النجف

السلوك السياسي في النجف الأشرف.. من الميرزا الشيرازي حتى السيد السيستاني / 1

الاجتهاد: فيما يلي ترجمة حوار أجرته مجلة آگاهی نو (الوعي الجديد) اﻹيرانية مع أستاذ جامعة طهران الشيخ الدكتور رسول جعفريان، تطرق فيه إلى “المرجعية الشيعية” في النجف وما تركته من آثار في سياسة العراق على مر مئة سنة.

س. فيما سيحين قريباً ذكرى مرور قرن على تأسيس حوزة قم العملية، تمتاز الحوزة الشيعية الأخرى، أي النجف الأشرف، بتاريخها الطويل الممتد إلى مئات السنين. أيّ نقطة يجب أخذها بنظر الاعتبار عند الحديث عن تقييم مسار حوزة النجف والظروف التي عاشتها في القرن الماضي بعيداً عن تاريخها الطويل؟

ج. عند الحديث عن النجف، علينا اخذ عدة افتراضات بعين الاعتبار، منها تاريخية بحتة وأحداث رئيسية، ومنها ما نجد مدلولها في الحوزة والتاريخ وعلاقة الاثنين ببعضهما البعض، فأولاً علينا ان نعرف بان العراق، كان جزءا من الحكم العثماني، واستمر الأمر لقرون، وبعدما وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها، انفصل العراق عنا الدولة العثمانية شيئاً فشيئاً بواسطة الاتفاقيات الدولية منذ عام 1921 وتحت حماية بريطانيا، فتكونت هذه الوحدة السياسية، وبعد مرور 11 عاماً تأسست الحكومة الملكية، واستمرت بالحكم حتى عام 1958 إذ تحول شكل الحكم إلى جمهورية. وبعد عقد من الزمن، سيطر حزب البعث على العراق واستمر حكمه حتى عام 2003 حين سقط على يد أمريكا وحراك الشعب.

الحقيقة هذه جعلت الشيعة لا ينالون نصيبهم من الحكم بالرغم من كونهم أغلبية، لأن العراق منذ العثمانية كانت تديره الطبقة الارستقراطية السنية، واستمر الأمر في حقبة الاستقلال على هذا المنوال.

من هنا فان حوزة النجف، لم يكن لها دور في العراق، وإذا ما أصبح لها دور سياسي، فانه كان هامشياً لا أكثر، علما إنها كانت حساسة تجاه إيران، ومرد هذا هو التشيع نفسه ثم المرجعية الشيعية واستقرارها في النجف، وكذلك أعضاء المجتمع المثقف المتحدث بالفارسية في العراق ممن كان على تنقل وحركة دائمة بين إيران والعراق.

أما القضية الأخرى فتعود إلى مكانة حوزة النجف وشهرتها، فهي قد تأسست قبل ألف عام، لكن هذا لا يعني بأنها كانت تتمتع بالقوة طيلة تلك القرون، إذ كانت الحلة لقرون مكانا للعلم، ثم ولفترات طويلة أصبحت بعض المدن الإيرانية مثل أصفهان وطهران، مراكز علمية للعالم الشيعي.

لكن منذ سقوط الدولة الصفوية، تحولت النجف وكربلاء تدريجياً إلى حوزات تتمتع بقوة كبيرة مما ساهم في ظهور المرجعية الشيعة الكبرى هناك، ومنذ تلك الحِقْبَة، أصبح العراق المدرسة التي يتخرج منها كبار المرجعيات الشيعية وكذلك المرجعيات المناطقية في إيران، ومنهم أسر النجفي والحائري وغيرها ممن كان أبناءها يدرسون أكثر من 15 سنة في النجف، ثم كانوا يعودون إلى إيران لإدارة المرجعية المحلية أو إدارة شؤون المدن الإيرانية.

وفي عهد القاجارية، غالبا ما كانت المرجعية الشيعية في النجف الأشرف، حيث كان مراجع الدين يتمتعون بمستوى عال من الحرية على خلاف إيران، وعلمياً كانوا يتمتعون بالرئاسة والسيادة، وكانت آرائهم تعلو على آراء الآخرين، ففي ثورتي التنباك والدستورية، كانت النجف تملك اليد العليا والتأثير اﻷكبر في قضايا إيران، فهي من أعادت الدستورية إلى إيران، وهذه القضية المهمة التي لا يمكن تجاهلها.

عندما تأسس العراق كوحدة سياسة جديدة حوالي عام 1921، سقطت الدولة القاجارية في إيران وتسلمت اﻷسرة البهلوية مقاليد الأمور، فظهرت فكرة استقلال المرجعية في إيران.

وغالبا ما كان يتم طرح قضايا ذات خلفية اقتصادية مثل مسألة انتقال الأموال (الشرعية) إلى العراق وكذلك بعض القضايا السياسية ومنها معارضة فكرة أن يدير إيران مرجع تقليد يسكن النجف. وبالتزامن مع تراجع دور علماء الدين في إيران، تضاءلت العلاقات بين إيران والعراق. والاستثناء الوحيد هو آية الله عبد الكريم الحائري الذي أسس مرجعية إيرانية.

النقطة المهمة اﻷخرى حول النجف هي ظهور ما أطلق عليه “معسكر إيراني” في العتبات المقدسة طيلة القرون الأربعة أو الخمسة الماضية، أي بعد الصفوية، امتد من الكاظمية حتى كربلاء. تمتع هذا المعسكر بقوة كبيرة في العهد القاجاري، ولربما كان اﻹيرانيون يكوّنون ثلث سكان كربلاء في مرحلة من الزمن، وقد اشتدت هذه الحركة في العهد القاجاري.

عند الإجابة على السؤال، لا يمكن تجاهل أمر مهم وهو أن النجف لم تخضع سياسيًا لا لإيران ولا للعثمانية. إذا أخذنا بمبدأ إمكانية تأثير السلطة السياسية في الفكر والمعرفة وفي إنتاج المعرفة الدينية والإنسانية، لم يكن اﻷمر في النجف يسير على هذا المبدأ، بل كان تابعا للعلاقات الداخلية وبعيدا عن تأثير السلطة السياسية في إيران.

علمًا إن مراجع النجف وعلماءها، كانوا ينظرون إلى الملك في إيران (باعتباره ملك الشيعة) بنظرة احترام. لكن ما حال دون تأثير الدولة القاجارية في فكر النجف وسامرا السياسي هو الحرية التي شهدتها النجف بسبب ضعف الدولة العثمانية قبل الثورة الدستورية وكذلك ممارسات بريطانيا للحد من السلطة العثمانية، فثورة التنباك وانتصارها كانت ناجمة عن هذه القضية.

وفيما يجب عدم تجاهل نشاط علماء الدين في إيران ضد القاجارية, لكن المرجعية الشيعية الكبرى في سامراء نجحت أن تترك تأثيرها (السياسي) دون صعوبة تذكر.

كما إن المرجعيات الثلاثة في النجف الداعمين للثورة الدستورية (آية الله محمد كاظم الخراساني، والميرزا حسين الخليلي الطهراني، وآية الله عبد الله المازندراني) لم يكونوا خاضعين لسلطة الملك القاجاري محمد علي شاه، بل اتخذوا موقفا مناهضا له.

فكل هذه اﻷمور تندرج ضمن القضايا التي يجب الاهتمام بها عند النظر إلى تاريخ علاقة النجف بالسياسة وبالسلطة السياسية في إيران والعراق.

س. كيف يمكن تبيين دور حوزة النجف ومكانتها عند البحث عن الخطوط الدينية والسياسية الرئيسة في العراق المعاصر؟ ج. أرى انه يجب تقسيم تاريخ النجف الأشرف إلى عدة مراحل بالنظر إلى التطورات الرئيسة التي يمكنها إظهار تلك الخطوط أيضا.

المرحلة الأولى، وهي مرحلة ثورتي التنباك- الدستورية، حين كانت إيران تكوّن الاهتمام اﻷساسي للحوزة العلمية في العتبات (سامراء والنجف وكربلاء)، فهي لم تتدخل في تطورات المشهد السياسي العثماني إلا فيما يتعلق بالوحدة الإسلامية وبعض القضايا الهامشية.

فالقضايا السياسية في الجغرافيا البعيدة عن المناطق الشيعية لم تكن محل اهتمامهم أصلًا، كما إن مقاليد الحكم العثماني في العراق كان بيد الطبقة الارستقراطية السنية وبيد أسر دينية مثل الآلوسي وغيرهم.

المرحلة الثانية، وهي دخول الحوزة في معترك إقامة الدولة العراقية المستقلة وتصديها لبريطانيا التي كانت تريد فرض وصايتها على العراق، مما أدى إلى ظهور سلسلة من الصراعات طويلة اﻷمد، وفي نهاية المطاف لم تنجح المرجعية الشيعية في تحقيق نتيجة ملموسة.

لكن العراق وبعد سنوات، استعاد استقلاله في ظل ظروف عالمية جديدة. وفي هذه المرحلة بالذات ظهرت ثورة العشرين بقيادة مراجع الدين الشيعة لمواجهة الدور البريطاني. وفيما لم تنجح الثورة بتحقيق أهدافها وتم إبعاد المرجعيات الدينية عن التدخل في مشهد العراق السياسي، لكن المراجع والوسط الشيعي وخاصة قادة القبائل الشيعية، تركوا بصمتهم في تلك التطورات.

المرحلة الثالثة وهي حقبة الصراع مع حزب البعث التي بدأت منذ نهاية الستينيات. ومن أسباب هذا الصراع يمكن اﻹشارة إلى انتشار الأفكار اليسارية والماركسية، والنهج الاستبدادي للسلطة في العراق، وكذلك ظهور حمى الإسلام السياسي في العراق تحت تأثير إخوان المسلمين وتأسيس حزب الدعوة وغيره من الحركات، مما أدى إلى نشوب صراع حاد بين العلماء الشيعة وبين الحكومة البعثية. كما إن تطورات المشهد الإيراني كانت متغير! مهمًا في تلك العلاقة.

وفي هذه المرحلة بالذات اشتدت النزعة الوطنية والعروبية عند شيعة العراق، وقد ساهمت مرجعية آية الله الحكيم وتأسيس حزب الدعوة، وكذلك ظهور الإسلام السياسي في إخراج النجف من نفوذ إيران إلى حد بعيد، فأصبحت النجف قضية عراقية داخلية. كما أنها كانت على علاقة بالعالم العربي أيضا.

هكذا يتبين بأننا لسنا أمام تجرِبة ومرجعية دينية واحدة في العراق وإنما عدة مرجعيات وعدة تجارب دفع العلماء ثمنا باهظا لاجتيازها واجتياز ما أتت به من أزمات صعبة، ولا سيما في المرحلة الأخيرة أي هيمنة حزب البعث التي كلفتهم صدمات وخسائر فادحة.

لم تكن النجف بمدينة كبيرة، لكن لا يمكن إحصاء عدد علماءها وطلابها ممن قتلهم صدام. نحن هنا أمام شكل من الإبادة الجماعية وتدمير الحرث والنسل، ولا سيما في أيام انتفاضة شعبان عام 1991، فقلما نجد أسرة من أسر علماء الدين لم تفقد العشرات من أفضل أبنائها.

هذه الأحداث تركت تأثيراً كبيراً في معنويات الشيعة فذاكرتهم مطبوعة بتجربة الاستبداد الداخلي تحت عنوان البعث أو غيره من القضايا المرّة. فمن ذاق مرارة الاستبداد ووطأته وآمن بأن جذور المشاكل داخلية، لم يعد يبدي حساسية كبيرة تجاه الأجانب. فالشيعة لم يخفوا ترحيبهم بالقوات الأجنبية للقضاء على صدام، وإن بادر جزء كبير منهم إلى مواجهتها لاحقًا.

 

المصدر: شفقنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky