطن : دراسة تاريخية منذ الدستور حتى الاستقلال 1908 – 1932م – تأليف: محمد جواد مالك.