السيد المرتضى فقيها / الشيخ جعفر المهاجر

الاجتهاد: في هذا المقال ينظر الباحث إلى التراث الفقهي للشريف المرتضى، وبعد مروره على بعض الأطروحات للشريف يطرح سؤالين هامين: لماذا اتخذ الشريف موقفاً منافياً لموقف فقهاء الشيعه عموماً؟ وهل كان مشروعه الفقهي خطوة إلى الوراء أم لا؟

من النادر – بل الفريد – أن نجد في سلفنا الصالح من أهل العلم من جمع في شخصه الأضداد، على النحو الذي استوعاء السيد المرتضى. ذلك أنه كان – كما أستاذه الشيخ المفيد رضوان الله عليه – كلامياً بالدرجة الأولى، إلى جانب كونه فقيهاً ومفسراً ولغوياً وأديباً وشاعراً، إماماً في ذلك كله. وما يزال كتابه الشافي في الإمامة الذي أعاد فيه – بلغته الرفيعة وببيانه العذب – صياغة النظرية الإمامية في هذا الباب كتاباً لا غنى عنه في بابه. فضلاً عن كتابيه الكلاميين أيضاً تنزيه الأنبياء والأئمة وتحقيق الإرادة، وكلاهما مطبوع. أما كتابه المطبوع أيضاً الغرر والدرر المعروف أكثر بـ أمالي السيد المرتضى، فهو كتاب فريد في بابه، بما حواه من طرائف وإشكاليات تدل بمعالجتها على مقدرته النقدية الفائقة، إلى إحاطة واستيعاب للمأثور. كل ذلك – كما هو الشأن دائماً في أعماله – تزيّنه وتحلبه طلاوة لغته البالغة الجمال.

من الغني عن البيان أن بقاء الكثير من كتبه حتى اليوم – ونحن لم تذكر إلا بعضها – لدليل على احتفاء القرّاء بها جيلاً بعد جيل، على تنوع موضوعاتها و اختلاف مداركها؛ ذلك أن المعروف أن الإبداع والعبقرية في علم أو فن هي حسناء غيور، ليست تتعايش مع ما ينافسها، ولكننا هنا أمام عبقرية جامعة تكاملية، تساكنت فيها العلوم العقلية مع النقلية مع الموهبة الشعرية مع الإبداع الأدبي مع براعة المعالجة، فسبحان مقسم الأرزاق.

بيد أن إشكاليتنا الكبرى معه هي حصراً في فقهه أو بالأحرى في فقاهته وهذا هو محط الكلام في ورقتنا إلى مؤتمركم الكريم.

نظريته في الحديث، مراجعة نقدية

فاجأ السيد المرتضى الوسط الإمامي الذي كان قد بدأ يرتاح من الالتباسات السابقة بين الحديث والفقه، بين النص المنقول والنص المستنبط، وبفضل إنجازات أستاذه الشيخ المفيد، وانحيازه الناجح إلى صف الفقه والفقيه، فاجأه بنظرية غير مسبوقة، تضرب بمنطوقها، إن هو أُعمل حقاً بكامل آليته وماله، النتائج التي صرف السلف قروناً في إحكامها، وذلك مقدمة لإقامة آلية أرادها جديدة لعمل الفقيه، مبنية على قواعد مختلفة، فكأنه – بل إنه – بذلك يحاول أن يبني نظرية جديدة، لا تخرج فقط على مفهوم الفقه والفقيه كما استقر على يدي أستاذه، ولكنها أيضاً تقف سداً منيعاً بينه وبين مصدر أساسي جداً في العمل ثم في الاستنباط، بالنحو الذي استته لأنفسهم السابقون منذ عصر الحضور، وصولاً إلى بدايات عصر الفقه الاجتهادي، هو النص المروي عن الأئمة، وذلك تحت شعار أنه دليل ظنّي لا يُفيد علماً ولا عملاً.

هذه الأطروحة المذهلة في شجاعتها، تنتهي عند السيد المرتضى إلى القول بالتضمن أنه يتعهد بأن يبني فقها استدلالياً شاملاً، مبنياً على أحاديث يصفها باليقينية، ليس فيها شي من أخبار الأحاد الظنّية، وعلى إجماع الخاصة (الخاصة هنا تعني الشيعة الخاصة دون العامة، بالإضافة إلى العلماء دون الجهال).١

كيف ذلك؟
منطلق السيد إلى نظريته هو تصنيف «الخبر» (دائماً يقول الخبر وليس الحديث أبداً، تذكيراً بأنه ككل خبر يحتمل الصدق والكذب، أما الحديث فإنَّه قد يُعلي من شأنه قليلاً، وذلك ما لا يُناسب مقاصده) إلى متواتر وخبر آحاد أو خبر أحادي.

من الضروري أن نلاحظ بادئ ذي بدء، أن هذا التصنيف لم يكن من قبل جزءاً من اللغة الفنية ولا معمولاً به بين المحدثين الإمامية؛ وذلك لسبب بسيط هو أنهم لم يكونوا بحاجة إليه؛ لحلو الحديث الذي يتداولونه من المتواتر؛ لأن الأئمة ـ وهم المصدر الأول للحديث – لم يكونوا في الموقع الذي يتيح لهم أن يخاطبوا بحديثهم الجمع الذي يستحيل تواطؤه على الكذب، ليروي هؤلاء ما استوعوه عن أحدهم إلى جمع مثله، وهكذا إلى أن يصل النص إلينا، وبذلك يكون الحديث قد تمّ له الشرط الأساسي لصفة التواتر، عند غير الشيعة وعند من أخذه عنهم من الشيعة الإمامية.

إن أول تعريف إمامي جامع مانع للمتواتر، نجده لدى الشهيد الثاني (ت ٩٦٥ / ١٥٥٨ م) في رسالته الرعاية لحال البداية في علم الدراية،٢ وهو أول كتاب إمامي في بابه، قال: «ما بلغت رواتُه من الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد، بأن يرويه قوم عن قوم وهكذا إلى الأول، فيكون أوّله في هذا الوصف كآخره، ووسطه كطرفيه، ليحصل الوصف، وهو استحالة التواطؤ على الكذب للكثرة في جميع الطبقات المتعددة».

ونحن نعرف أن هذه الرسالة هي عبارة عن صياغة شيعية لمادة هذا العلم، كما هي لدى غيرهم ممن سبقوا إلى التصنيف فيه.

إذن، فهو قد نسج فيها على منوال غيره، فاهتمامه بإيراد تعريف دقيق للتواتر لا يحمل مغزى يمكن أن يأول إلى أن الأمر يهمه كفقيه، كل ما في الأمر ـ فيما نحسب ـ أنه وجده عند القوم فأورده.

لكن ما نستغربه أشدّ الاستغراب، أن المرتضى لا يهتم بإيراد تعريف للتواتر عنده كمثل الذي قرأناه عند الشهيد، بل يكتفى بإيراد أمثولاتٍ عليه، أراد منها رفع الاستغراب عن كثرة المتواتر، وأن ليس من الضروري كثرة الرواة في كل الطبقات بما يستحيل معه تواطؤهم على الكذب، بل يكتفي بكثرتهم في الطبقة الأخيرة فقط.

ويضرب على ذلك مثلاً بأن قال: «كل واحد منا يسمع الأخبار ممن يُخبره عن عُمان وسجستان والبلدان التي ما شاهدها، فيعلم صدقهم إذا علم أن العادة لم تجئ في مثل من خبره عن ذلك بالكذب؛ لعدم جواز اتفاق الكذب والتواطؤه».٣

ثم إنه يضرب على ذلك مثالاً آخر أقرب إلى ما يُعالجه، هو العلم بالنص الذي ينفرد به الإمامية”،٤ يعني مثال مسح الرأس والرجلين في الوضوء دون الغسل، وحرمة الفقاع … إلخ. وهي معروفة.

هذا الأسلوب الغريب في الاستدلال يتكرّر منه كثيراً في كتاباته، وكأنه لا يعرف أن تلك الأمثولات ليست أخباراً تحتمل الصدق والكذب، بل هي معلومات يقينية ليست محلاً للدليل بما هو متواتر أو غير متواتر، وإلا نكون كمن يطلب الدليل على كلّ وأي شيء حتى لو كان من أوضح الواضحات.

ثم إن المغزى في إيراده تلك الأمثولات في الكثير من كتاباته مكرراً ومعيداً، أنه لا يملك غيرها.
هذا يطرح سؤالاً: ماذا بشأن ما يختلف فيه فقهاء الإمامية أنفسهم وهو كثير؟ هل علينا أن نغض الطرف عنه، أو أن تصرف النظر عنها كما يفعل هو إذ يحصر أمثولاته فيما انفردوا به عن غيرهم من أرباب المذاهب؟ أم علينا حصراً أن تعالجه بمقولتي التواتر والإجماع، وهو بالتأكيد ليس محلاً لهما؟

السؤال يكبر أمامنا إذ تذكر وتذكر بأن الأئمة كانوا يلقون أحاديثهم على أصحابهم، ويحبونهم على روايتها ونشرها، ويُشيدون بفضل من يستحق منهم الإشادة بأعماله في هذا السبيل، مع أنهم كانوا يعرفون حق المعرفة أن رواياتهم عنهم لن تكون من غير أخبار الآحاد ولن يكون حظها من التواتر شيئاً مذكوراً. وعلى ذلك الأساس بنى كل من أتى بعدهم في عصر الغيبة ـ من محدثين وفقهاء ـ في كل ما عملوه تسجيلاً ونقداً وتبويباً واستنباطاً، في مسيرة بديعة هي من أروع مغامرات الفكر الإنساني.

بعد هذا كله يأتينا السيد ليقول ويا للغرابة: وأما الطريق إلى معرفة خطاب الرسول والإمام، فقد يكون بالمشافهة لمن يشهدهما، ويُعلم – ضرورة – إضافة الخطاب إليهما. ومن نأى عنهما فطريقه إلى هذه المعرفة الخبر المتواتر الذي يُفضي إلى العلم».٥

هذا النص لا يسقط فقط كل الأحاديث المروية عن الأئمة جملة وتفصيلاً، باستثناء ما هو متواتر عنده مما مثل به بل إنه يجرف معه كل الأصول المستنبطة منها، والتي كانوا يدربون أصحابهم عليها، ثم انتهت إلى القواعد الفقهية المعروفة والمعمول بها في الأصول العملية، مع أن من المعلوم والثابت والمؤكد أن الأئمة المتوالون صرفوا جهوداً هائلاً في تلقينها وسماعها وتسجيلها وتبويبها ونقدها.

نظريته في حجية الإجماع
مسألة الإجماع بوصفه “يجري في وقوع العلم مجرى التواتر والمشافهة”6 غاية وطريقاً، لا تنقل إثارة لعجبنا عن مسألة حصر الأخذ بكلام المعصومين بالمشافهة والتواتر، غايةً بأن فائدته العلم، وطريقاً بأنه يتضمن رأي إمام العصر.

أما مسألة العلم اليقيني بوصفه غاية للفقيه، فإننا سنناقشها فيما سيأتي إن شاء الله.

حجية الإجماع باعتباره”حجّةٌ في كل حكم ليس له دليل”7، فقد عقد لها فصلاً ضافياً، عالج فيه إثبات حجية الإجماع بدخول الإمام فيه، ثم كيفية العلم بدخول الإمام في الإجماع.8

والحقيقة أنه بذل جهداً صادقاً في إثبات حجية الإجماع، ذلك أن حجيته دليلاً شرعياً لم تكن معنونة عند فقهاء الإمامية من قبل، تماماً كالتواتر، وللسبب نفسه؛ أي ـ بالنتيجة ـ أن التنظير والتأسيس لحجيته يقع على عائقه وحده. وعليه، فإنه بعقليته المنهجية الدقيقة، انبرى أولاً إلى تعريفه، حيث قال: «ليس المشار بالإجماع – الذي نقطع على أن الحجة فيه – إلى إجماع العامة والخاصة والعلماء والجهال، وإنما المشار بذلك إلى إجماع العلماء الذين لهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة»9

