الاجتهاد: تعتبر القرون الأربعة الهجرية الأولى القرون الأساسية في بناء الفكر الإسلامي بشكلٍ عامّ، والفكر الشيعي بشكلٍ خاصّ. فبدايات هذه القرون هي التي تسمّى في الثقافة الإمامية بعصر الحضور، أي الفترة التي كان النبيّ وأئمة أهل البيت عليهم السلام حاضرين بين ظهراني المسلمين. وفي هذه الفترة أنشأ النبي وأئمة أهل البيت اللَّبنات الأساسية للفكر الإسلامي. إعداد: الشيخ أحمد بن عبد الجبار السميّن*
الحديث عن دور هذه القرون في تأسيسِ علم الأصول يرتبط منهجياً بالبحث، وتسليط الضوء على أصل وجود العملية الاجتهادية في المذهب الإمامي؛ فعلم الأصول هو منطق علم الفقه([4])، ووجود الاجتهاد الشرعي في تلك القرون شاهدٌ بارز على وجود الأفكار الأصوليّة الأوّلية.
فهل مارس الشيعة الأوائل نشاطاً اجتهادياً يمكننا من خلاله الكشف عن بيئة لنشأة علم الأصول، ولو بحدِّها الأدنى؟([5]).
لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أن هذه الحقبة من التأريخ الفكري للشيعة فَقَدَتْ الكثير من مصنَّفاتها ومدوَّناتها، والتي تُعَدّ المصادر المهمّة للكشف عن تلك البيئة الفكرية؛ لهذا نحن مضطرّون إلى تحليل ما بأيدينا من معطيات ومعلومات ووثائق للخروج بالنتائج العامة لهذه المرحلة.
لقد اختلف العلماء والباحثون في وجود نشاط اجتهادي عند الشيعة في هذه الحقبة من تأريخهم، ويمكن هنا ذكر رأيين رئيسين في هذا السياق:
الرأي الأوّل: يذهب إلى أن علماء الشيعة لم يكونوا يمارسون أيّ عملية اجتهاد حتّى نهاية القرن الثالث الهجري تقريباً؛ ويرجع هذا إلى عدم حاجتهم للاجتهاد في ظلّ تواجد النبيّ وأئمة أهل البيت بينهم ـ مع تفاوت هذا التواجد تبعاً للظروف السياسية التي كانت تحكمهم آنذاك ـ، فعصر الحضور عند الإمامية انتهى بالغَيْبة الكبيرة للإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي× سنة 329هـ، بوفاة آخر وكلائه محمد بن عليّ السَّمْري.
ففي عصر حضور النبي والأئمة لا معنى للحديث عن اجتهاد للوصول إلى الأحكام الشرعية، فالحاجة للرأي الشرعي يمكن تأمينها بسؤال الإمام بشكل مباشر، أو بسؤال الرواة الذين كانوا على اتصال مع الإمام في بعض المواسم العبادية، كالحجّ مثلاً، فيسألونهم عمّا طرأ عليهم من قضايا خلال العام، فأيّ معنى للاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي بعد هذا؟
وقد تبنّى هذا الرأي مجموعة من الباحثين، منهم: تشارلز آدمز([6])، الدكتور محمود شهابي(1410هـ)([7])، السيد عبد الرزاق المقرَّم(1391هـ) الذي ذكر أنّ باب الاجتهاد عند الشيعة انفتح مع الشيخ ابن الجنيد الإسكافي في القرن الرابع الهجري([8]).
كما ذهب لهذا الرأي الأخباريون من الشيعة الإمامية، بل قالوا بأن الأئمة قد نَهَوْا عن الاجتهاد، وللشيخ عبد الله السماهيجي البحراني(1135هـ) رسالة تكشف عن هذا الاتجاه عند الأخباريين، وهي بعنوان: (رسالة في نفي الاجتهاد وعدم وجوده في زمان الأئمة الأمجاد)([9])، وتبنّى المولى محمد مهدي النراقي(1209هـ) عدم وقوع الاجتهاد في عصر النبيّ والأئمة، وذكر أنّه لم يُنْقَل عن أحدٍ من أصحابهم أنّه يجتهد، وذهب إلى عدم جواز الاجتهاد في عصر الحضور؛ لإمكان تحصيل اليقين بالأحكام من خلال سؤالهم للمعصوم، وجوازه في عصر الغيبة لجواز العمل بالظنّ([10]). وتبنَّى هذا الرأي أيضاً السيد هاشم معروف الحسني(1403هـ)([11]).
الرأي الثاني: وهو الذاهب إلى أن قدماء الشيعة كان منهم مَنْ يجتهد، ولو بالصورة البسيطة للاجتهاد، حتّى مع وجود المعصوم بينهم، بل يمكن القول: إن للاجتهاد في هذا العصر مبرّراته الموضوعية.
وقد ذهب لهذا الرأي الشهيد الشيخ مرتضى مطهري(1399هـ)([12])، الشهيد السيد محمد باقر الصدر(1400هـ)([13])، السيد روح الله الخميني(1409هـ)([14])، السيد أبو القاسم الخوئي(1413هـ)([15])، الدكتور أبو القاسم كرجي(1432هـ)([16])، الشيخ ضياء الدين العراقي(1361هـ)([17])، الشيخ آغا بزرگ الطهراني(1389هـ)([18])، الشيخ عبد الهادي الفضلي(1434هـ)([19]) ، والشيخ فاضل القائيني النجفي([20])، وغيرهم.
ويمكن ذكر مجموعة من المؤشِّرات التي تؤكِّد فكرة وجود الاجتهاد الشيعي في هذه القرون:
المؤشِّر الأوّل: وهو مرتبط بطبيعة الأشياء؛ فلم يكن المجتمع الشيعي مجتمعاً واحداً قريباً جغرافيّاً من الإمام، بل كان الشيعة مجموعة من التكتُّلات المتفرِّقة في العالم الإسلامي الكبير؛ في الكوفة والبصرة وبغداد وقم وخراسان وغيرها، وهذا البُعْد المكاني من الإمام جعل الوصول إليه أمراً غير يسير ولا متيسِّر آنذاك، وهناك ما يؤكّد أنَّ من الشيعة مَنْ كان لا يلتقي بالإمام إلاّ في موسم الحجّ.
فمن الطبيعي أن هذا البُعْد المكاني خلق طبقة وسيطة بين الشيعة البعيدين عن الإمام والإمام نفسه، وهم طبقة الفقهاء الرواة، الذين هم على تواصل مع الإمام أو مع مَنْ يتواصل معه؛ لمعرفة الأحكام الدينية، ونقلها لعموم الشيعة، وهذا ما بذر البذور الأوّلية والبسيطة للاجتهاد، وهي تلك القواعد العامّة التي تلقّاها الراوي من الإمام وحديث الإمام، وبدأ بتطبيقها في حال عدم القدرة على التواصل مع الإمام.
المؤشِّر الثاني: تؤكِّد الانقسامات الفكريّة التي مرَّتْ على المجتمع الشيعي آنذاك على أن ثمَّة نوعاً ولوناً من الممارسات الاجتهادية كانت بين علماء تلك الحقبة التأريخية، حتّى تحوَّلت تلك الاختلافات فيما بعد إلى مدارس فكريّة متمايزة فيما بينها. فهذا السيد المرتضى(436هـ) يذكر أن جماعة من رواة الشيعة، منهم: الفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمان، كانوا من القائلين بالقياس([21]).
والخلاف المنهجي المعروف بين مدرستي قم النصّية وبغداد الكلاميّة، وهو ما تؤكِّده توجُّهات الشيخ المفيد(413هـ) في بغداد والشيخ الصدوق (381هـ) في قم.
والاختلاف بين أصحاب الأئمة في موضوع الغلوّ والتقصير في أمر الأئمة وغيرها، ممّا يعطي أن جوّاً اجتهادياً أنتج هذا التنوُّع في وجهات النظر.
المؤشِّر الثالث: رَصْد مجموعة من الظواهر ـ في عصر الحضور أو ما هو قريب منه ـ التي كشفت عن أن المجتمع الشيعي لم يكن خالياً من ممارسة اجتهادية بنحوٍ ما. ومن هذه الظواهر:
الظاهرة الأولى: التعارض بين الأحاديث المنقولة عن النبيّ وأهل البيت، والتي لم تكن بالظاهرة العارضة في الحديث الشيعي. ويمكن تأكيد هذا بالتالي:
1ـ الروايات الواردة عن أهل البيت^ التي تُعطي الفقهاء الرواة طرق حلّ هذا التعارض الذي قد يواجهونه، كرواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله×: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله؛ فما وافق كتاب الله فخذوه؛ وما خالف كتاب الله فردّوه. فإنْ لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة؛ فما وافق أخبارهم فذروه؛ وما خالف أخبارهم فخذوه)([22])؛ ورواية عمر بن حنظلة قال: سألتُ أبا عبد الله× عن الرجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: مَنْ تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنما تحاكم إلى طاغوت، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾، قلتُ: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران مَنْ كان منكم ممَّنْ روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضَوْا به حَكَماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً)([23]).
2ـ وقوع بعض الشيعة في حَيْرة تجاه التعارض بين بعض الأخبار، فقد نقل الشيخ الصدوق الأب(329هـ) هذه الحيرة في الكتاب المنسوب إليه (الإمامة والتبصرة من الحَيْرة)، بقوله: (…ورأيت كثيراً ممَّنْ صحّ عقده، وثبتت على دين الله وطأته، وظهرت في الله خشيته، قد أحادته الغَيْبة وطال عليه الأمد، حتى دخلته الوَحْشة، وأفكرته الأخبار المختلفة والآثار الواردة)([24])، ثمّ عقد فصلاً بعنوان: (أسباب اختلاف الروايات وموجبات الحَيْرة والاشتباه).
وأما بُعَيْد الغيبة الكبرى فينقل لنا الشيخ الطوسي(460هـ) حجم الأزمة التي عاشها بعض الشيعة جرّاء هذا التعارض بين الأحاديث. يقول في كتابه (تهذيب الأحكام): (ذاكرني بعض الأصدقاء (أيَّده الله)، ممَّنْ أوجب الله حقَّه علينا، بأحاديث أصحابنا (أيَّدهم الله ورحم الله السلف منهم)، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ، حتّى لا يكاد يتَّفق خبر إلاّ وبإزائه ما يضادّه، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابله ما ينافيه، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرَّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يَزَلْ شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به، ويشنِّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أن هذا ممّا لا يجوز أن يتعبَّد به الحكيم، ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشدَّ اختلافاً من مخالفيكم، وأكثر تبايناً من مباينيكم.
ووجود هذا الاختلاف منكم، مع اعتقادكم بطلان ذلك، دليلٌ على فساد الأصل، حتّى دخل على جماعةٍ، ممَّنْ ليس لهم قوّةٌ في العلم، ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ، شبهةٌ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ؛ لما اشتبه عليه الوجه في ذلك، وعجز عن حلّ الشبهة فيه…)([25]).
كما ألَّف كتاب (الاستبصار في ما اختلف من الأخبار)، الذي سعى فيه لمعالجة التعارض والاختلاف بين الروايات.
الظاهرة الثانية: موقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام الحاسم من مدرسة الرأي ومبادئها الاجتهادية، التي من أهمّها: موضوع (القياس). فقد واجه أئمة أهل البيت، والشيعة تَبَعاً لهم، القياسَ مواجهةً طويلة وصريحة، أنتجَتْ نبذاً إماميّاً للقياس. فقد ذكر السيد الخوئي(1413هـ) أن الروايات الواردة عن أهل البيت في شأن القياس بلغت أكثر من خمسمائة رواية([26])،وهذا يوضِّح حجم المواجهة.
إن هذه التجاذبات حول موضوع القياس كان تجاذباً أصوليّاً بامتيازٍ، فهو ممارسة اجتهادية، وقد أسَّست لقاعدةٍ هامّة لكثير من الموضوعات التي أُدرجت لاحقاً ضمن البحث الأصولي، كما سنلاحظ هذا لاحقاً.
الظاهرة الثالثة: قبول ورفض الروايات عند الشيعة منذ القرن الأولى. فقد أثبتت الوثائق التأريخية أن الشيعة كانت لديهم معاييرهم لقبول ورفض الروايات الواصلة إليهم من الرواة. فما نُقل عن المدرسة القمِّية القديمة في تشدُّدها في أمر الرواية والرواة شاهدٌ على وجود المعايير، ولو بصورتها البسيطة.
كما أن نصّاً للشيخ الطوسي في كتابه (العدّة في أصول الفقه) يؤكِّد سَيْر مذهب الإمامية على طريقة التوثيق والتضعيف الرجاليّين، وهو من الاجتهاد، يقول فيه: (إنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، ووثَّقت الثقات منهم، وضعَّفت الضعفاء، وفرَّقوا بين مَنْ يُعتمد على حديثه وروايته، ومَنْ لا يُعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم، وقالوا: فلانٌ متَّهم في حديثه، وفلان كذَّاب، وفلان مخلِّط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفيّ، وفلان فطحيّ، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها.
وصنَّفوا في ذلك الكتب، واستثنَوْا الرجال من جملة ما روَوْه من التصانيف في فهارسهم ، حتّى أن واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده، وضعَّفه برواته…)([27])، بل ذهب السيد الخوئي إلى أن عدد الكتب الرجالية إلى زمان الشيخ الطوسي قد بلغت أكثر من مائة كتاب([28]). وقد أحصى الشيخ مسلم الداوري عناوين أربعين كتاباً من كتب قدماء الرجاليين الشيعة([29]).
إن هذا الاستعراض الإجمالي([30]) يكشف عن أن قدماء علماء الإماميّة كانوا يمتلكون مجموعة من الضوابط لتقييم رواة الحديث، توثيقاً وتضعيفاً، وهو ما يؤكِّد امتلاكهم لآليّات التعامل مع الروايات. وهذا يصبّ أيضاً ضمن البحث الأصولي.
المؤشِّر الرابع: كشفت بعض النصوص الروائية عن أن الأئمّة^ تحدَّثوا عن موضوع الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي في بعض صوره. وهذه النصوص من أقوى المؤشِّرات على بدء ووجود العملية الاجتهادية منذ عصر حضور المعصوم.
وهنا نذكر نماذج منها:
1ـ فمنها: ما يؤصِّل لشرعيّة الاجتهاد، مثل: (إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْقِيَ إِلَيْكُمُ الأُصُولَ وَعَلَيْكُمْ أَنْ تُفَرِّعُوا)([31])؛ (أَنْتُمْ أَفْقَهُ الناسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلامِنَا. إِنَّ الْكَلِمَةَ لَتَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ، فَلَوْ شَاءَ إِنْسَانٌ لَصَرَفَ كَلامَهُ كَيْفَ شَاءَ، وَ لا يَكْذِب)([32])؛ (مَنْ أَفْتَى الناسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ الرحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ وَلَحِقَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِفُتْيَا)([33])؛ وغيرها.
2ـ وروايات أخرى تتحدَّث عن قيام الإمام بتعليم الراوي كيفيّة الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي، مثل: ما عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر×: ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك، فقال: يا زرارة، قاله رسول الله|، ونزل به الكتاب من الله (عزَّ وجلَّ)؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، فعرفنا أن الوجه كلَّه ينبغي أن يُغْسَل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه؛ فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يُغْسَلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾، فعرفنا حين قال: (برؤوسكم) أن المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما، ثم فسَّر ذلك رسول الله| للناس فضيَّعوه)([34])؛ وما عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: قلتُ لأبي عبد الله×: عثرتُ فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزَّ وجلَّ؛ قال الله (تعالى): ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، امسَحْ عليه)([35]).
3ـ وطائفة أخرى من الروايات يُرجع فيها أئمة أهل البيت عليهم السلام الشيعة إلى الفقهاء بعنوانهم العامّ، مثل:(…ينظران مَنْ كان منكم ممَّنْ قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا؛ فليرضَوْا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً…)([36])، (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله…)([37]).
4ـ ومنها: الروايات التي يُرجعون فيها إلى فقهاء بأعينهم، مثل: ما عن شعيب العقرقوفي قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء، فمَنْ نسأل؟ قال: عليك بالأسدي (يعني أبا بصير)([38])؛ وما عن عليّ بن المسيب الهمداني قال: قلتُ للرضا عليه السلام: شُقَّتي بعيدة، ولستُ أصل إليك في كلّ وقتٍ، فممَّنْ آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا ابن آدم القمّي، المأمون على الدين والدنيا…)([39])؛ وغيرها([40]).
إن هذا اللون من المرويّات يدفع نحو الاعتقاد بأن موضوع الاجتهاد بعنوانه العامّ كان حاضراً في المجتمع الشيعي الإمامي، وأن الأئمة كان لهم سهمٌ كبير في تنشئة المجتهدين في ذلك المجتمع.
والنتيجة التي يمكن الخلوص إليها من خلال المؤشِّرات الأربعة السابقة هي أن ظاهر الاجتهاد الشرعي ـ ولو بصورتها البسيطة ـ كانت حاضرةً في المجتمع الشيعي من خلال ممارسات الفقهاء الرواة في عصر حضور المعصوم، وأن هذا الاجتهاد كان وليد حاجةٍ طبيعية في المجتمع الشيعي.
وإذا ثبت وجود الاجتهاد في تلك العصور فهذا يلزم منه وجود بعض القواعد التي يحتاجها المجتهد للاستنباط، وهذه القواعد والمسائل هي البدايات الأولى لتكوُّن علم أصول الفقه.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة العلميّة، من المملكة العربيّة السعوديّة. وهذا البحث في عُمدته عبارةٌ عن مجموعة من سلسلة محاضرات ألقاها سماحة الشيخ حيدر حبّ الله في الحوزة العلميّة في قم عام 2004م.
([4]) السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 37، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، ط2، 1425هـ.
([5]) ينبغي التنبُّه إلى أن الاجتهاد الذي هو مدار البحث هنا هو الاجتهاد بمعنى (عملية استنباط الأحكام الشرعية)، لا الاجتهاد بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، والذي قد يُطلق عليه (اجتهاد الرأي)، والمنهيّ عنه في كثير من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت^.
للمزيد حول هذا الموضوع، والتطوُّر الدلالي لمصطلح (الاجتهاد)، لاحظ: السيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول: 37 وما بعدها.
([6]) نقش شيخ طوسي در دگرگوني وگسترش علم نظري حقوق در شيعة، هزاره شيخ طوسي 2: 27 ـ 28، تهيئة وتنظيم وترجمة: علي دواني، دار التبليغ الإسلامي.
([7]) تقريرات أصول، مطبعة الحاج محمد علي العلمي، طهران، ط2، 1361هـ.
([8]) مقدّمة كتاب (التنقيح في شرح العروة الوثقى) 1: 17، دار الهادي للمطبوعات، قم، ط2، 1410هـ.
([9]) الشيخ علي البلادي البحراني، أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين: 175، تصحيح: محمد علي الطبسي، مطبعة النجف، 1377هـ.
([10]) أنيس المجتهدين في علم الأصول 2: 950، بوستان كتاب، ط1، 1430هـ.
([11]) تاريخ الفقه الجعفري: 126، دار الكتاب الإسلامي، ط1، 1411هـ.
([12]) إلهامي أز شيخ طوسي، هزاره شيخ طوسي 2: 41، تهيئة وتنظيم وترجمة: علي دواني، دار التبليغ الإسلامي.
([13]) المعالم الجديدة للأصول: 37، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، ط2، 1425هـ.
([14]) الاجتهاد والتقليد: 66، مؤسسة تنظيم نشر آثار الإمام الخميني، ط1، 1426هـ.
([15]) التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 66، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ط2، 1426هـ.
([16]) أدوار أصول فقه: 26 وما بعدها، الميزان، ط1، 1427هـ.
([17]) الاجتهاد والتقليد 1: 15، بقلم: ميرزا هاشم الآملي، نويد إسلام، ط1، 1430هـ.
([18]) توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد: 76، ط1، 1401هـ.
([19]) التقليد والاجتهاد: دراسة لظاهرتي التقليد والاجتهاد الشرعيين: 197، مراجعة وتصحيح: لجنة مؤلَّفات العلامة الفضلي، مركز الغدير، ط2، 1427هـ.
([20]) علم الأصول: تأريخاً وتطوّراً: 31 وما بعدها، منشورات مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية في قم، ط2، 1418هـ.
([21]) رسائل السيد المرتضى، رسالة (مسألة إبطال العمل بأخبار الواحد) 2: 311، مؤسسة التاريخ العربي، ط1، 1433هـ.
([22]) الشيخ محمد بن الحسن الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 118، تحقيق: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط2، 1414هـ.
([23]) المصدر السابق 27: 137.
([24]) الإمامة والتبصرة من الحيرة: 9، تحقيق: مدرسة الإمام المهدي×، ط1، 1404هـ.
([25]) تهذيب الأحكام 1: 2، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتاب الإسلامي، ط3، 1364هـ.ش.
([26]) مصباح الأصول (ضمن موسوعة الإمام الخوئي) 17: 229، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، 1422هـ.
([27]) الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 141، تحقيق: محمد رضا الأنصاري، ط1، 1417هـ.
([28]) السيد أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث 1: 41، ط5، 1413هـ.
([29]) الشيخ مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 26، بقلم: الشيخ محمد علي المعلِّم، ط1، 1416هـ.
([30]) لتفصيلٍ أكثر لاحظ: الشيخ حيدر حب الله، دروس تمهيدية في تاريخ علم الرجال عند الإمامية (بقلم: أحمد عبد الجبار السميّن)، دار الفقه الإسلامي المعاصر، ط1، 1433هـ.
([31]) محمد بن أحمد بن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط2، 1410هـ؛ الشيخ محمد بن الحسن الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 61، تحقيق: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط2، 1414هـ.
([32]) الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، تحقيق وتصحيح: علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط1، 1403هـ؛ وسائل الشيعة 27: 117.
([33]) الشيخ الكليني، الكافي 1: 42، تحقيق: علي أكبر غفاري ومحمد آخوندي، دار الكتب الإسلامية، ط4، 1407هـ؛ الوسائل 27: 20.
([34]) المصدر السابق 1: 413.
([35]) المصدر السابق 1: 464.
([36]) المصدر السابق 27: 137.
([37]) المصدر السابق 27: 140.
([38]) المصدر السابق 27: 142.
([39]) المصدر السابق 27: 146.
([40]) للاستزادة حول هذا لاحظ: الإمام الخميني، الاجتهاد والتقليد: 70 ـ 80؛ الشيخ عبد الهادي الفضلي، التقليد والاجتهاد: دراسة فقهية لظاهرتي التقليد والاجتهاد الشرعيين: 43 ـ 47، و197 ـ 203؛ السيد عبد الله شُبَّر، الأصول الأصيلة؛ الحُرّ العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة؛ الفيض الكاشاني، الأصول الأصيلة؛ محمد رضا ضميري، دانشنامه أصوليان شيعه 1: 50 ـ 66.
المصدر: مقتطف من مقالة بعنوان أصول فقه الإمامية ، رصدٌ للتكوّن والنشأة على ضوء الوثائق التأريخيةـ القسم الأوّل ـ اعداد: الشيخ أحمد بن عبد الجبار السميّن –