الأديان

الإيمان ملاذ سلام الأديان.. د. عبدالجبار الرفاعي

لا يولد السلام بين الأديان في فضاء الاعتقاد، وانما يولد السلام بين الأديان في فضاء الايمان، لأن المؤمنين في كلّ الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلى لكل منهم في صور تتنوع بتنوع دياناتهم، وبصمة بيئاتهم، فيعيشون التجارب الروحية الملهمة للطمأنينة والسكينة والسلام ذاتها. الايمان حقيقة يتجلى فيها جوهرُ الأديان، والأرضية المشتركة التي تتوحد في فضائها، والشلال الملهم للحياة الدينية فيها.

الاجتهاد: يتشكّل الاعتقادُ في الذهن في إطارِ الأنساقِ الاعتقاديةِ المجتمعية المولّدة له، فمثلا لا يعتقد بإله ذلك الانسانُ الذي يولد ويعيش في سياق أنساق اعتقاد بوذية أو هندوسية أو طاوية، إذ لا تحضر في ذهنه صورة للإله،كما في الأديان الابراهيمية، وإن كان يخضع في بناء متخيله الديني للأسوار التي بناها رجالُ الدين ومؤسساتُه في موطنه وديانته، ولا تتزحزح هذه الصورة أو يخرج عنها، إلّا بعد أن يخترقَ تفكيرُه تلك الأسوار، فيهدمَها بالأسئلة العميقة والنقد الجذري.

أما الايمان فهو ليس فكرةً نتأملها، أو معرفةً نتعلمها، أو معلومةً نتذكرها. الايمان حالة للروح نعيشها، وتجربة للحقيقة نتذوقها. الايمان ملاذه القلب، ومسكنه الروح. وهو ليس صورةً ندركها، الصورة تتشكل في الذهن وهو من يختزنها.

الايمان يثري الروح والقلب، فيلهمها الطمأنينةَ والسكينةَ والسلام، حتى يبلغ توحدُ القلب والروح بالايمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلات الذهن ومشاكساته مهما كانت.
الايمان حالة ديناميكية حية، تنمو وتتغذى وتتطور وتتكرس. إنه جذوة متوهجة، كأنها طاقةٌ كهربائية. الايمان يضئ الروحَ لحظةَ حضوره، مثلما تضئ الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها. وهذا معنى كونه حالةً نتذوقها كما نتذوق الطعام الشهي والشراب اللذيذ.

الايمان يفيض على صاحبَه طاقةً ملهمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمأها، ويتجدد وصالها بمن أودعها عنده، لأن الروح وديعة الله عند الانسان. ففي كلّ غياب للانسان يجد أن حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله عنه ليس سوى احتجابه عن الله.

الايمانَ يحقق الانسانَ في طور وجودي جديد؛ فحيث يسافر الانسانُ للحق تتكرس قدرته، وتترسخ ارادته، وتتعذر هزيمته، لأنه يتحقق بالحق. وبذلك يجعل الايمان الاشياءَ المستحيلة ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.
الايمان والحب كلاهما كيمياء للروح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يولدان معاً، ويرتضعان معاً، ويتكرسان معاً، ويتوحدان معاً، فحيث اشتد الايمانُ يشتدّ الحب، وحيث ذبل الايمانُ يذبل الحب. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحول الايمانُ إلى حب، كما يتحول الحب إلى ايمان.

الايمان عصارة الحب، والحب عصارة الايمان. فكلا الحالتين تنبثقان من منبع واحد وتستقيان منه، يصبح كل منهما صورةً لحقيقة واحدة متعددةَ الوجوه. حين يصير الايمانُ حباً والحبُ إيماناً تشهد حياتُنا أنوارَ الأبد.
أما الاعتقاد فهو مفاهيم ميكانيكية جاهزة، مستودعة في الذهن، مفرغة من كلّ نبض وحياة، لذلك يفشل الاعتقادُ في التحول إلى حب، كما يفشل الحب في التحول إلى اعتقاد.

لا يولد السلام بين الأديان في فضاء الاعتقاد، وانما يولد السلام بين الأديان في فضاء الايمان، لأن المؤمنين في كلّ الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلى لكل منهم في صور تتنوع بتنوع دياناتهم، وبصمة بيئاتهم، فيعيشون التجارب الروحية الملهمة للطمأنينة والسكينة والسلام ذاتها. الايمان حقيقة يتجلى فيها جوهرُ الأديان، والأرضية المشتركة التي تتوحد في فضائها، والشلال الملهم للحياة الدينية فيها.

لا يتخلص الانسان من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الايمان. في الايمان تلتقي الأديان وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرة اللغة الروحية المشتركة التي يتحدث بها ايمانها، لكنها تتفرق وتختلف في الاعتقاد، لأنها تتحدث لغات شتى، لا تفقه كل منها الأخرى.
الاعتقاد يرسم جغرافيا الأديان ويضع الحدودَ الصارمة لها، والحدود بطبيعتها تنفي ما ورائها، ولا تقبل كلّ ما هو خارج فضائها. وذلك ما يبرّر الأفعالَ المتوحشة، مثل العمليات الانتحارية ضد الآخر المختلف. من هنا تأتي الحاجة لتحديث التفكير الديني، وتشتدّ الضرورة اليه في كل عصر يحتجب فيه الله عن العالم، من أجل تحرير الدين من الاغتصاب، وبعث الايمان، وحماية الاعتقاد من الاستغلال في ما يدمر الحياة.

الإيمان الذي تحدثتُ عنه هنا هو إيمان الحرية لا إيمان الاستعباد، إيمان الحرّ لا إيمان العبد.كل إيمان عندما يصبح حقيقةً حيةً، وإشراقةَ نور تلهم الروحَ كلَّ معنى جميل، لن يكون إلا حراً ومُحرِّراً.

وهذا النمط من الايمان المُحرِّر هو ما يؤنسن البشرَ، فهو بقدر ما يحرّر صاحبَه من كلّ أشكال استعباد الروح والقلب والضمير والعقل والجسد، فانه يصيّره مواطناً كونياً، ينتمي للانسان بوصفه انساناً، من دون نظر لمعتقد أو عنصر أو جغرافيا أو ثقافة. لذلك تصبح قضيتُه العظمى تحريرَ الانسان من حيث هو انسان من كل أنواع الاستعباد.

في الإيمان المُحرِّر يوقظُ الضميرَ صوتُ الله، وتُشرق الحياةُ بنوره الأبدي. الإيمان المُحرِّر ينقذ العالم من مأزق المتوحشين، ممن اغتصبوا كلمة الله، فألحدوا بالانسان، واستباحوا اسم الله. الإيمان المُحرِّر وعد مع السلام والحب والجمال، يصبح فيه: الايمان سلاماً والسلام ايماناً، والحب ديناً والدين حباً، والجمال تديناً والتدين جمالاً.

الإيمان الذي أعنيه بـ “الانسانية الايمانية، والايمانية الانسانية” هو الإيمان المُحرِّر، والذي هو نمط حضورٍ لـ “الإله الروحي الأخلاقي” في قلبِ الانسان وضميرِه وحياتِه.
أما إيمان الاستعباد، فهو ضرب من خراب الروح ومرض القلب وشقاء الضمير وسبات العقل. إنه يستبدّ بصاحبه فيأسره، ويُعمي بصيرته، ويصيّره كائناً متوحشاً، مولعاً بالموت لا الحياة، بالحرب لا السلام، بالكراهية لا المحبة. لا يعرف معنىً لاحترام حقوق الناس وحرياتهم.

لا يكترث لما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، لأنه في كلّ قول وفعل أسيرُ صورة إله دموي محارِب، وعبدٍ لمعتقده هذا.
في فضاء إيمان الحرية تنشأ وتتشكل وتتطور معتقداتُ الحريات والحقوق، وفي فضاء إيمان الاستعباد تنشأ وتتشكل وتتطور معتقداتُ العبودية والاستبداد.

هذه رؤيتي للايمان والاعتقاد، كتبتها في سياق خبرتي الدينية، وتجربتي الروحية. وكل رؤية مرآة الرائي، وصورة ذاته، وتجلٍ لكينونته. وقد تجنبت فيما كتبت الضياع في متاهات اللاهوتيين والمتكلمين، التي تذوي فيها الاستبصارات المضيئة للروح وتنطفئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky