الاجتهاد: تمسّك أكثر الفقهاء المعاصرين بإطلاقات حرمة بيع الوقف بتقدير خرابه، أي إذا لم يخرب تحقيقاً. وحتى في حالة خرابه تحقيقاً يتمسّكون بأن التَّالف من الوقف جزؤه وهو النخل فقط، فلا يجوز بيعه واستبداله؛ لأنَّ جزأه الآخر وهو الأرض لا يزال باقياً، والمستفاد من النصوص التي تجوّز البيع عند التلف هو تلف الكل لا الجزء. بقلم : العلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي
إهتم الإسلام بالوقف إهتماماً كثيراً و له دور وأثر في تغطية جوانب من المتطلبات الاجتماعية في سدِّ النقوص الاقتصادية ودفع التنمية الاقتصادية، والمتطلّبات الدينية في العمل على استمرارية الفكر الإسلامي، واستمرارية مسيرة الأمة الإسلامية
فقد جاء في المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (إذا مات المؤمن [ابن آدم] انقطع عمله إلا من ثلاثة: ولد صالح يدعو له وعلم ينتفع به وصدقة جارية)(1).
وجاء عن حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له(2).
وبمضمونه أحاديث أخرى ذكرت في موسوعة الوسائل (كتاب الوقوف والصدقات).
وندرك أهمّية الوقوفات في دفع عملية التنمية الاجتماعية اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، من دور الموقوفات التي أوقفت في هذا المجال على مختلف مديات التاريخ الإسلامي منها: الربط للفقراء والمساكين والجنود المسلمين، ومنها المنازل والمياه في طرق الحج البرّية، ومنها الخدمات في المدن والقرى، ومنها القناطر والمعابر على الأنهار والجداول، ومنها المدارس العلمية والبيمارستانات(3) العامة والخصوصية والمساجد للصلاة والتعليم والاجتماعات العامة، ومنها الأرياف والقرى الزراعية.
جاء في ترجمة الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي المتوفى سنة 436ﻫ (وكان وَقَفَ قرية على كاغد(4) الفقهاء)، (أعيان الشيعة 8/214، ط دار التعارف، 1406هـ).
تمسّك أكثر الفقهاء المعاصرين بإطلاقات حرمة بيع الوقف بتقدير خرابه، أي إذا لم يخرب تحقيقاً. وحتى في حالة خرابه تحقيقاً يتمسّكون بأن التَّالف من الوقف جزؤه وهو النخل فقط، فلا يجوز بيعه واستبداله؛ لأنَّ جزأه الآخر وهو الأرض لا يزال باقياً، والمستفاد من النصوص التي تجوّز البيع عند التلف هو تلف الكل لا الجزء.
وقد يجوّز بعضهم البيع استناداً إلى أنّ المقصود من الوقف الانتفاع بريعه، والانتفاع هنا مفقود فمقتضى القاعدة الشرعية جواز بيعه وإبدال آخر به.
إلاّ أنّ الفقيه الذي يفتي بهذا يقيّد أن يكون البدل من جنس المبدل منه؛ أي تباع المزرعة ويشتري بثمنها مزرعة أخرى.
ووفق هذه الفتوى تبقي المشكلة قائمة؛ لأن المزرعة الأخرى حاصلها أيضاً لا يغطّي قيمة ما يصرف عليها بسبب هبوط سعر التمر؛ لأنه لم يعدّ غذاءً أساسياً في معيشة الناس الراهنة، ولا يتوقّع أن يعود.
ويُستثنى من هذا بعض المزارع الموقوفة التي هي عامرة جيداً إذا اتفق أن اشترت الحكومة غلتها، فإنَّها والحالة هذه قد تسدد قيمة المصروف، وقد يكون ذلك مع الربح أيضاً.
إعادة النظر في حرمة بيع الوقف
ومن هنا لا بدّ من إعادة النظر في المسألة، وخصوصاً أنَّها من المسائل المعقّدة التي طال الحديث فيها وحولها، واختلفت كلمات الفقهاء فيها اختلافاً كبيراً استعرضه الشيخ النجفي في (الجواهر) ضمن كتاب البيع بذكر فتاوى الفقهاء المتقدّمين عليه زمناً معلقاً عليها بقوله:
(هذا مجموع ما وقفنا عليه من عبارات الأصحاب أو حكيت لنا، وقد تبيّن منها أنهم ما بين مانع من بيع الوقف مطلقاً، ومجوّز له في الجُملة، ومتوقف عن الحكم كالفاضلين والشهيد في النافع وظاهر التحرير واللمعة، وأن الأكثر على جواز البيع في الجملة، ولكن كلامهم في تعيين محل الجواز والسبب المجوّز على ما ترى من الاختلاف الشديد الذي قلّما اتفق مثله في شيء من المسائل)(5).
وأيضاً؛ لأنَّ الروايات الواردة في المسألة غير ظاهرة الدلالة فضلاً عن الصراحة أو النصوصية، ويدلّ على هذا اختلافهم في تأويلها لاستفادة المقصود منها.
ولعل لهذا اختلفت كلماتهم في المسألة ارتباطاً في فهمهم لمعنى تلف أو خراب الوقف، هل يعني انعدام العين أو عدم الانتفاع بها مع بقائها، ثم عدم الانتفاع بها مع بقائها وصلاحيتها للإنتاج أو عدم صلاحيتها لذلك، أو عدم الإنتاج الذي لا يرتفع إلى مستوى الاستفادة المطلوبة منه…إلخ.
فالمسألة في واقعها ترتبط بالمقصد الشرعي أو الغرض من تشريع الوقف وهو الانتفاع به، ومستوى الانتفاع الذي يحقق الغاية من الوقف.
وإلى هنا حيث إنَّ النصوص الشرعية في الباب لا دلالة واضحة فيها على ذلك يرجع في تحديد مستوى الانتفاع إلى العرف.
والعرف عندنا يرى أن مثل هذه الوقوف لا ينتفع بها ولا تحقق الغاية من الوقف إلاّ ببيعها وشراء ما يساوي أو يزيد على منفعتها من العقار الآخر.
وما يلقي الضوء على ذلك ما ذكره صاحب الجواهر من أنّ غير واحد من الأعلام جوّز أصل البيع عند خراب الوقف أو خشية خرابه أمثال: الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والسيد ابن زهرة، والعلامة الحلي.
قال في (الجواهر 22/363 ط7 – سنة 1981م): (وقال ابن زهرة:(يجوز عندنا بيع الوقف للموقوف عليه إذا صار لا يجدي نفعاً وخيف خرابه، أو كانت بأربابه حاجة شديدة ودعتهم الضرورة إلى بيعه، بدليل إجماع الطائفة، ولأن غرض الواقف انتفاع الموقوف عليه، فإذا لم تبقَ له منفعة إلاّ من الوجه الذي ذكرناه جاز)…
وفي التحرير، في كتاب البيع: لا يجوز بيع الوقف ما دام عامراً، ولو أدّى بقاؤه إلى خرابه جاز بيعه،…).
وفي ص 364: (وجوّز المفيد بيعه إذا كان أنفع من بقائه). وفي ص 365: (وقال الصيمري في غاية المرام، في كتاب البيع: أجاز المفيد والسيد بيعه إذا كان أنفع لأرباب الوقف، والمصنّف اشترط في الجواز حصول الخراب مع إبقائه، واختاره العلامة الحلي وأبو العباس، وهو المعتمد).
وما ذهب إليه السيد الخوئي (قده) في (المسائل المنتخبة، ط24، ص257 مسألة 659)، من تجويزه بيع الوقف ونقله إلى وقف آخر عند سقوط الانتفاع به، وكذلك عند كونه في معرض سقوط الانتفاع به، قال: (لا يجوز بيع الوقف إلاّ إذا خرب بحيث سقط عن الانتفاع به في جهة الوقف، أو كان في معرض السقوط وذلك كحصير المسجد إذا خلق وتمزع بحيث لا يمكن الصلاة عليه، وحينئذٍ لم يكن مانع من بيعه، ولكنه لا بد أن يصرف ثمنه في ما يكون أقرب إلى مقصود الواقف من شؤون ذلك المسجد مع الإمكان).
ومثله السيد الخميني (قده) فقد قال في (زبدة الأحكام، ص 179): (الأوقاف الخاصة كالوقف على الأولاد، والأوقاف العامة التي كانت على العناوين العامة كالفقراء لا يجوز بيعها ونقلها بأحد النواقل إلا لعروض بعض العوارض، وهي أمور:
أحدها: فيما إذا أخربت بحيث لا يمكن إعادتها إلى حالها الأولى ولا الانتفاع بها إلاّ ببيعها والانتفاع بثمنها، والأحوط لو لم يكن الأقوى مراعاة الأقرب فالأقرب إلى العين الموقوفة فيما يشتري بثمنها.
الثاني: أن يسقط بسبب الخراب أو غيره عن الانتفاع المعتد به بحيث كان الانتفاع كالعدم ولا يرجى العود، ولكن كان بحيث لو بيع أمكن أن يشتري بثمنه ملك آخر يساوي الحالة الأولى.
الثالث: فيما إذا اشترط الواقف في وقفه أن بياع عند حدوث أمر أو وقوع الخلاف بين أربابه أو حصول ضرورة أو حاجة فلا مانع من بيعه عند حدوث ذلك الأمر على الأقوى.
الرابع: فيما إذا وقع بين أرباب الوقف اختلاف شديد لا يؤمن معه من تلف الأموال والنفوس، ولا ينحسم ذلك إلاّ ببيعه، فيباع ويقسّم ثمنه بينهم).
واقع الأوقاف والسّير على الخطّ الماضي
إنّ واقع الأوقاف الآن يضعنا أمام مسؤولية مهمة تتمثل في أن الأوقاف الراهنة لا تزال تسير على خط الوقف الماضي، فهي تهتم بالجانب الاقتصادي بسد حاجات المعوزين من المسلمين، وبالجانب الثقافي تهتم بتوفير الاحتياجات المالية، ومباني السكنى لطلبة العلوم الدينية.
وهذا يعني أنها لم تتطوّر لتكون بمستوى متطلبات العصر بواقعه الذي توسّع كثيراً وكثيراً في جانب البحث العلمي، وإعداد العديد من العلماء في الكيمياء والفيزياء والرياضيات وأمثالها مما ينهض بمستوى التصنيع والتكنولوجيا.
والخطوة الأولى الرائدة في ما نشهده من بدايات النهضة الصناعية والثقافية في كل من إيران وباكستان وماليزيا واندونيسيا ومصر يفرض علينا أن نواكب هذا التطور، ونكون معه في مسيرته التي تهدف إلى الوصول بمستوى هذه الدول لأن تكون في مصاف الدول الكبرى ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً.
ومن هنا يأتي دور تطوير الوقف الإسلامي ليكون مع المسيرة ويشارك في رفع المستوى وذلك بالتالي:
1- أن يتوجّه رجال المال المسلمون إلى إنشاء مؤسسات كبرى للبحث العلمي على غرار مؤسسة روكفلّرRochefeller Foundation) ) للتقدّم الصّحي والعلمي التي أنشأها رجل المال الأمريكي جون روكفلر (1839-1937) في نيويورك عام 1913م بهبة 250 مليون دولار، يساعده في ذلك ابنه جون ديفيسون روكفلر (1874-1960)، والتي حدد هدفها بالعمل على رفع مستوى الجنس البشري في أرجاء العالم كله، وذلك عن طريق تشجيع البحث العلمي والإسهام في القضاء على الجوع ورفع مستوى الصحة العامة.
وقد أسهمت المؤسسة إسهاماً فاعلاً في مياديين الصحة العامة والبحوث الطبّية والعلوم الطبيعية والاجتماعية، وهي بالإضافة إلى تشغيلها عدداً كبيراً من الباحثين تقدّم منحاً مالية لآلاف الطّلاب.
2- وإلى تأسيس الجامعات والمعاهد العلمية لإعداد علماء في مختلف مجالات التخصص التي تساعد على رفع المستوى الثقافي والاقتصادي والعسكري. ويعدّ روكفلّر مثالاً لذلك بإنشائه لجامعة شيكاغو، ومثال آخر: معهد كرينجي التكنولوجي الذي أسس في مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا وافتتح عام 1905م بمنحة كبيرة من اندرو كرينجي.
3- وإلى إقامة مؤسسات إعلامية وثقافية من دوريات وإذاعات مسموعة ومرئية لنشر الفكر الإسلامي وتغطية الأحداث والقضايا الإسلامية، ولتقوم بدور التثقيف والتربية عن طريق البرامج العلمية والتعليمية.
4- وإلى إنشاء مراكز الحاسب الآلي (كومبيوتر) لندخل عالم المعلومات ونحن بمستوى متطلباته ومقتضياته.
من هنا أرجو من المؤسسات الإسلامية الموجودة حالياً القيام بدعوة رجال الأموال إلى المساهمة في مثل هذه المجالات.
والله تعالى ولي التوفيق، وهو الغاية.
مقطتف من ورقة بحثية للعلامة الفضلي رحمه الله بعنوان: أهمية الأوقاف الإسلامية لعالم اليوم وعقدت في لندن سنة 1417هـ/1996م.
الهوامش:
(*) ورقة بحثيّة قدّمها العلامة الفضلي للندوة التي أقامها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية التابع لمؤسسة آل البيت بالأردن ومؤسسة الإمام الخوئي الخيرية، والتي كانت تحت عنوان: أهمية الأوقاف الإسلامية لعالم اليوم وعقدت في لندن سنة 1417هـ/1996م.
وقد نُشرت في مجلّة الكلمة، العدد 13، السنة الثالثة، خريف 1417ﻫ/1996م.
(1) حسين البروجردي، جامع أحاديث الشيعة 14: 28، المطبعة العلمية، قم، 1399ﻫ.
(2) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 19: 171، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ط2، 1414ﻫ
(3) بيمارستان، كلمة فارسية تعني (المشفى).
(4) مأخوذة من الكلمة الفارسية (كاغذ) والتي تعني (ورقة).
(5) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 22: 366، دار الكتب الإسلامية، ط4، 1373ﻫ.ش