البراءة العقلية

تطور قاعدة “البراءة العقلية” في مدرسة القرن الرابع عشر الهجري / السيد زهير الأعرجي

الاجتهاد: كان محور أفكار هذه المدرسة هو مناقشة أصل (البراءة العقلية) عند الشكّ في التكليف; فقد اشتهر بين علماء الأُصول تمسّكهم بالدليل العقلي في البراءة عند الشكّ في التكليف، بالإضافة إلى تمسّكهم بالدليل الشرعي فيها; ولعلّ أقدم نصّ عند الشيعة حول هذا الأصل هو كتاب المعارج للمحقّق الحلّي (ت 676 هـ).يقول المحقّق الحلّي (رحمه الله): (لو كان الحكم ثابتاً لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا يطاق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق).

اتسمت مدرسة قرن مدرسة القرن الرابع عشر الهجري التي ترعرعت في النجف الأشرف بالاهتمام بالمباني العلوية لعلم الأُصول، بعد أن بنى الشيخ الأعظم (الأنصاري) رضوان الله عليه صرح المنهج الجديد في عملية الاستنباط ، فلم تكن هناك حاجة لتطوّر نوعي جديد في علم الأُصول، بل كانت هناك حاجة ماسة لإثراء كمي وتفصيلات وكتابة تقريرات علمية وشروح للمباني الأساسية والقواعد المشتركة خصوصاً مباحث الألفاظ والحجج والأدلّة العقلية والشرعية . . .

وهكذا كان، فقد اتسم هذا العصر بكثرة المصنّفين والتصانيف في شتّى مباحث الأُصول، بحيث شكّل هؤلاء الفقهاء الأجلاّء ـ مجتمعين ـ مدرسة جماعية مترابطة ومتضافرة في أبعادها وأركأنها بحيث لم يتميّز فقيه عن بقية فقهاء المدرسة بنسبة عظيمة كما لاحظنا ذلك في القرن الثالث عشر الهجري .

فقهاء القرن الرابع عشر :

ويمكن تصنيف هؤلاء الفقهاء الأُصوليّين تاريخيّاً مع كتبهم الأُصولية على الترتيب التالي :

1 ـ محمود بن جعفر بن الباقر الميثمي المسمّى بالعراقي ( ت 1308 هـ ) من تلاميذ الشيخ الأنصاري، وكتاباه: جوامع الشتات، و قوامع الفضول عن وجوه حقائق أُصول علم الأُصول في 583 صفحة طبعة حجرية .

2 ـ الميرزا حبيب الله الرشتي ( ت 1312 هـ ) وكتابه بدائع الأفكار .

3 ـ ضياء الدين محمّـد حسين بن محمّـد علي الشهرستاني ( ت 1315 هـ ) وكتابه غاية المسؤول في علم الأُصول .

4 ـ الميرزا محمّـد حسن الأشتياني (ت 1319 هـ) وكتابه بحر الفوائد في شرح الفرائد الذي ناقش فيه آراء الشيخ الأنصاري مصنّف (فرائد الأُصول) .

5 ـ محمّـد باقر بن محمّـد علي المازندراني ( ت 1322 هـ ) وكتابه مجمع الأُصول .

6 ـ المولى محمّـد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند (ت 1329 هـ) وكتابه الأُصولي المعروف: كفاية الأُصول، وله تعليقة على الرسائل اسمها حاشية كتاب فرائد الأُصول وهي تعليقة علمية على كتاب فرائد الأُصول للشيخ الأنصاري.

7 ـ الشيخ محمّـد حسين الغروي النائيني (ت 1355 هـ)، وليس له كتاب مؤَلَّف، إلاّ أنّ بحوثه سجّلها بعض تلامذته: كالشيخ محمّـد علي الكاظمي (ت 1365 هـ) في فوائد الأُصول، والسيد أبو القاسم الخوئي ( ت 1413 هـ ) في أجود التقريرات .

8 ـ الشيخ عبد الكريم الحائري ( ت 1355 هـ ) مؤسس الحوزة العلمية في قم ، وكتابه درر الأُصول .

9 ـ السيد محمّـد بن عبد الأمير محمّـد تقي التنكابني ( ت 1359 هـ ) وكتابه إيضاح الفرائد في علم الأُصول .

10 ـ الشيخ ضياء الدين العراقي ( ت 1361 هـ ) وكتابه مقالات الأُصول في مجلّدين ، إضافة إلى أنّ بحوثه كانت قد سُجلّت من قبل تلامذته : الشيخ محمّـد تقي البروجردي ( ت 1391 هـ ) في كتاب نهاية الأفكار ، والميرزا هاشم الآملي في بدائع الأفكار .

11 ـ الشيخ محمّـد حسين الأصفهاني ( ت 1361 هـ ) وكتبه الأُصولية : نهاية الدراية في شرح الكفاية والاجتهاد والتقليد والطلب والإرادة و بحوث في الأُصول .

12 ـ الشيخ محمّـد رضا المظفر ( ت 1384 هـ ) وكتابه المنهجي المدرسي أُصول الفقه .

13 ـ السيّد محسن الحكيم ( ت 1390 هـ ) وكتابه حقائق الأُصول وهو شرح وتعليق على كتاب كفاية الأُصول للآخوند .

14 ـ الميرزا علي الإيرواني (لم نعثر على تاريخ وفاته) وكتابه نهاية النهاية في شرح الكفاية المكتوب سنة 1345 هـ، فيعدّ أحد أركان هذه المدرسة.

