أصول الفقه

أصول الفقه عند الشيعة الإمامية: تقديم وتقويم .. الدكتور أحمد الريسوني

الاجتهاد: إن التقريب بين الطائفتين، حتمية لا بد منها ولا غنى عنها إذا أريد للمسلمين قدر من الاستقرار ومن القوة والعزة، ولعل علم أصول الفقه هو أصلح الأبواب وأقربها للولوج إلى دائرة التفاهم والتعاون. وذلك للأسباب منها لأنه العلم الذي يهتم -ضمن ما يهتم به- بتحرير محال النزاع، والكشف عما هو وهمي أو لفظي أو مصطنع من الخلافات. / يرى السيد محمد باقر الصدر أن التأثر الشيعي بعلم أصول الفقه السني كان طبيعيا وضروريا، نظرا للسبق الزمني لأهل السنة.

لا أخفي أن السياق الذي أضع فيه هذا البحث الأولي عن أصول الفقه عند الشيعة الإمامية هو سياق السعي نحو ردم ما أمكن من الهوة التي تعمّقت عبر القرون -ولأسباب خارجية ثانوية في غالب الأحيان- بين السنة والشيعة.

إن التقريب بين الطائفتين، ولا سيما مع الطائفة الشيعية الكبرى (الإمامية)، حتمية لا بد منها ولا غنى عنها إذا أريد للمسلمين قدر من الاستقرار ومن القوة والعزة، وإلا فسيبقى التنافر والعداء بين الطائفتين أداة استنزاف ودمار وفتنة.

ولعل علم أصول الفقه هو أصلح الأبواب وأقربها للولوج إلى دائرة التفاهم والتعاون. ويرجع ذلك للأسباب التالية:

1 – لأنه العلم الذي يهتم -ضمن ما يهتم به- بتحرير محال النزاع، والكشف عما هو وهمي أو لفظي أو مصطنع من الخلافات. وبما أن كثيرا من الخلافات بين السنة والشيعة هي من هذا القبيل، فإن علم أصول الفقه كفيل بإسقاطها أو إرجاعها إلى حجمها الحقيقي من غير تورم ولا تضخم.

2 – لقلة ما يشتمل عليه هذا العلم من الحملات العدائية المتبادلة ومن الأساليب والتعابير الاتهامية التجريحية، كتلك التي تعج بها المؤلفات الكلامية والتاريخية وكتب علوم القرآن والحديث.

3 – لانصبابه أساسا على أصول الأحكام وطرق استثمارها، وهي قضايا يغلب عليها الطابع العملي الذي يتقارب فيه الناس جميعا، فضلا عن المسلمين وعلماء المسلمين. ولهذا لا تكاد تجد خلافا في المجال بين السنة والشيعة إلا من قبيل ما يوجد عادة بين الشيعة أنفسهم، وبين أهل السنة أنفسهم، وقليل جدا ما يبدو منها عميقا ومستعصيا على التفاهم والتقارب.

4 – لكون هذا العلم بصفة خاصة اقتبسه الشيعة من أهل السنة، وقلدوهم في معظم مباحثه ومقرراته ومصطلحاته، كما سأوضح قريبا. فعلم أصول الفقه عند الشيعة هو علم متسنن، وكثير من رواده عندهم اتهموا بالتأثر بأهل السنة. ولحسن الحظ فإن هذا الاتجاه المتهم بالتسنن هو الذي يتقوى ويسيطر شيئا فشيئا في الأوساط الشيعية، وهو ما يحتاج إلى تدعيم وتشجيع عبر الاحتكاك العلمي والتقريب الأصولي.

على أنني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، فإني لا أنفي حتمية النقاش الصريح والنقد الحر المتبادل، لأن التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة أو المحاباة، ولكنه بحاجة إلى تحسين الظن، وتهذيب الخطاب، وتحمل النقد بحثا عما فيه من حق لقبوله، لا بحثا -فقط- عما فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه.

نبذة تاريخية:

يرى كثير من الشيعة الإمامية أن اللبنات الأولى للفكر الأصولي عند المسلمين ترجع إلى الإمام محمد الباقر وابنه جعفر الصادق.(عليهما السلام) يقول آية الله السيد حسن الصدر: «فاعلم أن أول من أسس أصول الفقه وفتح بابه ووثق مسائله: الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام، ثم من بعده ابنه الإمام أبو عبد الله الصادق، وقد أمليا على أصحابهما قواعده، وجمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب المصنفين فيه بروايات مسندة إليهما متصلة الإسناد».

وذهب صاحب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» إلى أن أول من صنف في علم أصول الفقه هشام بن عبد الحكم (تلميذ الإمام الصادق) حيث ألف كتابا في الألفاظ ومباحثها، قال: «وهو أهم مباحث هذا العلم».

إلا أن صاحب «أعيان الشيعة» رد عليه بقوله: «ذكروا في مؤلفات هشام كتاب الألفاظ، وموضوعه غير معلوم، وكونه في مباحث الألفاظ التي هي قسم من علم أصول الفقه غير ظاهر، ولا دلالة عليه في كلامهم»، ثم قال: «والصواب أن أول من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، له كتاب في اختلاف الحديث، وهو بعينه مبحث التعادل والترجيح في الأخبار المتعارضة من مباحث أصول الفقه أوائل المائة الثالثة».

إلا أن السيد محمد باقر الصدر يصوغ هذه الدعوى بطريقة أكثر إنصافا وأكثر تواضعا، حيث يشير إلى وجود شواهد تاريخية تتضمن أن بعض أصحاب الأئمة الصادق وغيره، كانوا يثيرون معهم مسائل ذات طبيعة أصولية، فكان هؤلاء الأئمة يجيبونهم معبرين عن بعض المبادئ والقواعد الأصولية.

ومقابل هذا نجد تسليما واضحا لدى عدد من علماء الشيعة بكون التأليف الأصولي ونضج علم أصول الفقه قد جاءا متأخرين عندهم عما كان عليه الشأن عند أهل السنة.

فإذا كان التأليف الأصولي عند أهل السنة قد عرف غزارة وتطورا وتوسعا طيلة القرن الثالث فما بعده، فإن نظير هذه المرحلة عند الشيعة لم يحصل إلا خلال القرن الخامس.

يقول باقر الصدر عن هذه المرحلة: «ودخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف،ـ فألف الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد، المتوفى سنة (418هـ) كتابا في الأصول.. وجاء بعده تلميذه السيد المرتضى المتوفى سنة (436هـ) فواصل تنمية الخط الأصولي، وأفرد لعلم الأصول كتابا موسعا نسبيا سماه (الذريعة)»، وذكر في مقدمته أن هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتجاهات الأصولية التي تميز الإمامية..».

ومن أبرز الأصوليين من تلامذة الشيخ المفيد ممن حملوا اللواء الأصولي في الأوساط الشيعية وساروا به خطوات واسعة نحو التمكين والنضج: شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)، وهو صاحب “العدة في الأصول” الذي «انتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري، كما انتقل الفقه أيضا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع».

ويفسر عدد من علماء الشيعة تأخر العناية بعلم أصول الفقه وتأخر التصنيف فيه عندهم بتأخر حاجتهم إليه، باعتبار أنهم في حياة أئمتهم لم يكونوا بحاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، وعلى أساس أن الأئمة يمثلون مصدرا مباشرا للتشريع، ويقومون عندهم بنفس الوظيفة التشريعية التي كان رسول الله قائما بها.

وعلى هذا يرون أن أهل السنة الذين لا يقولون بحجية سنة الأئمة ويعتبرون أن التشريع المباشر قد انقطع بوفاة رسول الله قد اضطروا إلى الاجتهاد والاستنباط لأنفسهم فيما يجدّ لهم من النوازل والمشاكل، بينما استمر الشيعة يعيشون عصر السنة إلى زمن الغيبة الكبرى، فلم يحتاجوا إلى القواعد الأصولية المساعدة على الاجتهاد والاستنباط إلا بعد تباعدهم عن زمن الأئمة، وهو الوقت الذي ظهرت فيه عنايتهم بأصول الفقه،

وينقل «محمد باقر الصدر» نصا يبين كيف ظهرت حاجة الشيعة لعلم أصول الفقه وقواعده، وهو للسيد «محسن الأعرجي» من كتابه “وسائل الشيعة” يقول فيه: «فقد حدث بطول الغيبة وشدة المحنة وعموم البلية، ما لولا الله وبركة آل الله لردها جاهلية: فسدت اللغات، وتغيرت الاصطلاحات، وذهبت قرائن الأحوال، وكثرت الأكاذيب، وعظمت التقية، واشتد التعارض بين الأدلة، حتى لا تكاد تعثر على حكم يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال..».

إلا أن علم أصول الفقه الشيعي بالرغم مما أتيح له من توسع وارتقاء لم يعرف ذلك الاستقرار والقبول اللذين حظي بهما لدى أهل السنة، وإنما ظل يتأرجح بين مد وجزر، وانتصار واندحار.

وهكذا نجدهم مثلا يتحدثون عن فترة ركود طويلة لعلم أصول الفقه أعقبت ذلك التألق الذي عرفه على يد الشيخ الطوسي في منتصف القرن الخامس الهجري، واستمر هذا الركود إلى أواخر القرن السادس، كما نجدهم يتحدثون عن نكسة منيت بها الحركة الأصولية على يد حركة الاخباريين بزعامة «الميرزا محمد أمين الاستراباذي» المتوفى سنة (1021هـ) ،

وقد كانت هذه الحركة تنظر إلى علم أصول الفقه على أنه مجرد بدعة أخذت من أهل السنة، لأن الأئمة وأصحابهم المتقدمين لم يعرفوا هذا العلم ولم يحتاجوه.

وقد نجحت هذه الحركة في شل الحركة الأصولية ودحرها، في حين نشطت حركة التأليف الحديثي وأعطى أكبر الموسوعات الحديثية في تاريخ الشيعة.. واستمرت هيمنة الحركة الاخبارية وغلبتها زهاء قرنين من الزمن انبعثت بعدها حركة أصولية جديدة على يد الرائد المجدد «باقر البهبهاني» المعروف باسم «الوحيد البهبهاني» المتوفى سنة (1206هـ)، فشنت حملة كاسحة ضد الاخباريين وأنهت نفوذهم وهيمنتهم.

ومنذ ذلك الحين عادت الحركة الأصولية إلى تصدر الحركة العلمية والسياسية لدى الشيعة الإمامية إلى أن وصل مدها وتطورها إلى إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران على يد آية الله «الخميني» رحمه الله.

تأثر الشيعة بالسنة في المجال الأصولي:

كثير من علماء الشيعة لا يستنكفون من الاعتراف بكون الحركة الأصولية الشيعية قد تأثرت في نشأتها وتطورها بعلم أصول الفقه السني، يعترفون بذلك صراحة أحيانا، وبشي من اللف أحيانا أخرى،

يقول العلامة محمد باقر الصدر: «إن نمو الفكر العلمي والأصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلا عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي، ومن تلك العوامل: عامل الفكر السني، لأن البحث الأصولي في النطاق السني ونمو هذا البحث وفقا لأصول المذهب السني كان حافزا باستمرار للمفكرين من فقهاء الإمامية لدراسة تلك البحوث في الإطار الإمامي، ووضع النظريات التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل، والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين..».

ويستفاد من هذا الكلام -بعد تأمل بواطنه وإشاراته- أن البناء الأصولي لدى أهل السنة كان قد أعطاهم قوة ومتانة وتناسقا في الرؤية الفكرية لمذاهبهم وآرائهم، مما جعله يشكل تحديا علميا قويا للشيعة الذين كانوا يفتقدون مثل ذلك البناء، فعمدوا إلى إقامة بناء مماثل يؤصلون به مذاهبهم ونظرياتهم ويبنونها بناء يصمد أمام التحدي السني.

وهذا ما يصرح به أحد مشاهير الأصوليين الشيعة، وهو «ابن زهرة الحسيني»، حيث ذكر الأغراض التي توخاها من تأليف كتابه “الغنية” فقال: «على أن لنا في الكلام في أصول الفقه غرضا آخر سوى ما ذكرناه، وهو بيان فساد كثير من مذاهب مخالفينا فيها، وحاجة كثير من طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منه».

وقد ذكر محمد باقر الصدر حكاية عن أبي جعفر معد الموسوي أنه وقف على كتاب “التهذيب” لابن الجنيد، وأنه لم ير لأحد من الطائفة أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة، ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والأصول، وذكر الخلاف في المسائل، واستدل بطريق الإمامية وطريق مخالفيهم.

وهذا يدل على أن الطرائق الاستدلالية للمخالفين -وهم أهل السنة- كانت محط إعجاب وتقدير، ومحل اقتداء من قبل المؤلفين الشيعة.

وهذا الشيخ «محمد رضا المظفر» يشير إلى محاكاة الشيعة للسنة في إيرادهم وترتيبهم للمباحث الأصولية.

قال وهو يتحدث عن دليل الإجماع: «قد جعله الأصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة أو الثلاثة على الحكم الشرعي… أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي، ولكن من ناحية شكلية واسمية فقط، مجاراة للنهج الدراسي عند السنيين..».

وقد سبق الذكر أن السبب الرئيسي لثورة الإخباريين على الأصوليين ملاحظتهم تأثر علم أصول الفقه الشيعي بنظيره عند السنة.

وقد تطرق محمد باقر الصدر إلى تحليل الأسباب التي ساعدت الحركة الإخبارية على النجاح وعلى دحر الحركة الأصولية، فذكر منها:

«سبق السنة تاريخيا إلى البحث الأصولي والتصنيف الموسع فيه، فقد أكسب هذا علم أصول الفقه طابعا سنيا في نظر هؤلاء الثائرين عليه، فأخذوا ينظرون إليه بوصفه نتاجا للمذهب السني… ومما أكد في ذهن هؤلاء الإطار السني لعلم الأصول أن ابن الجنيد -وهو من رواد الاجتهاد وواضعي بذور علم الأصول في الفقه الإمامي- كان يتفق مع أكثر المذاهب السنية في القول بالقياس».

ويرى باقر الصدر أن التأثر الشيعي بعلم أصول الفقه السني كان طبيعيا وضروريا، نظرا للسبق الزمني لأهل السنة، «ولما كان للسنة تجارب سابقة زمنيا في البحث الأصولي، فمن الطبيعي أن تجد في بعض التجارب المتأخرة تأثرا بها، وقد يصل التأثر أحيانا إلى درجة تبني بعض الآراء السابقة غفلة عن واقع الحال…».

ولا يتسع المقام لرصد المظاهر المختلفة والمتعددة لتأثر علم أصول الفقه الشيعي بنظيره السني، من حيث الأشكال والمضامين والمصطلحات، فلنكتف بهذا القدر.

مؤلفات أصولية شيعية:

• «أصول الفقه» للشيخ المفيد (ت413هـ).
• «الذريعة في علم أصول الشريعة» للسيد المرتضى (ت436هـ)، وله عدة تلخيصات وشروح لعل أهمها «النكت البديعة في تحرير الذريعة» للعلامة الحلي .
• «التقريب في أصول الفقه»، لسلار بن عبد العزيز الديلمي (ت436هـ).
• «العدة في الأصول»، للشيخ الطوسي (ت460هـ).
• «الغنية» لابن زهرة الحسيني (ت585هـ).
• «السرائر» لابن إدريس (ت598هـ) وهو كتاب في الفقه، إلا أنه غني بالتقعيد الفقهي والأصولي.
• «نهج الوصول إلى معرفة الأصول» و«كتاب المعارج» للحلي (ت676هـ).
• «تهذيب الوصول إلى علم الأصول» و«مبادئ الوصول إلى علم الأصول» و«غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح منتهى السول والأمل» للعلامة ابن المطهر (ت726هـ)، وهو تلميذ الحلي وابن أخته، والكتاب الأخير هو شرح على مختصر ابن الحاجب.
• «المعالم» للحسن بن زين الدين (ت1011هـ) وقد أصبح هذا الكتاب كتابا مدرسيا في الحوزات الشيعية لسهولته وجودة تنظيمه.
• «زبدة الأصول» لبهاء الدين العاملي (ت1030هـ).
• «المهمة في أصول الأئمة» للحر العاملي (ت1079هـ).
• تنقيح المقاصد الأصولية لمحمد حسن القزويني (ت1240هـ).

أدلة الأحكام عند الشيعة الإمامية:

تختلف المؤلفات الأصولية الإمامية في طريقة ذكرها وتناولها للأدلة الشرعية، فهم تارة يقسمونها إلى أدلة شرعية، وأخرى عقلية، وأخرى عملية، وتارة يقسمونها إلى أدلة محرزة، وأدلة عملية، وتارة يعرضونها على غرار ما يعرضها عليه أهل السنة، ثم يقبلون منها ويرفضون، حسب ما يقتضيه بناؤهم المذهبي.

وعلى هذا النحو الأخير سار كثير منهم، فجعلوا أدلة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، ثم يوردون باقي الأدلة ليعملوا على إبطال حجيتها وإنكار الأخذ بها. ولا يخفى على الدارس أن هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلة (القطب الثاني).

وعلى العموم، فإن جمهورهم يلحون على أن الدليل الشرعي لا بد أن يكون قطعيا أو أن تثبت حجيته بدليل قطعي، حتى ولو كان هو في نفسه ظنيا، كما هو شأن أخبار الآحاد.

فالأصل عندهم أن كل دليل يفيد الأحكام إفادة ظنية باطل مردود حتى يدل دليل قطعي على حجيته وصلاحيته، ومن هذا الباب يرفضون القياس باعتباره دليلا ظنيا ولم يشهد لحجيته دليل قطعي. والأدلة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى «الأدلة المحرزة»، ويقابلها «الأصول العملية» باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلفين حين يتعذر عليهم «إحراز» الحكم الشرعي من دليله، ويدخل ضمن هذه «الأصول العملية» جملة قواعد، أهمها:

• قاعدة «الاحتياط»، انطلاقا من أن الأصل هو شغل الذمة بالتكليف، وأن لله في كل نازلة حكما يتعين الالتزام به.
• وقاعدة «البراءة الأصلية»، انطلاقا من أن الأصل براءة الذمة من التكليف.
• وقاعدة «الاستصحاب» التي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان، انطلاقا من أن ما يثبت بيقين لا يرتفع بالشك.
وإذا كان النوع الأول يدخل تحت اسم «الأدلة الشرعية» فإنهم يتحاشون إضفاء هذا الوصف على «الأصول العملية» نظرا لعدم قطعيتها، ولعدم إفادتها بالضرورة الحكم الشرعي حقيقة.

1 – الكتاب :

يتفق الإمامية مع أهل السنة في أن أول الأدلة الشرعية، وأولاها بالاعتبار والتقديم هو الكتاب العزيز، ولعل أهم شيء يتبادر إلى الأذهان بخصوص موقف الإمامية من هذا الدليل هو مدى وثوقهم وتسليمهم بالنص القرآني على ما هو عليه.

والذي وقفت عليه من ذلك :
– قول السيد محسن الأمين: «لا يقول أحد من الإمامية لا قديما ولا حديثا إن القرآن مزيد فيه قليل أو كثير، فضلا عن كلهم. بل كلهم متفقون على عدم الزيادة، ومن يعتقد بقوله من محققيهم متفقون على أنه لم ينقص منه…. ومن نَسب إليهم خلاف ذلك فهو كاذب مفتر مجترئ على الله ورسوله»، ثم أورد نقولا كثيرة تؤيد ما قاله عن كثير من أئمة الشيعة ومحققيهم المعتبرين.

– وقول الشيخ محمد رضا المظفر: «إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد ، والموجود بأيدي الناس بين الدفتين.. فهو –إذن- الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى التي لا شك ولا ريب فيها..» إلى أن يقول: «ولكن الذي يجب أن يعلم أنه قطعي الحجة من ناحية الصدور فقط لتواتره عند المسلمين جيلا بعد جيل».

وخلافا لما يذهب إليه بعض الغلاة من أن تفسير القرآن واستخراج معانيه وأحكامه، إنما هو من خصوصيات الأئمة، فإن الراجح في كتب الأصول الإمامية هو الدفاع عن «حجية الظواهر»، وأن حجية الظواهر قائمة على أعراف الناس في خطابهم وفهمهم.

وبهذا يلتقي أصوليو الإمامية مع أهل السنة في أهم قضيتين من قضايا القرآن الكريم، وهما: ثبوته القطعي، وفهمه وفق العرف اللغوي الذي هو في متناول كل عارف باللغة العربية ودلالتها.

2 – السنة:
يختلف مفهوم السنة عند الإمامية اختلافا غير يسير عن نظيره عند أهل السنة، وأعني بذلك كونهم يدخلون في مفهوم السنة سنة الأئمة «المعصومين».

فإذا كان أهل السنة يقصرون مفهومها على قول النبي وفعله وتقريره، فإن الإمامية يعتبرون من السنة جميع ما صدر عن الأئمة الإثني عشر من أقوال وأفعال وتقارير، إلا أن يثبت عندهم ما يقتضي التحفظ في بعض الأفعال والتقريرات التي قد تصدر عن الإمام إما تقية وإما لسبب خاص اقتضاها، بحيث لم يقصد بها التشريع وبيان الحكم.

يقول الشيخ المظفر: «أما فقهاء الإمامية بالخصوص فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب الاتباع، فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين، أو فعله، أو تقريره. فكانت السنة باصطلاحهم (قول المعصوم أو فعله أو تقريره)».

وهم يعتقدون أن الأئمة يتلقون عن الله بواسطة الإلهام، مثلما يتلقى النبي عن طريق الوحي، وعلى هذا فالأئمة «هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنة، لا حكاية للسنة».

والحق أن الشيعة الإمامية الذين يشترطون في كل دليل شرعي أن تثبت حجيته بطريق قطعي، لا يقدمون ما يوجب القطع بحجية ما يصدر عن الأئمة، نعم يقدمون روايات عامة تدعو إلى التمسك بآل البيت والاقتداء بهم، وبعض هذه الروايات موجودة عند أهل السنة، ولكنها لا يمكن بحال أن ترقى إلى درجة القطع بتسويتهم من حيث الحجية والعصمة بالنبي، بل هي لا تزيد في دلالتها على الاتباع على ما يستفاد من قوله (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وقوله (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي)، فنحن مأمورون باتباع من يدعونا إلى الحق كائنا من كان، ونحن مأمورون بسؤال أهل العلم والأخذ عنهم فيما لا نعلم.

وبما أن أهل البيت أدرى بما في البيت، فإنهم -وخاصة علماءهم المتقدمين- يأتون في مقدمة من يستحق أن يسأل ويؤخذ عنه ويقتدى به دون أن يعني ذلك تسويتهم بالأصل الأول في عصمته وحجيته .

والعجيب الذي لا ينقضي منه العجب أن الإمامية يتغاضون عن نصوص صادرة عن كبار الأئمة صريحة في أن السنة إنما هي سنة محمد، من ذلك ما جاء في أصول الكافي «عن الإمام موسى بن جعفر أنه قيل له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه، أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه».

فالنص صريح في كون الأئمة لا يقولون شيئا في الدين من عند أنفسهم زائد عما يستنبط من كتاب الله أو سنة نبيه، وهذا يلتقي مع ما جاء عن الإمام علي حين سئل «هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة…».

3 – الإجماع:
خلاصة مذهب الإمامية في الإجماع أنهم يعتدون به، إلا أنهم يعتبرونه كاشفا للدليل، لا أنه دليل بذاته. يقول علي الفاضل القائيني: «وعند الشيعة الإجماع ليس حجة بنفسه، وإنما بلحاظ كونه كاشفا عن رأي المعصوم ورضاه».

ويقول الشيخ رضا المظفر: «إن الإجماع بما هو إجماع، لا قيمة علمية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم..

فإذا كشف على نحو القطع عن قوله، فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذ في السنة، ولا يكون دليلا مستقلا في مقابلها»، ثم يقول: «وعلى هذا فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم، فكما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلا على الحكم الشرعي رأسا بل هو دليل على الدليل على الحكم، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلا، بل هو دليل على الدليل».

وهذا القول في حقيقة الإجماع وحقيقة حجيته ليس بغريب على أصوليي السنة، فهو بعض ما يتضمنه قولهم: «الإجماع لا بد فيه من مستند»، يقول إمام الحرمين: «إذا أمعن الباحث نظره كان متعلقه دليلا قاطعا سمعيا يشعر به الإجماع.

فإن قيل ما ذكرتموه إخراج للإجماع عن كونه حجة، قلنا: هذا الآن غباوة، فإذا كان التحصيل لا يطمع في كون إجماع الناس حجة بعينه، وإنما المطلوب المكتفى به استناده إلى حجة…». وهذا عين ما قصده الشريف التلمساني حين لم يعتبر الإجماع دليلا بنفسه، وإنما هو «متضمن الدليل»، وقال معللا ذلك: «لأنه حرم على الأمة الحكم في مسألة من المسائل من غير استناد إلى دليل شرعي». وتحقيق هذا الكلام أن الإجماع في ذاته ليس دليلا شرعيا ما دام متوقفا على سند شرعي غيره.

غير أن الفرق الهام بين ما ذهب إليه الإمامية، وما ذهب إليه أهل السنة، هو أن الإمامية يقصرون نوع الدليل المتضمن في الإجماع على «سنة المعصوم» فهو كاشف عن سنة، ونجد الشيخ باقر الصدر يسميه «التواتر الحدسي» في مقابل «التواتر الحسي» وهو تواتر الراوية.

وهذا «التواتر الحدسي» يقارب «التواتر المعنوي» ويشترك معه في كونه يتضمن نقلا متواترا في مضمونه، إلا أن هذا التواتر الحدسي عندهم يدخل فيه عنصر النظر والاجتهاد.

يقول باقر الصدر: «الإجماع اتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجة توجب إحراز الحكم الشرعي، والإخبار الحدسي هو الخبر المبني على النظر والاجتهاد في مقابل الخبر الحسي القائم على أساس المدارك الحسية..».

فإذا كان الشيعة يحصرون الدليل الذي ينبئ عنه الإجماع في سنة المعصوم، فإن أهل السنة إذ اعتبروا الإجماع متضمنا للدليل ومنبئا عنه ومستندا إليه، تركوا الباب مفتوحا لكل نوع من أنواع الدليل:

* – فقد يكون ذلك الدليل سنة بقي حكمها وانقطعت روايتها؛
* – وقد يكون فهما دقيقا لنص ثابت مروي -قرآنا أو سنة- فتواطأت أفهام العلماء على القول به، فثبتت بذلك صحته ثبوتا قطعيا بفضل الإجماع عليه؛

* – وقد يكون إجماعهم ناشئا عن قياس ظني في أصله، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صوابا ويقينا لا يحتمل الشك؛
* – وقد يكون الإجماع منعقدا عن نظر استصلاحي سديد، ومن خلال الإجماع عليه تأكدت موافقته القطعية للشرع وللمصالح التي اعتبرها..

وهكذا نلاحظ أن أهل السنة قد وسعوا مجال تقدير دليل الإجماع، فوسعوا بذلك مجال الاستفادة من قوته العلمية التي لا يجادل فيها أحد، بينما صرفه الشيعة إلى زاوية ضيقة وجعلوه مجرد وسيلة إخبارية محصورة في نقل السنة. ثم هو تفريق وتخصيص تحكمي منهم.

ومما اشتهر عن الشيعة في موقفهم من الإجماع اشتراطهم -أو اشتراط بعضهم- دخول الإمام فيه. قال أبو الحسن البصري: «اعلم أن إجماع أهل كل عصر صواب وحجة، وقالت الإمامية: ذلك صواب، لأن الإمام داخل فيهم، وهو الحجة فقط».

وجاء في «أصول الفقه» للشيخ محمد رضا المظفر: «قال المحقق في “المعتبر” الصفحة 6 بعدما أناط حجية الإجماع بدخول المعصوم: فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة».. كما نقل عن السيد المرتضى قوله: «إذا كان علةُ كون الإجماع حجة كونَ الإمام فيهم، فكل جماعة كثرت أو قلت، كان الإمام في أقوالها، فإجماعها حجة».

ولست أدري كيف استساغ علماء الإمامية وأذكياؤهم هذا التناقض الواضح، إذ يعتبرون الإجماع كاشفا عن قول المعصوم، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟! وإذا دخل المعصوم في الإجماع -بحيث كان قوله معروفا وثابتا- فأي كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟! ثم إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأي حاجة وأي قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟!

4 – بقية الأدلة :
عامة علماء الإمامية لا يفتأون يعبرون عن إنكارهم واستهجانهم عددا من الأدلة المعمول بها لدى المذاهب السنية، وبخاصة منها الأدلة الاجتهادية كالقياس،ـ والمصلحة المرسلة.

وأهم ما ينطلقون منه في إنكارهم وتشنيعهم على أهل السنة هو أن هذه الأدلة أدلة ظنية (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا)، فالحكم الشرعي -وهو حق- لا يمكن أن يكون سبيله الظن، وفاتهم أن للظن معاني متعددة من بينها الجزم واليقين، ومن بينها الظن العلمي وهو الاعتقاد الناشئ عن حجج وقرائن معتبرة عند العقلاء.

ثم إن الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار إفادتهما ظنية، فإنهم يقبلون الظنيات في كثير من أصولهم وقواعدهم، في مقدمتها أخذهم بأخبار الآحاد، وهم يسلمون بكون أخبار الآحاد في معظمها لا تسلم من الظنية والاحتمال، وأذن الشرع استثناء في اعتبارها، ويحكون الإجماع لديهم على حجيتها.

والحق أن دعاواهم هذه لا تستقيم ولا تسلّم حتى داخل مذهبهم نفسه. فإذا كان عدد كبير من متأخريهم يحكون الإجماع على حجية أخبار الآحاد ويعتبرونها تبعا لذلك أمرا مسلما مفروغا منه، فإن عددا من كبرائهم ومتقدميهم شددوا النكير والإبطال للقول بحجية أخبار الآحاد،

يقول المظفر: «وفي مقابل ذلك حكى جماعة أخرى إجماع الإمامية على عدم الحجية، وجعْله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة.

وتبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في “السرائر” ونقل كلاما للسيد المرتضى في المقدمة، وانتقد في أكثر من موضع في كتابه الشيخ الطوسي في عمله بخبر الواحد، وكرر تبعا للسيد قوله إن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا، وكذلك نقل عن الطبرسي صاحب “مجمع البيان” تصريحه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد»، لذلك وقع الباحثون عن الإمامية في حيرة عظيمة في هذا الموضوع على حد قول الشيخ المظفر.

وعلى هذا فليس بوسع الإمامية الاسترسال في القول -بعد كل هذا الخلاف داخل صفهم- إن العمل بأخبار الآحاد ثابت عندهم بصفة قطعية مجمع عليها.
وهم يبطلون -من بين ما يبطلون- القياس بكون أدلته وطريقة ثبوته لا تسلم من الظنية، ومن وجود مخالفين حتى من أهل السنة.

ونحن نقول لهم: إن ما يصدق على حجية القياس عندنا يصدق على حجية خبر الواحد عندكم، وإذا كان في أهل السنة من أنكر القياس فإن في الشيعة الإمامية من قال به، كما تقدم القول.

بل الثابت المشهور أن الإمام عليا هو إمام القائسين وأساتذتهم، بمن فيهم الصحابة، وقد روي من أقيسته الشيء الكثير مما لا يسمح المقام بسرده وإثباته، وهو موجود في مظانه.

ومن المواطن التي أخذوا فيها بالظنيات -أيضا- قولهم بحجية الظواهر، أي إنهم يعتمدون اعتمادا أساسيا أصليا على ما يفهم من ظواهر النصوص.

والظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلم من الظنية والاحتمال، حتى وجدنا عندهم أنفسهم من ينكر حجية الظواهر.

كما أنهم يأخذون بالترجيح بين الأدلة المتعارضة، ولا يخفى أن الترجيحات كلها -أو معظمها- إنما هي ترجيحات ظنية تعليلية وتقريبية.

يقول محمد رضا المظفر عن الترجيح بين الدليلين المتعارضين: «وأما ما فيه المزية الموجبة لأقربية الأمارة إلى الواقع في نظر الناظر، فإن بناء العقلاء مستقر على العمل بذي المزية الموجبة للأقربية إلى الواقع»، أي أن العمل يجري بترجيح ما ظهر أنه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي، وهذا كما لا يخفى ليس «إحرازا» للحكم الشرعي بالضرورة، وإنما هو ظن وتقريب.

كما أن ما يسمونه أصولا عملية إنما هي قواعد توصل إلى الظن والرجحان، ومع ذلك أجازوا، بل أو جبوا، العمل بها عند عدم الدليل الصريح، وقد يكون أقواها دلالة، وأقربها إلى إفادة اليقين، هو أصل الاستصحاب.

ومع ذلك فإن الاستصحاب لا يفيد اليقين، ولو أنه يقوم على قاعدة «اليقين لا يزول بالشك»، فإن هذه القاعدة هي نفسها تشير إلى طروء الشك الذي يستلزم زوال صفة اليقين عن الأمر الأول، لا يصلح مسوغا كافيا لإبطال العمل بذلك الأمر الأول.

وهكذا يظهر أن العمل بالمظنونات مأخوذ به على نطاق واسع عند الشيعة كما عند السنة، إلا أن أهل السنة كانوا أكثر منطقية في فهمهم لقواعد الشرع وطردهم لأصوله، فاعتبروه مجيزا لحجية الظن العلمي في المسائل العملية كلما تعذر الحصول على اليقين أو كان في اشتراط اليقين عسر وحرج وضرر.

ثم إن الإمامية -وبخاصة متأخريهم- يجعلون من الأدلة الشرعية «الدليل العقلي»، بينما هم يرفضون القياس وهو من بدهيات العقول وأولياتها، فهو يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولا عاقل، وهي أن «ما ثبت لشيء ثبت لمثله»، وهذا هو العدل الذي قامت به الأرض والسموات وجاءت به الكتب والرسالات.

أما حجية المصلحة، فإنهم -وإن كانوا ينكرونها بالاسم- يأخذون بها بأسماء وأشكال متعددة:

* – فتارة تدخل تحت اسم «الدليل العقلي» حيث يدرجون ضمنه -مثلا- اعتبار «الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة»، وهذا عين اعتبار المصلحة.

كما أن من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة «وجوب مقدمة الواجب»، وهي المعبر عنها بـ«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، ذلك أن معظم المصالح المرسلة هي من قبيل «ما لا يتم الواجب إلا به»، فهي مقدمات أو وسائل لواحبات أخرى، ومثلها قاعدة «كل ما هو ضد الواجب فهو غير جائز»، فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد.

* – وتارة يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما يسمى عندهم «السيرة العُقَلائية» أو «بناء العقلاء»، وهو السلوك العام المرضي المتعارف عليه.

وهذا الدكتور أبو القاسم كرجي يقول: «يتعين العرف العام على أساس المصلحة». كما أنه يشير إلى التداخل الحاصل بين بعض الأصول المعتمدة عند أهل السنة، وما يسمى دليل العقل عند الإمامية بقوله: «يستعمل العقل في أصول أهل السنة، ولكن ليس باسم العقل، إنما بأسماء مختلفة مثل: القياس، الاستحسان، المصالح المرسلة، وأمثال ذلك، وهي كلها استعمالات للعقل، ولكن بعناوين أخرى….».

المصادر والمراجع

• أصول الفقه، لمحمد رضا المظفر، ط4- 1403/ 1983، دار المعارف، بيروت.
• المعالم الجديدة للأصول، لمحمد باقر الصدر، ط3- 1403/1981، دار التعارف، بيروت.
• دروس في علم الأصول، لمحمد باقر الصدر، 1410/1989، دار التعارف، بيروت.
• مقدمة كتاب البحر الزخار، لابن المرتضى، دار الحكمة اليمانية، صنعاء.
• مناهج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول، لابن المرتضى، دار الحكمة اليمانية، صنعاء 1412/1992.
• لا سنة ولا شيعة، لمحمد علي الزغبي، ط1/1961، دار العلم للملايين، بيروت.
• المعتمد، لأبي الحسين البصري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403/1983.
• البرهان، لإمام الحرمين ط3/1412-1993، دار الوفاء بالمنصورة.
• المستصفى، للغزالي، طبعة دار العلوم الحديثة، بيروت.
• مفتاح الوصول، للشريف التلمساني، مكتبة الخانجي بمصر، 1962.
• أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي (دون زمان ولا مكان).
• أصول الفقه: تاريخه ورجاله، للدكتور شعبان محمد إسماعيل، ط1/1401-1981، دار المرسخ، الرياض.
• مجلة «الهدى» المغربية، العدد 27، شوال 1413، أبريل 1993، (ضمنه ملف خاص عن التقريب بين المذاهب الإسلامية).
• مجلة «الرصد» اللبنانية، العدد 42، أبريل 1994، (حوار مع الدكتور: أبو القاسم كرجي أستاذ أصول الفقه والقانون، مترجم ومنقول عن صحيفة «همشري» الإيرانية).

المصدر: العدد الثاني من مجلة الواضحة وهي مجلة علمية محكّمة تصدر عن دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط.

المدير المســؤول: مدير دار الحديث الحسنية أ.د أحمد الخمليشي. التنسيق والتحرير: د. الناجي لمين د. محمد ناصيري د. عبد المجيد محيب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky