خاص الاجتهاد: المنهج الدراسي في حوزة كربلاء: يعتمد كل أستاذ في البحث الخارج على نص إحدى الكتب الأصولية أو الفقهية المعروفة. ففي الفقه يعتمد عادة على العروة الوثقى لليزدي، أو الشرائع للمحقق الحلي، أو التبصرة للعلامة الحلي، أو المكاسب للأنصاري، أو الكتب الفقهية للهمداني. وأما في الأصول فغالباً ما يعتمد على متن كفاية الأُصول للآخوند الخراساني، أو رسائل الأنصاري، أو القوانين.
يتطرق المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتابه ” أضواء على مدينة الحسين “ع” الحركة العلمية ؛ الجزء الأول” إلى المنهج الدراسي في حوزة كربلاء ويسلط الضوء على المرحلة الثالثة من مراحل الدروس الحوزوية وهي مرحلة البحث الخارج بين الفترة التي عايشها ما بين سنة ۱۳۷۰ – ۱۳۹۰هـ (۱۹۵۰-۱۹۷۰م).
ويقول الشيخ الكرباسي: وتسمى المرحلة الثالثة بالخارج لأن البحث الاستدلالي یکون من خارج الكتاب إذ يعتمد على طريقة المحاضرة والمناقشة مع طلابه، فيطرح الأستاذ مسألة ويبيّن مبانيها وجزئياتها ثم يستعرض الآراء والنظريات فيها ويقدّم أدلة الأطراف ومناقضاتها، ويحاول نسف كل الأدلة لصالح نظريته، وعندها يحق للطالب أن يُفنّد رأي أستاذه أو أيّ رأي آخر طرحه الاستاذ ويناقشه في ذلك بروح علمية عالية، وله كامل الحرية في المناقشة إن لم تخرج عن الموضوع، ولذلك قد يطول بحث ومناقشة مسألة جزئية عدّة أيام لاختلاف الآراء وتعدد الأشخاص.
وهنا لابد من القول بأن الأستاذ في هذه المرحلة لا بد وأن یکون مجتهداً بارعاً صاحب رأي في المسألة التي يطرحها على تلامذته، وغالباً ما يكون تحت منبره عدد من المجتهدين وآخرون مَن هم على عتبة الاجتهاد.
وبالنسبة إلى النص فيعتمد كل أستاذ إحدى الكتب الأصولية أو الفقهية المعروفة.
ففي الفقه يعتمد عادة (۱) على العروة الوثقى لليزدي، أو الشرائع للمحقق الحلي، أو التبصرة للعلامة الحلي، أو المكاسب للأنصاري، أو الكتب الفقهية للهمداني(۲).
وأما في الأصول فغالباً ما يعتمد على متن كفاية الأُصول للآخوند الخراساني، أو رسائل الأنصاري، أو القوانين.
ومن الجدير بالذكر أن الدراسة في كل هذه المراحل الثلاث حرّة، ويمكن بيانها بإيجاز في النقاط التالية:
١- حرية اختيار المادة: فبإمكان الطالب الاستغناء عن بعض المواد وللمثال يمكنه أن يستغني عن الفلسفة ويقتصر على الفقه والأصول.
۲- حرية اختيار النص: فبإمكان الطالب أن يختار کتاباً في المادة التي يتعلمها مثلاً يمكنه الاستغناء عن التبصرة كلياً أو استبداله بكتاب آخر في المادة نفسها.
٣- حرية اختيار الأستاذ: فمن حق الطالب أن يختار من ينسجم معه من الأساتذة من الناحية النفسية والبيانية، بل بامكانه الاتفاق مع الأستاذ ليخصص له درساً بانفراده.
۴- حرية الوقت: إذ بإمكان الطالب أن يختار الوقت المناسب للدراسة وذلك بالاتفاق مع الأستاذ فعندها لا يتقيد بالدروس الصباحية بل له أن يدرس مساءً أو ليلاً، والمجدّون في الدراسة كانوا يبدأون قبل الفجر ولا ينتهون الا بعد وقت العشاء.
۵- حرية الفترة الدراسية: وذلك لأن الطلبة يختلفون في قدراتهم الاستيعابية، إذ بإمكان الطالب أن يحضر أكثر عدد ممكن من الدروس وإنهاء المرحلة الأولى أو الثانية بأقل فترة حسب قدرته ومثابرته على الدراسة واستيعابه، إذ بامكانه مثلاً أن ينهي المرحلتين في ثلاث سنوات كما بإمكانه أن ينهيهما خلال ست سنوات.
۶- حرية اللغة: الدروس في العادة باللغة العربية إلا أن بإمكان الطالب أن يفتش على استاذ يتقن لغته فيدرسه بلغته، وبطبيعة الحال تبقى النصوص في غالبها محررة باللغة العربية ولكن شرحها يكون باللغة التي يستسيغها.