تطوّر قاعدة (البراءة العقلية) :

وقد كان محور أفكار تلك المدرسة هو مناقشة أصل (البراءة العقلية) عند الشكّ في التكليف; فقد اشتهر بين علماء الأُصول تمسّكهم بالدليل العقلي في البراءة عند الشكّ في التكليف، بالإضافة إلى تمسّكهم بالدليل الشرعي فيها; ولعلّ أقدم نصّ عند الشيعة حول هذا الأصل هو كتاب المعارج للمحقّق الحلّي ( ت 676 هـ) . . .

يقول المحقّق الحلّي (رحمه الله) : ( لو كان الحكم ثابتاً لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا يطاق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق )(1) .

واستمرّ فهم أصالة (البراءة العقلية) عند الفقهاء على تلك الصورة حتّى عرض الوحيد البهبهاني ( ت 1206 هـ ) فكرة أصالة البراءة ضمن قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ); فقد ذكر الوحيد في كتابه الفوائد الحائرية ما يلي : ( اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه ، والشبهة في موضوع الحكم الأصلي ، فيهما : البراءة ، والمقصود بالأوّل الشبهة الحكمية ، وبالثاني الشبهة الموضوعية . . . فدليل المجتهدين حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن ببيان )(2) ،

ثمّ قام السيّد محمّـد المجاهد ، وهو سبط الوحيد البهبهاني بصياغة استدلالية أخرى للبراءة العقلية ، فقال : ( دليل المعظّم ] أي الوحيد [أنّه إذا لم يكن نصّ لم يكن حكم، فالعقاب قبيح على الله تعالى . . . والصواب أن يجعل الدليل هكذا : إذا لم يصل الحكم لم يمكّن عقاباً ، لقبح التكليف والعقاب حينئذ )(3) .

وذهب المحقّق النائيني ( ت 1355 هـ ) في الاستدلال على القاعدة بالقول : إنَّ ( وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثاً ومحرّكاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجـود علمـي )(4)، وتوضيح هذا التقريب: إنّ البيان ما لم يصل إلى المكلّف لا يكون محركاً له، ووجود البيان الواقعي كعدمه لا يصلح أن يكون سبباً في تحريك المكلّف، كما لا تصلح الأمور التكوينية التي تثير الحركة في الإنسان عادةً لإثارته وتحريكه بوجودها الواقعي ما لم يكن هناك أمر حقيقي يصل المكلّف ليحرك دوافعه في الحركة .

أمّا المحقق الأصفهاني (ت 1361 هـ) فقد رأى بأنّ أحكام العقل العملي تؤول بالنتيجة إلى حسن العدل وقبح الظلم بالضرورة، ومن المعلوم أنّ تمرّد العبد على أوامر المولى ونواهيه إذا أقام عليها الحجّة تعتبر من الظلم والخروج عن طور العبودية، وهو من أقبح الأمور التي يستحقّ عليها العقاب .

أمّا إذا لم تقم عليه الحجّة، ولم يصل بيانه إلى المكلّف من أوامر المولى ونواهيه فلا تعتبر مخالفته من قبل المكلّف من الظلم والخروج عن طور العبودية، فلا يستحقّ بذلك العقاب ولا يصحّ عقابه من قبل المولى، بل يقبح عقابه من جانب المولى الحكيم، لأنّه لم يرتكب ظلماً في علاقته بمولاه لتحسن عقوبته(5) .

وقد آمن السيّد الشهيد السعيد محمّـد باقر الصدر(ت 1400هـ) بنفي البراءة العقلية وشكّك بالقيمة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. قال رضوان الله عليه في دروسه الأُصولية: (ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً، وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة; فكما أن أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي غير مبرهن، كذلك حدوده سعةً وضيقاً، وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ على ما تقدّم في مباحث القطع)(6).

وملخّصه أنّه لا نجوّز لأنفسنا أن نقيس حقّ الطاعة لله سبحانه على عباده بحقّ طاعة الموالي العرفية على من يتولّون أمرهم، لسبب بسيط وهو أنّ مولوية الله تعالى ذاتية ، ومولوية الموالي عرفية مجعولة . . .

ولا يمكننا قياس أحكام المولوية الذاتية في حق الطاعة بالمولوية العرفية ; فإنّ انحصار حقّ الطاعة للمولى على المكلّفين في ما وصلهم من التكاليف يختصّ بالموالي العرفية ، أمّا حقّ طاعة الله تعالى على عباده فلا يمكن قياسه بما سبق .

 

الهوامش

(1)  معارج  الأُصول :  213  .
(2)  الفوائد  الحائرية :  133  قم :  مكتبة  الصدر  .
(3)  مفاتيح  الأُصول  ـ  السيد  محمّـد  المجاهد  الطباطبائي  ـ  :  518  طبعة  حجرية  .
(4)  فوائد  الأُصول  3 / 365  .
(5)  نهاية  الدراية  2 / 190  .
(6)  دروس  في  علم  الأُصول  ـ  القسم  الثاني  من  الحلقة  الثالثة  :  33  ـ  34  .

قسم من مقالة بعنوان: النظرية  الأُصولية . .  نشوؤها  وتطوّرها. (1) مجلة تراثنا العدد 81 و 82  ( رابط المقال)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky