كان الغرض من إنشاء جامع الأزهر الدعوة إلى المذهب الشيعى وتدريسه، ثم لم يلبث أن أصبح جامعة، وفق صورتها القديمة، يتلقى فيها طلاب العلم مختلف العلوم الدينية والدنيوية البسيطة، لا سيما بعد أن تحول سنة 387 هـ إلى معهد علمى فى عهد الخليفة الفاطمى العزيز بالله، لكن كان ما يقدم من علوم دنيوية لا يخضع لمساق أو منهج علمى رصين.
الاجتهاد: مر الأزهر طيلة التاريخ الحديث والمعاصر بمحاولات عدة لإصلاح أوضاعه وتحديث بنيته، سواء كانت إدارية تتعلق بهيكله ووضعه المالى أو التشريعات التى تحكم حركته، أم كانت تتعلق برؤيته الدينية ومناهجه التعليمية.
ولا تنشغل هذه الورقة بمسألة الإصلاح الإدارى والمالى، إنما ينصب اهتمامها على ما جرى من محاولات النهوض بالدور التعليمى والدينى للأزهر، بل إن هذا هو محل الاهتمام حاليا، ليس فى مصر وحدها، ولا فى العالم الإسلامى فحسب، بل فى العالم أجمع، مع تصاعد الأخطار التى تسببه الأفكار التكفيرية التى تؤدى إلى إرهاب يهدد الجميع.
أ ـ جامع له دور تعليمى
بدأ الدور التعليمى للأزهر بجلوس قاضى القضاة أبو الحسن بن النعمان المغربى سنة 365 هـ ـ 975م فى أول حلقة تعليمية بالجامع لأزهر تحدث فيها عن «فقه آل البيت»، وبعدها تتابعت حلقات العلم، ليحدث تطور كبير فى تاريخ هذا المسجد الذى وضع جوهر الصقلى حجر أساسه بأمر من المعز لدين الله، فى 14 من شهر رمضان سنة 359 هـ ـ 971م وافتتح للصلاة لأول مرة فى 7 من رمضان سنة 361 هـ، وهو يستمد اسمه من السيدة فاطمة الزهراء، رضى الله عنها، والتى ينتسب إليها الفاطميون.
كان الغرض من إنشاء هذا الجامع الدعوة إلى المذهب الشيعى وتدريسه، ثم لم يلبث أن أصبح جامعة، وفق صورتها القديمة، يتلقى فيها طلاب العلم مختلف العلوم الدينية والدنيوية البسيطة، لا سيما بعد أن تحول سنة 387 هـ إلى معهد علمى فى عهد الخليفة الفاطمى العزيز بالله، لكن كان ما يقدم من علوم دنيوية لا يخضع لمساق أو منهج علمى رصين.
وكانت حلقات العلم هى طريقة وأساس الدراسة بالأزهر، حيث يجلس الأستاذ ليقرأ درسه أمام طلاب علم يتحلقون حوله، كذلك يجلس الفقهاء فى المكان المخصص لهم من أروقة الجامع. وكانوا فى الغالب يجلسون تحت الأعمدة، فيسمى الواحد منهم «شيخ عامود»، وحتى يحوز هذه المكانة، فلا بد له من أن يجاز من أساتذة من الشيوخ، وبعدها يتم استئذان الخليفة الفاطمى. وتنوعت حلقات الدراسة بين الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، وغيرها.
ورغم تعطل إقامة الخطبة فى الجامع الأزهر حوالى مئة عام بعد سقوط الدولة الفاطمية فى مصر، فإن دروس العلم فى الأزهر لم تنقطع تماما، حتى أعاد السلطان المملوكى الظاهر بيبرس الخطبة إليه، ليسترد الأزهر بعدها مكانته كمعهد علمى، ذاع صيته فى كل أنحاء العالم الإسلامى، لا سيما بعد أن تم تزويد مكتبته بأهم الكتب فى الفقه واللغة وعلوم أخرى، لتصبح واحدة من أكبر مكتبات العالم فى ذلك الوقت.
ولم يقتصر التدريس فى الأزهر أيامها على علوم الدين، بل امتد إلى الفلك، والحساب، والطب، والعمارة، والجيولوجيا، والتاريخ، وبعض العلوم الاجتماعية، وغيرها. ومن أشهر العلماء الذين ارتبطت أسماؤهم بالأزهر: ابن خلدون، وابن حجر العسقلانى، والسخاوى، وابن تغرى بردى الأتابكى، والقلقشندى.
وعاد الأزهر فى عهد العثمانيين إلى العلوم الدينية فقط، بل صار هو المكان الوحيد الذى يقدم تعليما للناس وقتها، وبالتالى يُخرِّج معلمين وموظفين للدولة، لا سيما بعد أن تحسنت أوضاعه المالية بعد أن أوقفت له أوقافا عديدة، إلى جانب دوره فى الدفاع عن حقوق الناس أحيانا فى مواجهة الظلم والعسف، والذى بلغ ذروته بقيادة شيوخ أزهريين انتفاضات المصريين ضد الاحتلال الفرنسى، ومن بعدها خلع الوالى العثمانى خورشيد باشا وتعيين محمد على بدلا منه، والذى بدوره لم يجد أمامه بالطبع سوى خريجى الأزهر ليكونوا نواة لمختلف المعاهد الحديثة التى أنشأها، ويكونوا هم المبتعثين، لتلقى العلوم الجديدة فى أوروبا.
وفى نظر من يريدون للأزهر أن يكون جامعا وجامعة فإن أول محاولة حقيقية لإصلاح التعليم الأزهرى أكثر من ثمانية قرون، إذ تمت أيام تولى محمد العروسى المشيخة، خلال الفترة المتراوحة بين 1818 و1829، حيث سعى إلى إدخال علوم الطب والكيمياء والطبيعة، فى تطورها الأخير، لتشكل جزءا من المناهج التعليمية للأزهر، لكن سعيه خاب، نظرا لعدم اقتناع القائمين على الأمر وقتها بأن الأزهر يمكنه أن ينتج تعليما وعلما خارج الدين. ولما جاء من يقتنع بالفكرة مات العروسى فدفنت معه مؤقتا.
وقد انتعش الدور التعليمى للأزهر فى العصرين المملوكى والعثمانى، بعد طول إهمال فى عهد الأيوبيين لحساب مدارس اختصت بتدريس فقه المذهب السنى، لكن هذا الانتعاش كان بمثابة «توسع أفقى» فى هذا الدور، إذ زيد فى عدد المدارس الدينية بعد تجديد بناء الأزهر وتوسيع مساحته، فزاد معها عدد الطلاب الملتحقين به، وعدد المدرسين الذين يعقدون حلقات العلم الدينى فيه.
لكن ظل الأمر مقصورا فى أغلب الأحوال على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتوحيد ومنطق وعلم كلام، إلى جانب مبادئ فى علم الفلك والرياضيات والآداب. ولم يكن مستغربا فى ذلك الزمان، حيث كان علماء الدين والفقهاء يعنون بأمور الطب والفلسفة والفلك والحساب وغيرها، قبل أن تتشعب العلوم على المستوى المعروف فى أيامنا.
ولم يكن الطلاب مقيدين بالانتظام فى حضور دروس العلم، ولم تكن هناك لوائح تنظم سير العملية التعليمية، وتحدد مناهج الدراسة ومدتها وأعضاء هيئة التدريس. بل كان الطلاب أنفسهم يتحكمون فى تعيين مدرسيهم، من خلال الإقبال على حلقاتهم من عدمه. فمن يداوم الطلاب على حضور دروسه، وتتسع حلقته العلمية، يُجِز شيخ الأزهر صلاحيته للتدريس، والعكس صحيح.
ووضع الشيخ حسن العطار، الذى تولى مشيخة الأزهر فى الفترة من 1830 و1834، لبنة جديدة فى بناء إصلاح التعليم الأزهرى، مستغلا علاقته المتوازنة مع محمد على، من جهة، وسعة اطلاعه من جهة ثانية، إذ كان ملما، إلى جانب علوم الدين، بعلم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى والشعر، ما حدا بالمؤرخ المصرى العظيم عبد الرحمن الجبرتى إلى أن يصفه قائلا: «قطب الفضلاء، وتاج النبلاء ذو الذكاء المتوقد والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الآخذ من العلوم العقلية والأدبية بحظ وافر».
وقد استفاد العطار، المعروف عنه نزعته التجديدية، مما خلفته الحملة الفرنسية من علوم، ومن رحلاته إلى أوروبا وبلاد الشام، فى سعيه إلى إصلاح الأزهر، وكانت الثمرة إنتاج جيل من رواد النهضة المصرية الحديثة، ممن تتلمذوا على يد العطار، وفى مقدمتهم رفاعة رافع الطهطاوى، ومحمد عياد الطنطاوى.
المصدر: اليوم الجديد