الاجتهاد: من معالم مدرسة الشهيد الصدر منهجيته الفنية الفريدة، والمتماسكة لكل بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد ان طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث. فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين، خصوصا في المسائل المعقدة، التي تعسر على الفهم ويكثر فيها الالتباس والخلط ، ويوضح الفكرة، وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين.
ان استيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني العامل لا يتيسر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة ولكن ذلك لا يعفينا من التعرض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية، التي أنشأها، وخرج على أساسها جيلا من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين والعاملين في سبيل الله المخلصين .. رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه الله فيها بما يبتلي به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين .
وفيما يلي أهم مميزات مدرسة الشهيد الصدر التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معا.
١ ـ الشمول والموسوعية
اشتملت مدرسة الشهيد الصدر “قدس سره” على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية. فهي متعددة الأبعاد والجوانب، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من الفقه والأصول فحسب، رغم ان هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع من إنجازاته وابتكاراته العلمية.
فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، والفلسفة، والعقائد والعلوم القرآنية، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، والسياسة المالية والمصرفية، ومناهج التعليم والتربية الحوزوية، ومناهج العمل السياسي وأنظمة الحكم الإسلامي، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.
وقد جاءت هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتع به إمامنا الشهيد من ذهنية موسوعية وعملاقة، يمكن اعتبارها فلتة، يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والآخر، والتي تشكل كل واحدة منها على رأس كل عصر منعطفا تاريخيا جديدا في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها.
فلقد كان رحمهالله آية في النبوغ العلمي، واتساع الأفق، والعبقرية الفذة. وقد سطعت منذ طفولته، وبداية حياته، وتحصيله العلمي، كما شهد بذلك أساتذته، وزملاؤه، وتلاميذه، وكل من اتصل به بشكل مباشر، أو التقى به من خلال دراسة مصنفاته وبحوثه القيمة.
٢ ـ الاستيعاب والإحاطة :
من النقاط ذات الأهمية الفائقة في اتصاف النظرية، أية نظرية، بالمتانة والصحة مدى ما تستوعبه من احتمالات متعددة، وما تعالجه من جهات شتى مرتبطة بموضوع البحث. فان هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب، بحيث يؤدي فقدانها إلى أن تصبح النظرية مبتورة، ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد للنظرية.
وهذه الميزة أيضا كان يتمتع بها فكر السيد الشهيد (قده) بدرجة عالية، فانه لم يكن يتعرض لمسألة من المسائل العلمية سيما في الأصول والفقه، إلا ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول. وهذا هو جانب الاستيعاب والإحاطة المعمقة في فكره.
وقد ظهرت هذه السمة العلمية، وهذه الخصيصة، حتى في أحاديثه الاعتيادية. فكان عند ما يتناول أي موضوع، ومهما كان بسيطا واعتياديا، يصوغه صياغة علمية، ويخلع عليه نسجا فنيا، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لكل الاحتمالات والشقوق، حتى يخيل لمن يستمع إليه انه امام تحليل نظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مبرراتها وأدلتها المنطقية.
٣ ـ الإبداع والتجديد :
ان حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ترتكز على ظاهرة التجديد، والإبداع، التي تمتاز بها أفكار العلماء، والمحققين في كل حقل من حقول المعرفة. وقد كان سيدنا الشهيد (قده) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواء على صعيد المعطيات،أو في الطريقة والاستنتاج. ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة انه استطاع أن يفتح آفاقا للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله.
فكان هو رائدها الأول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها، وخطوطها العريضة، وستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول. وخصوصا في بحوث الاقتصاد الإسلامي، ومنطق الاستقراء والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت عليهمالسلام.
٤ ـ المنهجية والتنسيق :
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد منهجيته الفنية الفريدة، والمتماسكة لكل بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد ان طرحه للبحوث الأصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث. فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين، خصوصا في المسائل المعقدة، التي تعسر على الفهم ويكثر فيها الالتباس والخلط ، ويوضح الفكرة، وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين.
كما كان يميز بدقة طريقة الاستدلال في كل موضوع، وهل أنها لا بد وان تعتمد على البرهان أو انها مسألة استقرائية ووجدانية؟. ولم يكن يقتصر على دعوى وجدانية المدعى المطلوب إثباته فحسب، بل كان يستعين في إثارة هذا الوجدان وإحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث ، وهو منهج إقامة المنبهات الوجدانية عليه. وهذه نقطة سوف نواجهها بوضوح في دراساتنا الأصولية القادمة.
٥ ـ النزعة المنطقية والوجدانية :
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح في الوقت الّذي كانت تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الإقناع وتحصيل الاطمئنان النفسيّ بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أو كمصادرة، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حتى ما يتعسر صياغة برهان موضوعي عليه كالبحوث اللغوية والعقلائية والعرفية، وهذه السمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة، يتعذر توجيه نقد إليها بسهولة.
كما جعلتها أبلغ في الإقناع والقدرة على افهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى. وجعلتها أيضا قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناء منطقيا وعلميا، وبعيدا عن مشاحة النزاعات اللفظية أو التشويش والخبط واختلاط الفهم ، الخطر الّذي تمني به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان.
وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية، التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصا في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي، التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع.
فكنت تجده دوما ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان، وكان يدرك المسألة أولا بحسه الوجداني والذاتي ثم كان يصوغ في سبيل دعمها علميا ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي.
ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحس والوجداني للمسألة ، الأمر الّذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى …
وقد استطاع هذا الفكر العملاق على أساس التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كل علم أن يتناول في كل حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته. وهذه خصيصة أساسية سوف نواجهها بجلاء أيضا في الدراسات الأصولية القادمة.
٦ ـ الذوق الفني والإحساس العقلائي :
الذوق حاسة ذاتية في الإنسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها. والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف والعقلاء ، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية.
وهي في الأعم الأغلب البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية والأدبية. وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لا يمكن إخضاعها للبراهين المنطقية أو الرياضية أو التجريبية، وانما تحتاج إلى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحس العرفي الأدبي.
ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد الصدر (قده) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف ونجد أنه (قده) كان يتناول المسائل في المجال الأول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلائي المستقيم حتى استطاع ان يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأن يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي ، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها ، خصوصا في البحوث الفقهية التي تعتمد الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائية، فأبدع نهجا فقهيا موضوعيا في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية.
وتحسن الإشارة إلى انه قلما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال، مع الذوق الفني والحس العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة. فاننا نجد ان العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلا على أساس تلك المصطلحات البرهانية، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي.
وكذلك العكس فالباحثون في علوم الأدب والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد ان مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلما تجتمعان معا وتمكنت من التوفيق الدّقيق فيما بينهما، واستخدام كل منهما في مجاله المناسب والسليم، دون تخبط أو إقحام ما ليس منسجما.
٧ ـ القيمة الحضارية المدرسة السيد الشهيد الصدر :
لقد كان سيدنا الشهيد الصدر تحديا حضاريا معاصرا ، وكانت من مميزات مدرسته انها استطاعت التصدي لنسف أسس الحضارة المادية لإنسان العصر الحديث، وان يقدم الحضارة الإسلامية شامخة على إنقاض تلك الحضارة المنسوفة. وعلى أسس علمية قويمة وضمن بناء شامل ومتماسك ومتى استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاص غمار هذا المعترك ووفق لتفنيد كل مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة، وان يخرج من ذلك ظاهرا مظفرا وبانيا لصرح المدرسة الإسلامية العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصلية والمتصلة بوحي السماء ولطف الله بالإنسان.
هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الرباني والمجاهد الشهيد التي أسسها وأشادها لبنة لبنة بفكره ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة وهي تعبر بمجموعها عن البعد العلمي ، الّذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.
أجل سيدي الأستاذ فان لساني ليكل عن استيعاب كل أبعاد شخصيتك وان قلمي ليعجز عن رسم مناقبك وفضائلك القدسية ، التي تفوق آفاق ذهني الضيق وقدرتي المحدودة.
فعذرا سيدي إن اقتصرت على جانب واحد من جوانب عظمتك ، ذلك الجانب الّذي عشت معه ردحا طويلا من الزمن وعرفته معرفة مباشرة وتغذيت من ينبوعه الثر ما وسعني التزود العلمي والفكري والروحي. ولعل الله يوفقني لعرض ما يمكنني استعراضه من الجوانب الأخرى من حياتك المباركة وجهادك المقدس وتقواك وخصالك الحميدة وزهدك في دنياك واستعدادك للتضحية في كل وقت من أجل رسالتك وأمتك ودورك القيادي في حمل أعباء الإسلام الّذي ختمته ببذل دمك الزاكي في سبيل رسالتك ، فكم كنت عظيما سيدي! وكم كنت موفقا من قبل الله سبحانه وتعالى لكل منقبة ولكل بطولة وعظمة!
فسلام الله عليك أيها الإمام الشهيد يوم ولدت، ويوم نشرت الحق وأسست أصول العلم والإيمان،ويوم جاهدت ودافعت عن كرامات هذه الأمة، ويوم استشهدت بيد أرذل خلق الله في هذا العصر ويوم تبعث حيا مع جدك الحسين وسائر الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..
المصدر: مقدمة الطبعة الثانية من کتاب” بحوث في علم الأصول” المؤلف : السيد محمود الهاشمي الشاهرودي ، الجزء : 1 صفحة : 7