۷- حرية الاستمرار وعدمه: حيث بإمكان الطالب أن يكتفي بالمرحلة الأولى ومن ثم يكوّن لنفسه المعلومات الأولية ويمارسها تدريساً للبدائيين أو غير ذلك من الأمور التي لا تحتاج إلى أكثر من ذلك كما يفعل معظم الخطباء أو المبلغين، كما يمكنه الاقتصار على المرحلة الثانية وله أن يكمل المرحلة الثالثة ويستمر إلى ما يشاء في تمحيص المسائل الفقهية والأصولية.
۸- حرية الخضوع للامتحان وعدمه: فبإمكان الطالب أن يشترك في الامتحان الفصلي وعندها يحصل على الشهادة العلمية والجائزة المادية معاً.
وهنا لابد من التطرق إلى أنّ هذه الامتحانات، وإنْ كانت من ميزة الحوزة العلمية في كربلاء انذاك دون أخواتها، وذلك أن هناك لجنة للامتحان مؤلفة من كبار العلماء(3) تُجري الامتحانات الفصلية لمدة عشرة أيام على رأس كل ثلاثة أشهر لاختبار القدرة العلمية للطالب، وله الحرية في اختيار المواد ومقدارها وإذا ما فاز في الامتحان يُزوّد بالشهادة كما ويمنح جائزة نقدية رمزية.
ومن الجدير بالذكر أن الذي يتخرّج من حلقات درس الخارج له الحق أن يطالب أستاذه بتزويده بشهادة الاجتهاد إلا أنّ الأستاذ يجري له مناقشة علمية بالإضافة إلى مراقبته لدى المناقشات العامة في الدروس ليستجوبه بشكل صحيح ليتمكن من منحه شهادة الاجتهاد.
هذا وكانت هناك دورات اختصاصية لتخريج الخطباء والمبلّغين وكذا الأساتذة والمدرسين والأدباء المؤلفين إلى جانب ذلك دروس الخارج التي تؤهل العلماء للاجتهاد.
ولا يخفى أنّ في تلك الفترة التي عايشناها كان العديد من حلقات درس الخارج قائمةً وربما كان أبرزها عشر حلقات في علمي الأصول والفقه.
وهنا لابد من الاشارة إلى العطل الرسمية والتي هي على ثلاثة أقسام :
١- أسبوعية وهي يوما الخميس والجمعة.
۲- فصلية وهي شهرا رمضان ومحرم.
۳- عُطل المناسبات، وهي أيام ولادة ووفاة المعصومین عليهم السلام،والأعياد الإسلامية كعيد الأضحى والفطر والغدير ويوم المبعث.
وهنا لابد من الاشارة إلى ميزة هذه المعاهد الدينية على غيرها بالإضافة إلى ما ذكرناه(4):
١- يتقيد الطالب بمطالعة نص الدرس قبل تلقيه من الأستاذ، مما يتيح له فرصة التفتق الفكري والعلمي أولاً والاستيعاب لما يلقيه الأستاذ ثانياً.
۲- يتقيد الطالب بمباحثة الدرس بعده مع زملائه لتتركز عنده المعلومات التي تلقاها من أستاذه بالإضافة إلى ممارسة أسلوب المناقشة العلمية.
٣- يسمح للطالب أن يدرس ما تلقاه من أستاذه بفترة قصيرة لمن دونه في المستوى ولو بشكل جزئي مما يعطيه فرصةً لظهور شخصيته العلمية.
٤- الحث على كتابة تقرير الأبحاث والدروس التي تلقاها من أستاذه مما ينمّي فيه روح التأليف والاختزال والتوسع في الكتابة.
ولا يخفى أن طلاب المرحلة الثالثة يعقدون جلسة مناقشة جماعية تعرف عندهم بالبحث الكمپاني(5) وفيها يطرح أحدهم المسألة ويناقش من قبل سائر زملائه ومثل هذه المناقشة يخلق للباحث جواً من البروز العلمي مما يؤهله للمناظرة والدقة في انتقاء الأدلة.
ولكن هناك بعض النواقص في المنهج الدراسي في حوزة كربلاء القديم لا بد من أن تتغير أولاً، واستخدام الوسائل الحديثة للإفهام والتفهيم والأسلوب، والعمل على الاختصاص، وهذا بالفعل ما كنا نسعى إليه ومع الأسف حالت الأمور السياسية والأمنية دون ذلك.
الهوامش
(۱) الحديث عن الفترة التي عايشتها.
(۲) المراد بالكتب الفقهية : كتاب الطهارة و كتاب الصلاة وكتاب الزكاة من كتاب مصباح الفقيه للشيخ رضا بن هادي الهمداني المتوفى سنة ۱۳۲۲هـ (۱۹۰۴م).
