الأمر والنهي

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الاعتقاد والعمل / وقفة نقديّة مع الدكتور حسن حنفي

الاجتهاد: لم يميّز الفقهاء والمتكلّمون المسلمون في موضوع الأمرِ والنهي بين النظري والعملي أو بين العقدي والشرعي، باستثناء حديثهم عن عدم جريان الأمر والنهي في حالات الاختلاف الاجتهادي كما سيأتي الحديث عنه لاحقاً بعون الله تعالى، إلا أنّنا وجدنا المفكّر المعاصر حسن حنفي يميل إلى اعتبار الأمر والنهي من شؤون الأفعال وأنّهما لا يتجهان نحو الأفكار

وهذا معناه أنّهما يخصّان الأمور العمليّة والشرعيّة دون النظريات، مما يجعل الأمر والنهي مبدأ للحقوق المدنيّة متعلّقاً بالأفعال الظاهرة لا موجّهاً للفكر بحيث يحدّ من حريّته(1).

وما يبدو لي الدافعَ لحنفي لطرح مثل هذه المقولة هو الحفاظ على حريّة الفكر والاجتهاد في المسألة النظريّة، ومن خلال تحليل كلامه يظهر أنّه قد أخذ من جهةٍ بفكرة أنّ الأمر والنهي في اللغة لابدّ أن يفهما في سياق جملتي: (إفعل) و (لا تفعل)، ممّا يفرض تعلّقهما بالشأن العملي، كما تصوّر ـ من جهةٍ أخرى ـ أنّ فتح المجال للأمر والنهي في الدائرة الفكريّة مع الاعتقاد بوجود مرتبة ثالثة في هذه الفريضة، وهي مرتبة اليد والعنف والقهر وإعمال القوّة، سيفضي إلى سلفية قاتلة وإلى قهر الحريات وقمع الرأي والتجريم عليه، وكأنّه مسكون بهاجس التجربة التاريخية للمعتزلة الذين اعتبروا الاختلاف العقدي معهم دخولاً في المنكر العقائدي،

الأمر الذي دفعهم ـ كما قيل(2) ـ لاضطهاد خصومهم والتنكيل بمخالفيهم في الرأي، وإن كان رأي القاضي عبد الجبار المعتزلي فيما بعد هو سدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا الخلافية التي للاجتهاد فيها مجال، مع اعتقاده من حيث المبدأ أنّ الأمر والنهي يشملان الأفعال والقلوب والعقائد(3).

لكنّنا بيّنا سابقاً وسنبيّن إن شاء الله أنّ الأمر والنهي عنوانان لا يقفان عند حدود هاتين الصيغتين، وأنّ التعبير عن العمل الدعوي والإصلاحي بالأمر والنهي استخدام عرفي عربي، وسنشرح أيضاً أنّه لا توجد في الإسلام مرتبة اسمها مرتبة اليد أو العنف والقهر في الأمر والنهي ما لم يتمّ ترحيل هذه المرتبة إلى مفهوم ديني آخر، وهو مفهوم الجهاد أو القصاص أو الحدود، وهي مفاهيم تُفرَض فيها شروطٌ خاصّة، ولا تستوعب مطلق حالات المعصيّة أو حتى الانحراف العقدي.

من هنا، لا نوافق على حصر الأمر والنهي بالدائرة العمليّة، بل تتعدّى مهمّة المصلحين المجال العملي إلى المجال المفاهيمي، أي إصلاح الوعي والمفاهيم والمقولات أيضاً، وهذا ما نرى دلالاته في النص الديني أيضاً؛

فظاهر إطلاقات وعمومات النصوص القرآنية والحديثية الواردة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها تشمل كلّ خير وحقّ ومعروف ومنكر، بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً وفي البحث القرآني، وهذا معناه أنه كما تجب دعوة المسلم أخاه المسلم للخير بعد اشتراكهما في العقيدة، كذلك يجب على المسلمين دعوة غيرهم للعقيدة الإسلامية؛ لأنّ الإيمان بالله وتوحيده من أعظم الخير وأكمل المعروف، والشرك بالله أو التكذيب به أو إنكاره من أعظم المنكر،

وهذا معناه أنّ أدلّة الأمر والنهي بنفسها سوف تكون داعماً لسياسة الدعوة والتبشير في الإسلام، فضلاً عن السيرة القطعية للأنبياء وللمسلمين في صدر الإسلام وللكثير من الروايات المرغبة في أسلمة الناس ودعوتهم إلى دين الحنيفية الحقّ، فقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ…﴾ (آل عمران: 110)، كما يشمل أمر بعضكم بعضاً كذلك يستوعب أمركم لغيركم على المستوى العملي السلوكي أو على المستوى العقدي، بلا فرق بين القول بأنّ الكفار مكلفون بالفروع أم لا، فحتى لو ما كانوا مكلّفين بها تظلّ هذه الفروع معروفاً وخيراً، وقد قلنا: إنّ هذين العنوانين لا يدخلان بالضرورة ضمن دائرة التقسيم الخماسي للتكاليف في الفقه الإسلامي.

وقد جاء في الحديث المشهور قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «… أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لك حمر النعم»(4).

وهذا الأمر ـ أي مبدأ السياسة الدعوية التبشيرية ـ واضحة في نصوص الكتاب والسنّة والتاريخ، وهي من مشتركات الإسلام والمسيحيّة دون الديانة اليهودية التاريخية، كما هو معروف، وقد سبق أن بحثنا في فقه الجهاد أنّ المجاهدين يحسن لهم دعوة المعتدين للإسلام قبل محاربتهم، وقلنا بأنّ هذا الأمر لا يختصّ بالقول بالجهاد الابتدائي، بل يشمل الدفاعي أيضاً، حيث تتوفر الظروف الموضوعية لهذا الأمر.

وكذلك الحال في الداخل الإسلامي في نقاط الخلاف الاعتقادي والفكري بين المذاهب والتيارات الإسلامية، فإنّ هذا العنوان ـ الدعوة إلى الخير ـ يظلّ سارياً كذلك، فكل فريق يرى خيراً أو حقاً أو معروفاً، عليه أن يغيّره بالوسائل المتاحة في هذا المضمار مع اعتقادنا بعدم جواز استخدام القهر والعنف في هذا السياق، وهذا الموضوع يدفع لمعالجة قضيّة أساسية تتصل بهذا الموضوع، وهي مسألة نشر التشيّع والتمدّد المذهبي الآتية، وكذلك مسألة الكتمان والبيان الديني المتقدّمة.

الهوامش

* هذا البحث جزءٌ من كتاب (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 307 ـ 310)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2014م.

(1) انظر: حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة 5: 256 ـ 257.

(2) انظر: زهدي جار الله، المعتزلة: 60 ـ 61؛ وأحمد شوقي إبراهيم العمرجي، المعتزلة في بغداد وأثرهم في الحياة الفكرية والسياسية: 45.

(3) راجع: شرح الأصول الخمسة: 93، 506 ـ 507.

(4) صحيح البخاري 4: 207، و5: 77؛ وصحيح مسلم 7: 121 ـ 122؛ والنسائي، فضائل الصحابة: 16؛ والكوفي، مناقب الإمام أمير المؤمنين 2: 507.

 

تحميل كتاب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حيدر حب الله

amrberot.pdf فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky