المباحثة-في-الحوزات-العلمية

المباحثة في الحوزات العلمية.. طرق مقترحة وتوصيات ضرورية

الاجتهاد: تتميّز الحوزات العلمية برواج ظاهرة المباحثة فيها أكثر من سائر المؤسّسات والمراكز التعليمية التي تعرف أسلوب المباحثة، لكنه لا يعدّ عندها أساساً معمولاً به في النظام التعليمي والتعلّمي.

وتعني المباحثة ـ بمعناها العام ـ إعادة دراسة الطلاب معاً لدرس الأستاذ وتداوله والحديث فيه، وهو أسلوب قديم فيما يبدو عرفته المؤسّسة الدينية الإسلاميّة.

وللمباحثة فوائد كثيرة، أهمّها:

أ ـإنها ترسّخ المعلومات في الذهن نتيجة تكرارها وتداولها وسماعها أكثر من مرّة.

ب ­ـ إنها تجلي المفاهيم والموضوعات، حيث يمكن رفع الكثير من نواقص الفهم بهذه الطريقة، فعبر تداول الطلاب هذا الأسلوب تزول مجموعة إبهامات عندهم وتتضح الصور أكثر.

ج ­ـ إنها تنمّي في الطالب القدرة على تقديم الموادّ الدرسية العليا لغيره، وتؤهّله بالتدريج لممارسة التعليم في هذا المضمار، فإذا انضمّت إليها طريقة كتابة الدرس كانتا عوناً للطلاب في مرحلة الاجتهاد وتحصيل ملكته.

د ­ـ إنها تساعد الطالب على التفكير وتخلق فيه الحسّ النقدي، وتدرّب المجموعة على استخدام عصف الأفكار وتنشيط القدرة التحليلية.

هـ­ ـ إنها تساعد على خلق اللحمة الاجتماعية بين الطلاب أو ترسيخ هذه العلاقات الاجتماعية، وما يتركه ذلك من أثر إيجابي على الجسم والمؤسّسة التعليمية عموماً.

وتوجد عدّة طرق مقترحة ومستعملة للمباحثة في مرحلة الدراسات العليا أهمها:

أولاً: طريقة المباحثة اللاحقة

والأشكال المتبعة في هذه الطريقة هي:

1 ـ قراءة التقرير، وهذه الطريقة تقوم عملياً بتحويل المباحثة في هذه المرحلة إلى شكلها السابق في مرحلتي المقدّمات والسطوح، فكأنّ الطلاب لم يستطيعوا الخروج نفسياً وذهنياً من أجواء تلك المرحلة، لهذا يعمدون إلى تحويل ما كتبوه في مجلس الدرس إلى متن، ليقوموا بمطالعته وشرحه والحديث حوله.

وقد ذكر بعضهم أنّه أجرى إحصاءً لطلاب الحوزة العلمية في مدينة قم فرأى أنّ 45% منهم يعتمدون هذه الطريقة([41])، ولا أدري مدى دقّة هذا الإحصاء واشتماله على الشروط العلمية للإحصاءات الصحيحة.

وهذا الأسلوب ينمّ عن ضعف أو عن عدم قدرة الطالب على الاستقلال والنموّ؛ فهو يكرّس مفهوم مركزية المتن، ويحوّل الطلاب إلى مفكّكين للجمل يهدفون بشكل مركّز على فهم الفكرة، وكأنّ المباحثة معينٌ لفهم الدرس وعامل مساعد لتوضيح أفكاره ومعطياته.

2 ـ إعادة الإلقاء مستقلاً، وهذه الطريقة أفضل من سابقتها، لكن يمكن أن تظهر على شكلين:

أحدهما: أن يقوم أحد الطلاب متناوباً بإلقاء الدرس مرةً ثانية دون أن يستعين بالنصّ المكتوب بل يستقلّ عنه، ويستمع بقية الطلاب إليه. وهذا الشكل يقترب من نمط المباحثة للفهم كالشكل السابق.

ثانيهما: أن يصار إلى العملية نفسها، لكن لا يقتصر على بيان الدرس، ولا يكون الهمّ هو الفهم فقط، بل يفترض الباحثون أنهم فهمو الدرس وراجعوه قبل الإتيان إلى المباحثة أيضاً، بل يقصد النقد والتعليق والتحليل والتثبّث من كلام الأستاذ، فتراجع المصادر لهذا الغرض، ويتمّ التداول في صحّة كلام الأستاذ وعدمه، ويسعى الطلاب لمحاولة التفكير والتحرّر من سطوة النصّ أو الخطاب الذي تركه الأستاذ في نفوسهم، وهذا كلّه ينمّي في ذهن الطلاب قدرة النقد وإمكانية الاجتهاد، ويعمّق في الوقت نفسه الفهم ويوسّع نطاق الاستيعاب.

ثانياً: طريقة المباحثة السابقة

وهذه الطريقة من أفضل الطرق وأحسنها، وهي تقوم على استباق الدرس بالقيام بتحضيره من قبل الطلاب كافّة، ثم تصدّي أحدهم بالمناوبة لإلقاء البحث، وكأنّه يلقي درس الخارج محاولاً الاجتهاد فيه، ثم يقوم البقية بمناقشته والنقد عليه والتعليق ومراجعة المصادر وهكذا، ثم إذا حضروا مجلس الدرس كانت آفاقهم الذهنية مفتوحة وقدرتهم الاستيعابية والتحليلية أقوى.

وقد أجرى بعض الباحثين الموقّرين إحصاءً لطلاب الحوزة العلمية في مدينة قم، فوجد أن 34% منهم يستخدمون هذه الطريقة([42])، وهذه نسبة جيدة إذا كانت دقيقة؛ لأنّ الانطباع العام للمتابع لا يبلغ به حدّ هذه النسبة؛ لقلّة ما نصادف مثل هذا الأسلوب في المباحثة.

ثالثاً: الطريقة الجامعة التفصيلية (الطريقة المقترحة)

ونقصد بهذه الطريقة ما يتناسب مع ما أسلفناه سابقاً عند الحديث عن أساليب الدراسة والتدريس، من تقسيم المباحثة إلى مراحل ثلاث، هي:

المرحلة الأولى: وتستمرّ منذ بداية الالتحاق بدرس البحث الخارج وحتى ثلاثة أشهر أو ستة أشهر فقط، وتعتمد فيها طريقة المباحثة اللاحقة بشكلها الأول (قراءة التقرير)؛ لأنّ الطالب مازال جديداً على هذه المرحلة، وقد يتوه في تفاصيلها، فيحتاج في البداية إلى ضبط فهمه والإحساس بالثقة بالنفس، وهذه الفترة تعدّ كافيةً لتحصيل ذلك.

المرحلة الثانية: وتستمرّ منذ انتهاء المرحلة الأولى إلى العامين الأوّلين من دراسة البحث الخارج، وتعتمد فيها طريقة المباحثة بشكلها الثاني (إعادة الإلقاء مستقلاً)، لتتحوّل بالتدريج من مجرّد إعادة بيان إلى لقاءٍ نقدي وتعليق.

المرحلة الثالثة: وتستمرّ بعد انتهاء المرحلة الثانية لمدّة عامين على الأقلّ، وتعتمد فيها طريقة المباحثة السابقة على الدرس؛ لأنّ الطالب يكون قد نما ذهنياً وصار مستعدّاً لمثل هذه الخطوة.

اللوازم التنظيميّة للمباحثة

ثمّة توصيات ضرورية للطلاب في هذا المجال، نجد أنّ ذكر بعضها لا يخلو من فائدة، وهي:

1 ـ ضبط مدّة المباحثة،فالعديد من الطلاب عندما يجلسون للمباحثة قد تطول بهم جلستهم هذه الساعات أو يقضون سهرةً ليلية كاملة، وهذا الأفق المفتوح له سلبياته وإن كانت له بعض الإيجابيات، لهذا فالمفترض وضع وقت محدّد تنتهي عنده المباحثة ليتدرّب الملقي وغيره على التكيّف مع الوقت، وكي يكون للطلاب أنفسهم فسحة من وقتهم لسائر اهتماماتهم العلمية والشخصيّة.

2 ـ ضبط توقيت المباحثة وحُسن اختياره،حيث لابدّ أن يكون في وقتٍ لا يكون فيه المشاركون متعبين، بل تكون لديهم حيويّتهم الكاملة، وهو أمر نسبيٌّ لابد من الاتفاق عليه بين المشاركين.

3 ـ ضبط عدد المشاركين،بمعنى أن لا يكون العدد بحيث تلزم الفوضى وضياع فائدة المباحثة في مداخلات كثيرة قد تشوّش الذهن، وتحديد العدد قلّةً وكثرة أمرٌ تابع للأمزجة وطرائق تنظيم مجلس المباحثة.

4 ـ ضبط نوعية المشاركين،حيث لابدّ من الانسجام الروحي والنفسي بينهم ولو ضمن الحدّ الأدنى منه، كما لابدّ أن تكون شخصياتهم منسجمةً في مجال أخذ المباحثة بجدّية واعتبارها نشاطاً علمياً جاداً لا مجلساً للتسلية وتناقل الحديث كيفما كان أو تمضية الوقت. ومن الجيد أن يكون المشاركون مختلفين في المزاج الفكري والمنهجي، فبعضهم ذو نزعة عرفية وآخر ذو نزعة دقيقة تحليلية وبعضهم ذو ميول سندية وآخر صاحب ميول متنية، وبعضهم ناقد وآخر مدافع، حتى يكون في تضارب الرأي الناتج عن هذا الاختلاف فائدة للجميع.

5 ـ توفّر المصادر على مقربة من المشاركين،ولو عبر أجهزة الكمبيوتر حيث يسهل الوصول إليها لإنجاح خطوات المباحثة جميعها.

6 ـ تقييم المباحثة دورياً أو القيام بمراجعة،بمعنى أن يُصار إلى تقييم مجلس المباحثة كلّ ثلاثة أشهر، أي كلّ فصل دراسي، لمتابعة عناصر نجاحها وضعفها بهدف تطويرها باستمرار.

7 ـ نقد المستمعين للمُلقيفي خصوصيات إلقائه وطريقته في العرض والبيان، بهدف تنمية قدراته البيانية في هذا الصدد.

8 ـ مشاركة الأستاذ حيث يمكنفي مجلس المباحثة؛ لإعطاء ملاحظات أو تقديم مقترحات أو تشجيع أو نحو ذلك.

9 ـ تأمين المكان المناسب مادياً ومعنوياًبحيث يعطي مجالاً للتركيز والتأمّل، ولا يكون ـ مثلاً ـ مليئاً بالضجيج وما يوجب تشويش الذهن وتشتّت العقل. ولو كان هذا المكان هو بيوت الطلاب بنحو المناوبة فمن الضروري أن تراعى الضوابط الأخلاقيّة، وأن لا يثقل على زوجة صاحب البيت وأهله في الإعداد للوازم هذا الأمر، أو جعل الوقت غير مناسب لهم؛ بل يستعان أيضاً بأخفّ أنواع الضيافة حتى لا يشعر أحد المشاركين غير المتمكّنين مادياً بالحرج أمام البقية، أو تجهيز صندوق مشترك بين الجميع.

10 ـ تنظيم المشاركات في المباحثةحتى لا تقع فوضى تشوّش الذهن وفي الوقت عينه يصل التناوب للجميع، وهذه قضية تختلف باختلاف الأمزجة، ولها سُبُل كثيرة.

11 ـ تشكيل أمانة سرّهدفها تدوين تقريرٍ مختصر جداً عن كلّ لقاء مباحثة كي يبقى في الذاكرة، وقد يحتاج لعرضه على الجهات الإدارية والتعليميّة، حيث تضبط فيه أعداد المباحثات وموضوعاتها وبعض النقاط السريعة فيها.

 

المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الحوزة العلمية ومناهج الدراسات العليا – مطالعة عابرة في أساليب التعلّم والتعليم وقواعد الإدارة التعليمية للشيخ حيدر حب الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky