الاجتهاد: التدريس أمانة عند الأستاذ المتصدّي له، فيجب الحفاظ عليها، وتكفّلها بالرعاية والصون، ويكون ذلك من جهتين:
الأولى: التحضير للدرس، والوقوف عند المطالب التي يتضمّنها المتن، بما يتضمّنه ذلك من الفهم وبذل الوسع في إيصال الأفكار إلى الطالب حتى يفهمها.
الثانية: مراعاة الغرض والهدف المتوخّى من دراسة الكتاب، فإن الغرض عادة هو فهم المطالب في الكتاب من أجل تجاوزه والانتقال إلى مرحلة أخرى.
ويتطلّب هذا الغرض التقيّد – عادةً وغالباً- بالمطالب الموجودة في المتن وعدم الخروج عنها يميناً وشمالاً، والتوسّع بما يخرج الدراسة عن مرحلتها الفعليّة ويدخلها في مرحلة أخرى، وهو يوجب تشتيت الذهن عند التلميذ، وضياع المطالب الأساسية، فضلاً عن استنزاف الوقت والعمر في تلك المرحلة؛
فمن يُلقي درس الحلقة الثانية من كتاب دروس في علم الأصول للشهيد الصدر (ره)، يجب عليه أن يحافظ على صفة كونه دراسة الحلقة الثانية ولا يخرجه إلى الحلقة الثالثة فيزول الفارق بين الحلقتين! ولا يصح لمن يعطي درس الحلقة الثالثة أن يحوّله إلى درس بمستوى البحث الخارج.
والذي يُدرِّس كتاب اللمعة الدمشقية فعليه الالتزام بوصف مرحلة اللمعة ولا يداخله بمرحلة المكاسب المحرّمة أو البيع من كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري (ره).
بل الصحيح الضروري في تدريس المتون الالتزام بما في المتن من مطالب على مستوى العرض والنقد، وعدم الخروج عمّا هو مقرّر فيه إلّا في موارد استثنائية قد تقتضي ضرورة تفهيم بعض المطالب، ولكن بشرط أن لا يخرج الأستاذ في هذه الموارد بما يلزم منه التخصيص بإخراج الأكثر القبيح!
وأتخطّر في هذا المجال أن أحدهم كان يعطي درس منهاج الصالحين لجمع من طلبة مرحلة المقدّمات، ونحن نعلم أن الغرض من تدريس كتاب منهاج الصالحين أو المسائل المنتخبة أو غيرهما من الرسائل العملية لطالب المقدّمات هو معرفة الطالب الأحكام الشرعية حتى يراعيها ويلتزم بها عمليّاً،
وكذلك تعريفه باصطلاحات الفقه الواردة في الرسالة العملية وتفكيك العبارة له، ويصير بالتالي مأنوساً بلغة الفقه، وهذا كلّه يتطلّب أن لا يخرج تدريس المنهاج عن مدد زمانية مقرّرة، إلا أن هذا الأستاذ كان قد خرج في تدريسه لمنهاج الصالحين بمدّه عن حدّه، فكان أشبه بدرس المكاسب المحرّمة من كتاب المكاسب أو ببعض مباحث الخارج، واستغرق زماناً أرهق الطلاب وأصابهم بالملل.
لا شك أن كتاب منهاج الصالحين بوصفه الرسالة الفتوائية وهي الحصيلة النهائية للبحث الفقهي الاستدلالي، يمكن أن يكون متناً لدرس بحث الخارج (بل هو واقع)، وسوف يستوعب سنوات طويلة في البحث عرضاً واستدلالاً ونقداً، لمن أراد أن يسير في درسه الخارج على ضوء منهاج الصالحين، إلا أن الحديث ليس عن واقع الكتاب ومضمونه فقيمته وأهميّته لا تنكر وهو حريّ بذلك، وإنّما الكلام عن تدريسه في مرحلة المقدّمات بملاحظة الغاية المتوخّاة والهدف من تدريسه في هذه المرحلة، وبالتالي فإذا تحوّل درس منهاج الصالحين في هذه المرحلة إلى أشبه ما يكون بدراسة المكاسب المحرّمة من كتاب المكاسب، فأي معنى يبقى بعد لدراسة كتاب اللمعة أو كتاب الفقه الاستدلالي أو المكاسب المحرّمة نفسها؛ فإن صفة التدرّج في التعليم كمّاً وكيفاً سوف تتلاشى!
وأحياناً قد يكون بعض حضّار الدرس هم المحفّزون للأستاذ على تخطّي طريقة التدرّج كمّاً وكيفاً والمرعيّة في تقسيم مراحل الدراسة، ولكن لا يصح من الأستاذ أن يتماهى معهم كثيراً ويستجيب لما يطلبونه، بل الصحيح الالتزام بالمقرّر في ضابطة تدرّج المراحل كمّاً وكيفاً.
وفي هذا السياق أتخطّر أيام دراسة كتاب شرايع الإسلام للمحقق الحلّي (ره)، حيث كان الأستاذ يلتزم بتدريس الشرايع بما يوافق مرحلتها، ولكن بعض حضّار الدرس كانوا يتبرّمون ويطلبون أن يتحوّل تدريس الشرايع إلى فقه استدلالي فيها، حتّى أنهم ذهبوا إلى بعض أهل الفضل من أساتذة بحث الخارج وطرحوا الموضوع عليه بلسان الشكاية، فلم يقبل منهم ذلك وقال لهم:
إن طريقة الأستاذ هي الصحيحة فتمسّكوا به؛ لأن المطلوب من دراسة كتاب الشرايع في مرحلتها شيء مغاير لما يطلب في دراسة المكاسب المحرّمة من كتاب المكاسب!