الاجتهاد: “لا إشكال في أن النبي صلى الله عليه وآله قد أكمل الدين لقوله تعالى: ﴿اليوم اكملت لكم دينكم﴾، ولكنه لم يكمل الدين بتفاصيله، وعليه فالآية الكريمة حينما قالت ﴿ اليوم أكملت﴾ كيف يصحّ مثل ذلك والحال أنّ التفاصيل لم تبيّن؟!
والجواب:- إنّه لابد وأن يكون المقصود من الآية الكريمة هو بعد جعل العترة الطاهرة أحد الثقلين حتى يثبت لها المرجعيّة المذهبيّة والتشريعيّة، فإنه بعد أن جعلت العترة مرجعاً في التشريع ـ لحديث الثقلين ـ يصحّ بأن تقول الآية الكريمة آنذاك ﴿ اليوم اكملت لكم دينكم ﴾،
فالإكمال حصل بضّم مرجعيّة أهل البيت عليهم السلام – أعني المرجعيّة التشريعيّة -، فالعترة إذن هي مرجعٌ في التشريع، وقد بيّن الأئمة الكثير الكثير من تفاصيل الأحكام، وعند إلقاء نظرة سريعة على (كتاب) وسائل الشيعة يثبت صدق ما نقول، فتفاصيل الصلاة قد سئل عنها الأئمة عليهم السلام بعد ذلك من قبل زرارة وأقرانه، فتفاصيل الصلاة ثبتت منهم عليهم السلام وكذلك تفاصيل الحج …. وهكذا.
وقدّم لنا الأئمة عليهم السلام قواعد عاّمة يمكن الاستفادة منها على مرّ الزمان، من قبيل قاعدة الاستصحاب والطهارة والحليّة ولا ضرر ولا حرج والفراغ والتجاوز وما شابه ذلك من القواعد.
ولكن بقيت مساحة لم تملأ بالتشريع منهم عليهم السلام، ومنح إكمالها للحاكم الاسلامي بحسب اقتضاء الظروف، ولكن من الطبيعي أنّ الأئمة عليهم السلام أعطونا قواعد كلّية والحاكم الإسلامي هو الذي يطبّقها بحسب الحوادث والظروف التي تطرأ، فقد يطرأ ظرفٌ يهجم فيه العدوّ على بلاد الإسلام فمن باب قاعدة لزوم الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين يصدر الحاكم الإسلامي حكماً بلزوم الدّفاع تطبيقاً لتلك الكبرى الكلّية على المصداق الخارجي، فمثل هذه القضيّة يتركها الإمام إلى الحاكم الإسلامي، وإنما لم يتصد لها الإمام بالمباشرة لأجل مدخليّة الزمان في ذلك، فالإمام أعطى الحكم الكلّي ويبقى التطبيق على الحاكم الإسلامي.
وإذا فرض أن بلاد الإسلام كان نظامها الاقتصادي يخاف عليه من الانهيار فمن باب الحكم بلزوم الحفاظ على النظام الاقتصادي الإسلامي يلزم على الفقيه أن يفتي بلزوم دفع الضرائب بالمقدار المناسب، كأن يفرضها على الأغنياء فقط، وقد يشمل حتى متوسطي الحال، وهكذا بما يراه مناسباً.
وهكذا لو خيف على البلاد بسبب تصدير بعض البضائع، واخراج العملة الصعبة منها فيصدر حكماً بالمنع.
وهكذا لو فرض أنّ استيراد بضاعةٍ ما ومن دولةٍ معيّنة كان تقويةً للظالم أو ما شابه ذلك فيصدر منعاً من هذا الاستيراد مثلاً, والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.
إن هذه مساحة تترك إلى الحاكم الإسلامي يشخّصها بحسب الظروف، نعم الحاكم الإسلامي لا يملأها من دون دليلٍ ومستندٍ حتى يقال بأنّه ليس بمشرّعٍ ، بل توجد عنده أحكام كلّية قدّمها له الأئمة عليهم السلام وهو يقوم بتطبيق تلك الكبريات الكليّة على الصغريات، وهذه المساحة يمكن أن يطلق عليها بــ(منطقة الفراغ)، وإن شئت تسميتها باسم آخر فلا مانع، والذي أظنه أنّ منطقة الفراغ بالتفسير الذي ذكرناه – والذي ينبغي أن يعدّ نقطة قوّة في التشريع الإسلامي – قضيةٌ لا يختلف فيها الفقهاء بل ينبغي أن تكون مسلّمة، فأيّ فقيهٍ يعلم بهجوم الأعداء ولا يصدر حكماً بالدّفاع عن تلك البلاد ؟!!
واذا فرض أن استيراد بضاعةٍ ما كان يؤدّي الى تقوية الجهة الظالمة فينبغي أن يصدر حكماً بالمنع.
إنّ هذه قضيّة ينبغي أن تكون محلّ اتفاق الفقهاء، غايته أنّ مصطلح منطقة الفراغ لم يكن متداولاً بينهم، ولكنّ واقع منطقة الفراغ فهو قضيّة ينبغي أن تكون مسلّمة بينهم”….
“قد يتصوّر البعض أنها نقطة ضعف باعتبار أنّ الإسلام لم يملأ تلك المساحة لعدم وجود التشريع عنده فأوكل الأمر إلى غيره من باب أنّ الغير أعرف بالتشريع المناسب، فهي بهذا الاعتبار تكون نقطة ضعفٍ لا نقطة قوّة.
ونحن نقول:- كلّا فإنّ الإسلام جعل هذه المساحة من دون تكليفٍ لأجل أن يتساير مع جميع الأزمان، فإن المناسب لكلّ فترة زمنيّة شيءٌ معيّن فيترك تحديد ذلك الشيء المعيّن للحاكم الإسلامي”.
وقد أشار اليها السيد الشهيد(قده) بما نصّه:- ( ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقصٍ في الصورة التشريعيّة أو إهمالٍ من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالا وإنّما حدّدت للمنطقة أحكامها بمنح كلّ حادثةٍ صفتها التشريعيّة الأصلية مع إعطاء ولي الأمر صلاحيّة منحها صفة تشريعيّة ثانويّة حسب الظروف، فإحياء الفرد للأرض مثلاً عمليّة مباحة تشريعاً بطبيعتها ولولي الأمر حقّ المنع عن ممارستها وفقاً لمقتضيات الظروف).
المصدر: صفحة الشيخ غازي السماك على التويتر