وهذا الكلام بوصفه تعريفاً صحيح ومتين من حيث المبدأ، من هذا الباب ينفذ مباشرة إلى إثبات الحُجّيّة؛ «وهو أن يُعلم عند عدم تمييز عين الإمام وانفراد شخصه … يُوثَق بأن قوله داخل في جملة أقوالهم».

توجیه
إن الرسول والإمام إذا كان متميزاً متعيّناً عُلمت مذاهبه وأقواله بالمشافهة أو بالتواتر عنه، وإذا كان مستتراً غير متميز العين – وإن كان مقطوعاً على وجوده واختلاطه بنا – علمت أقواله بإجماع الطائفة التي نقطع على أن قوله في جملة أقوالهم، وإن كان العلم بذلك من أحواله لا يعدو إما بالمشافهة أو بالتواتر، وإنما يختلف الحالان بالتمييز والتعيين في حالٍ، وفقدهما في أُخرى.”10

مما لا ريب فيه أن هذا التوجيه المبتكر والذي سيتردد كثيراً من بعده – يشهد لصاحبه بالمقدرة على الاستفادة من التنويعات الفكرية التي بين يديه والجمع بينها أو بالأحرى تركيبها بما يؤدي إلى فكرة جديدة تماماً، لا يبدو لأول وهلة أنها ذات علاقة بطرفيها. وهذه من أهم صفات الباحث، لا شك في أنه استفادها من طول الممارسة في علم الكلام.

بيد أنه ( التوجيه) هو في النهاية افتراضي ليس يستند إلى واقع محسوس أو دليل ملموس، بل على فرضيات ذهنية بحتة، هي أشبه بالتصورات والخيالات. ومن الذي يثبت أن الإمام “المُستتر وغير المتميز العين” مشارك في العمل الفقاهتي بالنحو الذي يتولاه الفقهاء؟ ثمّ إنّ “العلماء الذين لهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة” وأقوالهم عنده بحق مادة الإجماع، معروفون بأسمائهم وسيرتهم وأنسابهم، فعلى أي أساس نقطع على أن قوله في جملة أقوالهم!؟ فضلاً عن أن سيرة الأئمة في عصر الحضور تدل على أنهم لم يعملوا على بناء إجماعات، بل إنهم أداروا الحوار بين أصحابهم فيما هم فيه مختلفون، من ضمن سياسة تعمل على الحفاظ على حرية الرأي وحق الخلاف والاختلاف، وعلى ذلك ربّوا أصحابهم. إلى غير ذلك من ضروب النقود التي من السهولة بمكان أن توجه إلى هذه الحجية العجيبة الغريبة.

أضف إلى ذلك أن فكرة أن “الإجماع حجّة في كل حكم ليس له دليل”، حيث كلمة «دليل» هنا تعني عنده حصراً التواتر (طبعاً بالإضافة إلى حجية ظاهر الكتاب)، هذه الفكرة تقول بالتضمن أنه (الإجماع) دليل من الدرجة الثانية، أو كما قد يُقال في لغة الفقهاء دليل في طول التواتر وليس في عرضه. وفي هذا خُلفٌ واضح، يجعل من قول الإمام – وإن يكن متضمناً ولكن وجوده مقطوع به عنده كما رأينا – دليلاً بهذه المتابة من الموقعية الأضعف.

ولو أننا شئنا أن نُساير السيد المرتضى قليلاً في طريقة تفكيره في المقام فسيكون علينا أن نقول دون تردّد، أن الإجماع باعتباره متضمناً لقول إمام العصر، يجب أن يكون له الموقع الأول بوصفه دليلاً شرعياً، أو أنه على الأقل من درجة التواتر؛ لأن الاثنين ندّان في الصفة، وما هي إلا أنهما كلاهما من قول الإمام قطعاً عنده.

السؤال الذي تطرحه مراجعتنا النقدية

بقي لدينا سؤال أخير من شقين:
الأول: لماذا خرج السيد المرتضى بنفسه وبمنهجه الفذ – خروجاً يكاد يكون جذرياً – عن المسار الطويل الذي سار وعمل عليه جميع أسلافه دون استثناء؟ مع أنه ثبت عملياً جدواه بما حققه من إنجازات باهرة، هو نفسه مدين لها، على الأقل بوصفه أحد ثمرات الخط التطوّري الذي سار عليه الأئمة وأصحابهم من قبل.

الجواب اليقيني الوحيد الذي ينبغي أن يُقال عن هذا السؤال ومثله: الله تعالى أعلم؛ لأن السؤال هو عن النوايا.

ومع ذلك فإننا لا يُمكن أن تغفل أن لغلبة المنهج الكلامي الفلسفي أثره البين – الذي لا تخطئه العين الخبيرة الناقدة – عليه فقهياً إن العقل الذي أنتج الشافي في الإمامة وغيره من الأبحاث الكلامية البديعة، لم يستقل وينتحي جانباً في أعماله في الفقه وأصوله. ذلك هو موضع الخُلف المنهجي الذي أوصله إلى العدمية فقهياً.

يكرر السيد ويُعيد أنه يسعى في فقهه إلى اليقين (العلم بحسب الكلمة التي تتكرر كثيراً في كلامه،) وأن كل ما سواه أو أقل منه إنما هو ظن لا يُفيد علماً ولا عملاً.

ولكن هل من الممكن حقاً أن نبني فقهاً يقينياً استدلالياً شاملاً بأية وسيلة حتى إن نحن صرفنا النظر عن العيوب المنهجية الهائلة التي استعرضناها بإيجاز في نقدنا لمفهومي التواتر والإجماع عنده بوصفهما – عنده أيضاً – طريقين ـ حصريين للعلم ؟

و بتعبير آخر: هل من الممكن حقاً أن يكون الفقه علماً غير ظني؟

ثم ـ وهذا هو السؤال الأكثر أهمية – هل الظنّ كله وعاء واحد لكي يُقال بالمطلق ومن دون تمييز أنه “لا يُفيد علماً ولا عملاً؟” أي سواء كان ظناً بدوياً ساذجاً خاضعاً للهوى والتقليد وما إليهما، هو حقاً ذلك الذي “لا يُغني من الحق شيئاً”، و”لا يفيد علماً ولا عملاً»، أم كان ظناً اجتهادياً ناشئاً من استقراء الفقيه الآهل الأدلة المتوفرة لديه استقراء شاملاً بحسب الوُسع، ومن ثم يبذل وسعه في إعمالها واستنطاقها، بما يؤدي إلى حصيلة اجتهادية ينتهي إلى صياغتها بشكل فتوى، هي بالفعل ظنّية بالتأكيد، ولكن بالمعنى الذي قلناه، وشتان ما بين الطنين؟

و نقول في الجواب:
أولاً: إن علم الفقه لا يمكن أن يكون إلا ظنياً، باستثناء بعض أحكامه الثابتة بالضرورة، حاله في هذا حال كافة العلوم والمعارف الإنسانية، بل وحال الكثير من مسائل العلوم التجريبية وما طلب اليقين فيه وفيها إلا من قبيل طلب ما هو ضد طبيعة الأشياء.

الغاية من وراء تلك العلوم هي الوصول إلى نتائج لا ترقى فوق مستوى الظن بمختلف درجاته، ظن العارف طبعاً. وهي بالتأكيد لا تطمح إلى الوصول إلى اليقين القطعي، بل وليس ذلك من شأنها.

هذا، مع ضرورة مراعاة شرط أساسي هو أن يكون سعي أربابها مقوداً ووفق المناهج المقررة والخاصة بكل علم منها. الخروج عليها إلى غيرها دون دليل كافي ومُقنع، يُثبت بالمحسوس أنه يمكن عن طريقها الوصول إلى نتائج مرضية بالنظر إلى الغاية المعلقة عليه، بحيث تسلك في نطاق الحركة التطورية للعلم، ذلك الخروج سيكون مغامرة غير مضمونة النتائج، بل قد تؤدي إلى إرباك الجهد المبذول في سياق تلك الحركة، مثلما حصل بالفعل جراء مشروع الفقه اليقيني للسيد المرتضى.

ثانياً: إن علم الفقه هو بفرعيه الكبيرين: العبادات والمعاملات، تشريع يرمي إلى تنظيم شبكة العلاقات في المجتمع “ليقوم الناسُ بالقسط”، إذن، فما من غنى له عن أن يتحرك بحركة ثابتة تطورية؛ أي مع تطور البنى الاجتماعية بكافة وجوهها، وأيضاً مع التطور الداخلي البنيوي للعلم نفسه.

بهذا الاعتبار، فإن القول بأن غايته حصراً هي الوصول إلى أحكام يقينية، وكل ما سواها لا يُفيد علماً ولا عملاً؛ أي بالتالي تجميد حراكه عند النتائج والأحكام المزعومة يقينية، هذا القول بالإضافة إلى استحالته، هو بمعنى وئده ومنع تطوره كما حصل لمذاهب أخرى تحت شعار مشابه.

هذه كلها أُمور لم يلحظها السيد المرتضى في مشروعه، ولذلك فإنه سرعان ما اندثر، بل إننا نراه قد عجز عن الإقلاع.

إن أبلغ أمارة على ما نقول نراها في ضآلة المادة الفقهية في تراثه الغني والكبير، بل إننا نرى بالمقارنة أنه قد صرف من الجهد والعمل في سبيل الدفاع عن مشروعه الطموح، أكثر مما صرف في سبيل تنفيذه. وكتاباته الكثيرة في غير كتاب له وفي جوابات الأسئلة التي وُجهت إليه في هذا النطاق، شاهد صدق على ما نقول و استناداً إلى هذه الملاحظة قلنا: إن مشروعه عجز عن الإقلاع.

أكثر من ذلك: على الرغم من الاهتمام والأهمية الكبيرين اللذين علقهما على الحديث المتواتر، فإننا لا نجد له كبير أثر فيما عالجه من مسائل فقهية، وما أورده فيها من أدلة على ما يذهب إليه. وفي هذا دليل مبين على أنه وإن يكن لا ريب إطلاقاً في حجية المتواتر، ولكنه أشبه بالأماني جميلة في التغني، لكن نفعها مرهون ومشروط بأن توجد بالفعل، وذلك ما لم يحصل للسبب الذي بسطناه قبل قليل.

مسألة الإجماع عنده أكثر تعقيداً. وقد عرضنا لها فيما سبق أيضاً، و تضيف الآن أننا في هذا أمام مشكلة مفهومية سنطرحها بالسؤال التالي:
الثاني: ما هو معنى الإجماع عنده؟

يقول في جوابات المسائل التبانيات أنه “إجماع العلماء الذين لهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة”،11 وقد أكد هذا المعنى في جوابات المسائل االموصليات الثالثة، فقال: «هو إجماع الفرقة المُحقة من الإمامية … فإذا هم أطبقوا على مذهب من المذاهب علمنا أنه هو الحق”12، ولكنه يقول أيضاً أنه “إجماع جماعة على بعض الأقوال يوثق بأن قوله (الإمام) داخل في جملة أقوالهم».13

هذا يشهد بأن مفهوم الإجماع عنده مفهوم متغير.

فهو، تارة، ذو حجيّةٍ ذاتية (التعريف الأوّل)، وثانية أن حجيته ناشئة من الثقة بأن قول الإمام داخل في جملة أقوالهم، وثالثة أنّه إجماع الفرقة المحقة، ورابعة أنه إجماع جماعة. وربما كان هذا الاضطراب على مستوى المفهوم، هو الذي منحه القدرة على أن يقول: إن أصحابنا كلّهم، سلفهم وخلفهم ومتقدمهم ومتأخرهم، يمنعون من العمل بأخبار الأحاد.”14

مما نعلم علم اليقين ليس فقط أنه كلام غير دقيق، بل أيضاً أن الصحيح عكسه تماماً، إلا إذا كان يقصد بـ «أصحابنا» من الهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة فقط، بما يُخرج كافة أهل الحديث عن الاعتبار؛ لأن هؤلاء عنده رواة، وليسوا أصحاب أقوال في الأحكام الشرعية.

النتيجة
الآن، وبعد أن سبرنا مشروع السيد المرتضى في الفقه بمختلف جوانبه فيما تزعم نعود إلى تساؤل لا بد من طرحه في ختام هذه المعالجة:
هل كان مشروعه ذاك خطوة إلى الوراء في الدرس الفقهي؟

أخذين بعين الاعتبار مناهج ابن الجنيد والإسكافي والشيخ المفيد من قبله، بصرف النظر عن درجة النجاح والفشل فيها.

نقول في الجواب : نعم وكلا!
نعم، باعتبار أنه عمل تطوّر الفقه الإمامي لمدة ربع قرن على الأقل، ومجرد تعطيل التطور هو بنفسه خطوة إلى الوراء، خصوصاً وأنه هو نفسه لم يُنتج إبانها إلا أعمالاً فقهية ضئيلة، لم يطل بها العمر قبل أن تندثر، حتى كتابه الفقهي جزئياً الصغير حجماً جمل العلم والعمل، إن يكن قد بقي، فبفضل شرحي صاحبيه الشيخ الطوسي و ابن البراج الطرابلسي، اللذين تقاسما العمل على شرح الكتاب.

هذا مع ضرورة ملاحظة أن استنكاف الطوسي عن شرح القسم الفقهي من الكتاب له معنى ودلالة موقف من فقه المرتضى إجمالاً.

وكلّا، باعتبار أن أعمال أستاذه الشيخ المفيد الباهرة الذكية في فقهه المتقدم، وما لقيته من قبول وإقبال، هي خطوة واسعة إلى الأمام في تطور البحث الفقهي الإمامي، بعدها لم يعد بوسع أحدٍ أن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء.

وسيأتي زميله في الدراسة الشيخ الطوسي بكتابيه الرائدين: تهذيب الأحكام والمبسوط ليستعيد الحركة التطورية العظيمة التي أطلقها أُستاذه الشيخ المفيد. ومن هذه النقطة تابع الفقه الإمامي تطوّره الذي ما يزال عالقاً حتى اليوم.
إن في ذلك لعبرة.

 

الهوامش

1- جوابات المسائل التبانيات، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ص ١٥
2- نفس المصدر، ص ٥٩. كذا الاسم في النشرة، ولكن المؤلف سماها في فاتحة الرسالة: البداية في علم الدراية (انظر الذريعة، ص ٥٨).
3- رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 338.
4- نفس المصدر
5- جوابات المسائل التبانيات، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج ۱، ص ۱۱.
6- نفس المصدر
7- نفس المصدر، ص ١٦
8- نفس المصدر، ص ۱۱ – ۲۰
9- نفس المصدر، ص 17
10- نفس المصدر، ص 11
11- رسائل الشريف المرتضى، ج ۱، ص ۲۳.
12 – نفس المصدر، ص 205
13- – نفس المصدر، ص 11
14- جوابات المسائل الموصليات الثالثة، ضمن رسائل الشريف المرتضى، ج ۱، ص ۲۰۳

 

قائمة المصادر

1- رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى، قم: مطبعة سيد الشهداء، ١٤٠٥هـ.
٢. الذريعة إلى تصانيف الشيعة، العلامة الشيخ آقا بزرك الطهراني (۱۳۸۹) هـ)، دار الأضواء بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٣هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky