الإمام الكاظم

البعد الاستراتيجي لسياسة الإمام الكاظم(ع) في مقاومة الانحراف العباسي.. سياسة النضال السلبي

الاجتهاد: في المناخ السياسي العام يبرز عاملان مهمّان في مهمة الإصلاح الديني والتغيير السياسي، وهما:

1- النضال الإيجابي، ويعنى بمقوّمات الاندماج الكلي في العالم السياسي واستيحاء إيجابياته الإيدولوجية، والإفادة بالقوة وغير القوة، وفي كل المفردات المتفرّعة عليهما، في سبيل الكسب السياسي والإنعاش الاقتصادي والاستيلاء على السلطة، فالهدف هو السلطان، فما يؤخذ بالقوة يسترجع بالقوة، والحق يؤخذ ولا يُعطى.

وقد يستعين هذا المبدأ بنظرية الغاية التي تبرّر الواسطة، وبالوسائل الأخرى التي تحقق هذا المبدأ، ولا نريد أن نناقش هذا المبدأ في التسمية ولا في المكاسب المترتّبة عليه، فهو نفسه له إيجابيته وله سلبيته بوقت واحد.

وقد يتوّج النضال الإيجابي بالأسلوب الدبلوماسي، وقد يعتمد المناورة والدوران في التماس ما يراد، سواء أكان ذلك حقاً أم باطلاً!! إذ المهم العائدية بالنفع المرتقب، وقد يغلّف هذا المناخ بستار من الضبابية القائمة، والمجاملة الكاذبة إزاء الغاية المتوخاة بهذا المنهج أو ذاك.

٢- النضال السلبي: ويعنى بمفارقة النظام السياسي قولاً وعملاً وموضوعية، وذلك يقتضي الإعراض حيناً، والإنكار حيناً آخر، وقد يدعو إلى المقاطعة للحكم في كل شيء فيجعل حركته مشلولةً متعثرة، وبهذا تكون المعارضة الرافضة شعاراً ودثاراً، وقد يعنى بالمطالبة لتحقيق العدل واستنقاذ الحقوق المهدورة، وقد يدعو إلى الحياة الحرة الكريمة في ضمن ذلك، وقد يكون مقتصراً على رفض التعاون والتعامل مع الجهات الحاكمة في مؤسساتها ومرافقها ودواوينها بشكل عام.

وأئمة أهل البيت “عليهم السلام” بالتزامهم منهج التقية لدى تفجّر حياة القسر والإرهاب الدموي، قد يلتزمون النضال السلبي خطاً في عدة طرق، فينطلقون من مبدأ إضعاف الأنظمة ورفضها، وإحكام عزلتها السياسية من قبلهم، وإشعار الشعب المسلم بإنكارهم لأعمال السلطان وأعوان السلطان.

وقد يستقبل الأئمة الوجه المشرق للنضال الإيجابي لإقامة دولة العدل، كما مثل ذلك أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في قتاله للناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد يكون النضال الإيجابي إنكاراً عملياً لبسط حكام الجور وولاة السوء فيلتجئ إلى الكفاح المسلح، كما مثل ذلك سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) في ثورة الطف.

والإمام المعصوم هو صاحب القرار وحده في هذا الاتجاه أو ذاك بما تمليه عليه ضرورة الوظيفة الرسالية الملقاة على عاتقه، دون النظر للعواطف والأحاسيس والانفعالات الذاتية، فهو بعيد منها ومنزه عنها، فهو حينما يتصرف فيوحي من التكليف الشرعي، وبعناية من التسديد الإلهي، ناظراً المصلحة العليا وحدها دون التأثر بالأهواء أو الانصياع للضغوط مهما كان، وكلا المنهجين الذين يسلكهما الإمام لهما منطلق واحد هو الحفاظ على بيضة الإسلام من وجه، وقيادة الأمة بأمانة وإخلاص من وجه آخر.

فالإمام إذا مصدر القرار في الجو السياسي المحموم، وله البصيرة النافذة بكيفية تنفيذ القرار سلباً أو إيجاباً، فهو قد يتوسط عند السلطان لقضاء حوائج أوليائه، واستنقاذ حقوق المسلمين، ولكنه في الوقت نفسه يمانع ممانعة شديدة من الانضواء تحت راية السلطان أو الانخراط في ديوانه وحاشيته وبطانته، فذلك شيء وهذا شيء آخر.

والإمام الصامد موسى بن جعفر (عليه السلام) قد تبنى الأمرين، وسلك النهج بأناة وروية وتطلع سليم.

كان لرجل من أهل الريّ بقايا أموال يطالبه بها بعض الولاة، فطلب من الإمام أن يسعفه بمفاتحة الوالي في أمره، فاستجاب الإمام الكاظم ملبياً طلبه.

وكتب إلى الوالي بالنص الآتي:

بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن الله تحت عرشه ظلاً لا يسكنه إلا من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل عليه سروراً، وهذا أخوك والسلام».

فذهب الرجل برسالة الإمام إلى الوالي قلبّى حاجته، وما اكتفى بذلك بل قاسمه ديناراً بدينار، ودرهما بدرهم، وثوباً بثوب، وأعطاء قيمة ما لم يمكن قسمته، وهو يقول له: يا أخي هل سررتك؟ فيقول: أي والله.(1)

ولمّا حمل الإمام موسى بن جعفر إلى هارون الرشيد، جاء إليه هشام بن إبراهيم العباسي، فقال للإمام يا سيدي قد كُتب لي صك إلى الفضل بن یونس، تسأله أن يروّج أمري!!

قال: فركب إليه أبو الحسن (عليه السلام)، فدخل عليه حاجبه، فقال: يا سيدي! أبو الحسن موسى بن جعفر بالباب. قال: إن كنتَ صادقاً فأنت حرٌ ….

فدخل الإمام، فخرج إليه الفضل بن يونس حافياً، ووقع على قدميه يقبّلهما، فقال له الإمام اقض حاجة هشام بن إبراهيم فقضاها(2).

هذه الإيجابية بهذه الحدود، كانت بتقدير الإمام وساطة ناجحة لاستباق الخيرات والمسارعة بإنجازها، وقضاء حق من حقوق الأخوة في الله، وفيها تنفيس كرب وإغاثة ملهوف. ولكن الإمام يقف الموقف الصارم والحازم تجاه الانضمام لعمل السلطان، والانضواء في رفّ معيته وسطوته.

فقد حدّث زياد بن أبي سلمة، قال: دخلتُ على أبي الحسن موسى(عليه السلام)، فقال يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟

قلت: أجل ؛ قال لي: ولِمَ؟ قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال، وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: يا زياد! لئن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة؛ أحبُّ إليَّ من أتولّى لأحد منهم عملاً، أو أطأ بساط رجل منهم، إلا لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك، قال: إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه.

يا زياد: إنّ أهون ما يصنع الله بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله من حساب الخلائق.

يا زياد فإن وليت شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك.

يا زياد: أيما رجل منكم تولّى لأحد منهم عملاً ثم ساوى بينكم وبينهم فقولوا له : أنت منتحل كذّاب.

يا زياد: إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم وبقاء ما أتيت إليهم عليك»(3).

إن هذا التحذير المخيف الصادر عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) تجاه مغبّة العمل عند السلاطين والانخراط في صفوف الظلمة، لحريّ بكل مسلم أن يجعله نصب عينيه وهو يتولى المسؤولية في الحكم، أية مسؤولية أصغيرة كانت أم كبيرة، لأنه قد ينحرف وتأخذه العزة بالإثم، أو قد يتيه بولايته على الآخرين فيضلّ عن الطريق السوي، وما أكثر من تورّطوا في هذا الانهيار السحيق فتجاهلوا الخدمة العامة، وحدبوا على المصالح الذاتية، ولم يعيروا أذنا صاغية لظلامات الناس ومشكلات الأمة، فصاروا من جبابرة الأرض، متجاهلين أنّ المسؤولية عبارة عن نيابة فعلية عن الشعب يفترض فيها الإحسان إلى الإخوان، وتفريج كروب الإنسان، ودرء أحداث الزمن عن الأسرى وذوي الاحتياج، وما يجري هذا المجرى في ضوء توجيه الإمام.

ولو استعرضت مصادر حياة الإمام في هذا الملحظ الخاص لرأيت عجباً كبيراً فيما يستفز الإمام من تولية أبسط الأمور لدى الحاكمين، وقد لا نرى فيها بأساً كثيراً، ولكنه ينكرها ويشجبها ويستحسن تركها والإعراض عنها.

فهذا صفوان الجمال، ومنزلته لدى من عاصر من الأئمة غير مجهولة، وهو على قدر عظيم، ومع هذا فإنّ الإمام يتجه نحوه بالقول: “یا صفوان؛ كل شيء منك حسن جميل ما عدا شيئاً واحداً!!

قال صفوان جعلت فداك؛ أي شيء؟
قال الإمام: كراؤك جمالك من هذا الطاغية (الرشيد).
قال صفوان: والله ما أكريته أشراً، ولا بطراً ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا الطريق – يعني طريق الحج – ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
فقال له الإمام: أيقع كراك عليهم؟
قال صفوان: نعم جعلت فداك.
قال الإمام: أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟
فقال الإمام: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً للنار»(4).

فما كان من صفوان إلا أن باع جماله وترك المهنة. وكان هذا النكير من الإمام والتشديد فيه لئلا ينتظم أولياؤه في عداد أولياء الظلمة وأعوانهم، وهو ما تحرّمه الشريعة الغراء.

ولئن حقق الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عزل النظام في نضاله السلبي هذا، فإنّه قد اخترق هذا النظام من الداخل بما لم يسبق إليه تأريخ الإمامية السياسي، وكان ذلك بإقرار من الإمام حيث استطاع أولياؤه المقربون أن يصلوا إلى أعالي مراكز السلطة، وأن يكافحوا أمن النظام العباسي ضدهم بالأمن المضاد.

الهوامش

(۱) ظ: المجلسي / بحار الأنوار ٤٨ / ١٧٤ عن الاختصاص.
(2) ظ: الكشي / الرجال / ۳۱۱ + البحار ٤٨ / ١٠٩.
(3) الكليني / الكافي ٥ / ۱۰۹ + المجلسي / البحار ٤٨ / ١٧٢ – ١٧٣.
(4) ظ: الكشي / الرجال / 276.

 

المصدر: كتاب: الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي – الدكتور محمد حسين على الصغير – ص 225– الناشر: العتبة العلوية المقدسة – قسم الشؤون الفكرية والثقافية .

تحميل الكتاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky