الاجتهاد: المحقق الكركي نجم العلوم الإسلامية الساطع، الذي نال شهرة في عالم الفقه ولُقّب بالمحقق الثاني. لعب دورًا مهمًا في مجال الفقه الإسلامي واصوله وأدخل العديد من الابتكارات في مجال الاجتهاد.
من التطورات التي أحدثها المحقق الكركي في مجال الفقه والأصول، تطورات ذات طبيعة منهجية. وهذا يعني أنه قام بإضافة عناصر جديدة ومبتكرة إلى منهجية الاجتهاد الفقهي والأصولي.
يمكن تقسيم التحولات المنهجية التي أحدثها المحقق الكركي إلى خمسة أقسام.
1 /. الابتكار في الاستنتاج من مبدأ الحكمة الكلامية:
المحقق الكركي قدم ابتكارًا في مجال الاستنتاج من مبدأ الحكمة الكلامية. قبله، تم الاستنتاج بناءً على هذا المبدأ، ولكنه قام بابتكار بعض الأفكار المهمة في مجال الاجتهاد. على سبيل المثال، قدم القاعدة الأصولية “تبعية العموم الأزماني للعموم الأفرادي”.
لقد تركت هذه القاعدة “تبعية العموم الزماني للعموم الفردي”، تحولين كبيرين، أحدهما هو ظهور واستقرار لفظة “العموم الأزماني” كمصطلح بارز في الأصول، والذي اكتسب أهمية متزايدة. وهذا الظهور بدوره، فتح أبوابًا جديدة للأبحاث الأصولية وساهم في إنتاج تصورات ومفاهيم جديدة وحتى إنشاء قواعد أصولية جديدة، مثل القاعدتين: “تخصيص العام الأفرادي لا يعني مخالفة اصالة الاطلاق في المجال العموم الازماني” و”تقييد الإطلاق لا يتسبب في تخصيص العام”.
والآخر هو تطبيق هذه القاعدة والأفكار المستمدة منها على آية الشريفة “أوفوا بالعقود”، مما أدى إلى ظهور مسائل مهمة فيما يتعلق ببعض الاخيارات والمعاطاة وغيرها.
توضيح كل من هذه التطورات، يحتاج إلى مكانه ووقته المناسبين، نريد هنا ببساطة أن نقول إن تفكير المحقق وابتكاراته كان لهما امتداد وتحرك في قلب التاريخ الفقهي.
مثال آخر هو قاعدة جريان أحكام الشرع على المسميات بواسطة الأسماء:
يقول في إثبات هذه القاعدة: “أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء، لأن المخاطب بها كافة الناس، فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة”.
2 /. عنصر إعطاء الاعتبار للرؤية الاجتماعية الشاملة في الاستنباط:
وبناءً على ذلك، تم تقديم ضابطة تتألف من مكونين، الأول أن يكون هناك سلوك اجتماعي له ظهور وحضور جاد اجتماعي من حيث الزمان والمكان، والثاني هو أن يكون الشارع، لم ينكر هذا السلوك المتجذر في المجتمع. في هذه الحالة، سيكون هذا السلوك معتبرًا شرعيًا.
وقد استخدم هذه الضابطة لإثبات جواز النظر إلى وجه المرأة وكفيها (شريطة أن لا يترافق ذلك مع الريبة -الرغبة الشهوانية-). ويقول: “إطباق الناس في كل عصر على خروج كثير من النساء باديات الوجوه والأكف من غير نكير، خصوصا أهل القرى والبوادي”.
3 /. عنصر مرجعية العرف في تحديد المفاهيم وتعريف جملة من الموضوعات والمصالح:
أعطى المحقق الكركي اهتمامًا خاصًا لعنصر العرف في فهم المفاهيم وتعريف كل من الموضوعات والمصالح، وفي هذا الصدد قدم الأصول التالية: قاعدة “اعتبار الحقيقة العرفية في حالة عدم وجود الحقيقة الشرعية”، وقاعدة “معيارية المصلحة العرفية لتقدير الحق الشرعي”.
بالإضافة إلى المبدأ الذي تم ذكره سابقًا والذي سميناه قاعدة “جريان أحكام الشريعة على المسميات بواسطة الأسماء”.
4 /. التركيز على العقل العملي :
وكمثال على ذلك، ذهابه الى عنصر التركيز على القبح العقلي وتوظيفه في التفكير الفقهي.
يقول في موضع: “ومن حيث ان الغصب قبيح عقلا، فلا يسوغ في ملة من الملل، والتمكين من القبيح والتقرير عليه قبيح).
ويقول في موضع آخر: “ولا يأمر بالقبائح ولا يكلف بما ليس بمقدور”.
5 /. التركيز على التحليل العقلي:
اعتمد المحقق الكركي على التحليل العقلي في الاستنباط، وبناءً على ذلك يمكن ذكر مثالين:
أ) جعل عقلانية حكم ما معيارا في الحكم بصدوره من الشرع:
وهذا يمثل وجهة نظر مهمة له.
يعتقد بناءً على ذلك أنه إذا اعتبرنا أن حكم الوارد في الآية الكريمة “وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ” من غمض العيون كحكم واجب على الجميع، فإن الناس لن يعدوا يفتحون عيونهم في الشوارع والطرق.
يقول في ذلك: “إذ لو كلف بهذا آحاد الناس لما فتحوا أعينهم في الشوارع والطرق”.
ونتيجة هذا الاستدلال هي أن هذا الحكم حيث إنه غير عقلاني، فلم يصدر من الشرع.
ب) توجيه التحليل العقلي الى متعلق الأمر:
إذا نظرنا إلى علم الأصول اليوم، فسنرى أن العديد من الأفكار تكونت حول كيفية تعلق الأمر بالطبيعة. قد بدأ وابتكر المحقق الكركي فكرة أصولية في هذا المجال على اساس التحليل العقلي، وهي فكرة “عدم توقف الامر بالطبيعة على القدرة على جميع افرادها”.
وهذه الفكرة قد فتحت الطريق للأصوليين أمام تحليل عميق في هذا المجال، ولا يزال فكره مكانًا للبحث والمناقشة حتى اليوم.
قدمت هذه الدراسة في مؤتمر المحقق الكركي في لبنان