(۳)في الفترة التي كنت أخضع فيها للامتحانات كانت لجنة الامتحان مؤلفةً من الأعلام التالية أسماؤهم: ۱- الشيخ محمد رضا الإصفهاني ۲- الشيخ يوسف الخراساني، ٣- الشيخ محمد الكرباسي ۴- الشيخ جعفر الرشتي 5- السيد محمد الشيرازي، وكانوا كلهم مجتهدون باستثناء الرشتي والذي كان مجتهداً في الصرف والنحو والبلاغة إن صح هذا التعبير عنه، وهي بإدارة الشيخ الكرباسي.
(۴) ورغم أن الأسلوب الدراسي کان حضارياً إلا أن المواد والنصوص لم تواكب تطور المجتمع وحاجاته، وكنت ممن يطالب بهذا التطور والتغيير لا في هذه الحوزة فحسب بل في كل الحوزات العلمية، وقد تعالت أمثال هذه النداءات وكنت قد تحدثت مع المسؤولين والقائمين على هذه الحوزة والذي منهم والدي قدس الله روحه الزكية) وأتذكر جيداً عندما أجابني – حين عرضت عليه الفكرة – بالتأیید ولكن بصيغة المزح “ليت جرجي زيدان يكتب لنا النصوص الدراسية”،
عندها عرفت بأن التغيير بات أمراً مجمعاً عليه، فسعيت مع إخواني بهذا الاتجاه وفي تلك الفترات صدرت بعض المؤلفات في كربلاء والنجف لهذه الغاية، وأُلّفت أخرى ولكنها لم تر النور لأسباب أمنية سنأتي على ذكرها، ولأجل ذلك قمت بإرشاد من والدي ورعايته بالتحدث مع عدد من أصدقائه من أصحاب الخير والثراء لبناء صرح يناسب المنهاج الحديث،
وبالفعل فقد واعدونا خيراً، وما إن قمت مع عدد من الإخوة بتأسيس لجان مختلفة منها للتأليف وأخرى لوضع المناهج إلى غيرها من اللجان إلا وتردّت الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق بشكل عام وفي هذه المدينة بشكل خاص، وأخذت السلطات تلاحق رجال العلم والفكر ما أدى إلى إفشال المشروع وأصبحت ملاحقاً أبحث عن طريق للخروج من مسقط رأسي فهاجرت منه إلى إيران،
ومع الأسف فلم أتمكن من الاستقرار في ايران بسبب النظام الجائر الآخر هناك، فبدأت الملاحقات إلى أن تركتها لأستقر في لبنان، وجاءت أحداث لبنان لتتزامن مع ازدياد العنف في العراق وتهجير من بقي من طلاب العلوم الإسلامية إلى شتى أنحاء العالم ومنها إلى الشام فأصبح أتردد ما بين بيروت ودمشق، وتعاونت مع المرحوم السيد حسن الشيرازي، ثم لما اغتيل تولّيت أمر الحوزة العلمية هناك بشكل كامل، وعندها تصورت أن الأمور ستكون أفضل من العراق فبدأت أسعى لتطبيق الفكرة من جدید ومهّدت الأمر لذلك،
وغيّرت أُسس الحوزة و منهاجها الدراسي، واتصلت بالمسؤولين في كل من وزارة الداخلية والأوقاف والتربية بغرض رفع قانون التجنيد عن الطلبة السوريين أو معادلة شهادة الحوزوية بالشهادات الجامعية، وبالفعل توصلت مبدئياً إلى ذلك، وأخذت أمهّد الأمور في الحوزة ووضعت نظاماً حضارياً وطبقته بشكل تدريجي بمعاونة الأساتذة والأصدقاء رغم الصعوبات المتتالية، ولكن حالت دون ذلك الأوضاع الأمنية والسياسية في لبنان ومحاولة اغتيالي، وبدأت الضغوطات السياسية وغيرها تنهال عليّ مما اضطرتني إلى المغادرة إلى لندن وبذلك تلاشت الآمال، ولا نعلم أبَعْدَ الهجرة الخامسة هجرة أم هجرات، ولله الحمد على كل حال.
(5) كلمة كمپاني مأخوذة من الانكليزية وتعني الشركة، وقد تسربت إلى هذه المجتمعات بعد الاحتلال البريطاني إلى تلك البلدان وتسمية الشركات التجارية بهذا الإسم الاجنبي.
المصدر: كتاب ” أضواء على مدينة الحسين “ع” الحركة العلمية ؛ الجزء الأول” ضمن سلسلة دائرة المعارف الحسينية . تأليف المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي
المنهج الدراسي في حوزة كربلاء