الاقتصاد الاسلامي

الدعم الاقتصادي الحكومي: أسسه العقدية ومظاهره العملية في المنظور الاقتصادي الاسلامى

الضابط “الاساسى” للنشاط الاقتصادي للأفراد والجماعات في المنظور الاقتصادي الإسلامي هو طلب الرزق الحلال وتجنب أكل الحرام، وليس مجرد السعي للربح وتجنب الخسارة، بصرف النظر عن قيميه الوسائل، كما في النظام الاقتصادي الراسمالى. بقلم: د. صبري محمد خليل

 موقع الاجتهاد: تعريف الدعم الحكومي: هو دعم يقدّم من حكومات الدول لدعم صناعة ما أو تخفيض سعر سلعة ما، في حالة الصناعة يكون هدف الدعم هو تنمية تلك الصناعة أو جعلها ذات تنافسية أعلى في الأسواق العالمية، أما على صعيد الدعم الحكومي بهدف تخفيض أسعار بعض السلع فيكون ذلك بتحمل الحكومة لجزء من أسعار استيراد أو إنتاج تلك السلع.

وللدعم أشكال متعددة منها : الدعم المباشر ،الدعم غير المباشر،الدعم النقدي ، الدعم العيني…

قراءه نقدية إسلاميه لموقف الفكر الاقتصادي الغربي من الدعم الحكومي :

الموقف الليبرالي – الرأسمالي من الدعم الحكومي( التناقض بين المستويين النظري والعملي ): لا يمكن الحديث عن موقف الليبرالية كفلسفة ومنهج، و الراسماليه بما هي النظام الليبرالي في الاقتصاد، من الدعم الحكومي إلا بعد التمييز بين المستويين النظري والتطبيقي لكليهما .

المستوى النظري( الموقف السلبي ): فعلى المستوى النظري نجد أن الراسماليه قائمه كنظام اقتصادي ليبرالي – و استنادا إلى فكره القانون الطبيعي- على أن مصلحه المجتمع ككل ستتحقق حتما، من خلال محاوله كل فرد تحقيق مصالحه الخاصة،اى دون تدخل الدولة كممثل للمجتمع ، وطبقا لهذا فان الموقف الليبرالي – الراسمالى من الدعم الاقتصادي الحكومي – على المستوى النظري- هو موقف سلبي مضمونه رفض اى شكل من أشكال الدعم الحكومي باعتباره شكل من أشكال تدخل الدولة.

المستوى التطبيقي ( الموقف الايجابي ): أما على المستوى التطبيقي فقد اثبت واقع المجتمعات الراسماليه الاوربيه ذاته خطاْ هذا الموقف الليبرالي – الراسمالى ” النظري” ،إذ قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر حتى كانت ضرورة تدخل الدولة – ومن أشكاله الدعم الحكومي- مسلمه في كل المجتمعات الاوربيه، وان اختلفت في مدى هذا التدخل، ذلك أن المنافسة الحرة في النظام الاقتصادي الراسمالى في المجتمعات الغربية قضت على حرية المنافسة لتنتهي إلى الاحتكار ، اى أن التجربة أثبتت أن ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن لا يستطيع الاغلبيه فعل ما يريدون.

و بعد انهيار الكتلة الشرقية، وظهور نظام عالمي جديد أحادى القطب ، ظهرت بعض الدعوات التي تلتزم الموقف النظري الليبرالي – الراسمالى السلبي من الدعم الحكومي ، إلا أن هذه الدعوات شكلت الأساس الايدولوجى للازمه الاقتصادية العالمية الاخيره ، مما أدى إلى تجدد الدعوات إلى ضرورة تدخل الدولة، ومن أشكاله الدعم الحكومي لفئات معينه أو لقطاعات اقتصاديه معينه.
من مظاهر الدعم الحكومي في الدول الغربية الراسماليه : فعلى سبيل المثال لا الحصر فان اغلب الدول الغربية لديها برامج للضمان الاجتماعي والرعاية الصحية،وبرامج دعم العاطلين عن العمل، و ظلت دول مجموعه العشرين تقدم دعما حكوميا للوقود الاحفورى و تعهدت عام 2009 بإلغائه، واستمرت الولايات المتحدة الامريكيه في تقديم الدعم الزراعي ، مما دعي باقي الأطراف الأساسية في منظمة التجارة العالمية إلى دعوتها مرارا إلى تخفيضه، كما أن قطاع الطائرات المدنية لديها يستفيد بشدة من برامج تطوير الطائرات والمعدات العسكرية، الذي يحصل على قدر كبير من نفقاته من الحكومة الأمريكية، إلى جانب الاستفادة من الإعفاءات الضريبية من جانب الحكومة الأمريكية ،

ووفقا لهذا البرنامج للدعم الحكومي فإن شركه “إيرباص” تحصل على 33 في المائة من تكاليف مشروع التطوير في صورة قروض حكومية، يتم سدادها بالكامل مع فوائدها خلال 17 عاما، مما حدي بشركه بوينج بتقديم شكوى ضد هذا البرنامج في عام 2004 ، وقالت إنه يمثل انتهاكا لاتفاق أمريكا ـ الاتحاد الأوروبي عام1992 ولقواعد منظمه ألتجاره العالمية،وظلت الحكومة البريطانية تتكفل بدفع أكثر من 90% من قيمة الإيجار للعاطلين عن العمل وأولئك الذين يعملون بدوام جزئي، حتى أعلنت حكومة كاميرون أنها ستكون مضطرة لتقليص هذا الدعم في ظل ارتفاع أسعار الإيجارات في لندن…

التناقض: وهكذا فإن الموقف الليبرالي – الراسمالى من الدعم الحكومي – على المستوى النظري – يعتبر أن الدعم الحكومي في تجارب الدول الاشتراكية خاصة والنامية عامه هو مشكلة،وبالتالي فان إلغائه هو الحل، بينما المشكلة الحقيقية هي عدم وصول الدعم لمستحقيه، نتيجة لعوامل متعددة كانعدام الشفافية والبيروقراطية والفساد نتيجة لانعدام الديموقراطيه في هذه الدول …وبالتالي فان الحل هو العمل على ضمان وصول الدعم لمستحقيه ، من خلال الشفافية وتحرير القطاع العام من البيروقراطية والفساد.

كما أن الدول الغربية الراسماليه، عندما تلزم الدول النامية بإلغاء الدعم الحكومي، من خلال مؤسسات اقتصاديه دوليه ، تجسد النظام الاقتصادي الراسمالى على المستوى العالمي(كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمه التجارة العالمية… )، فان موقفها هذا يتسق مع الموقف الليبرالي – الراسمالى النظري(المفترض) السلبي من الدعم الحكومي، لكنه تتناقض مع الموقف الليبرالي – الراسمالى العملي(الفعلي ) الايجابي من الدعم الحكومي.

الأسس العقدية للدعم الاقتصادي الحكومي في المنظور الاقتصادي الاسلامى:

أما المنظور الاقتصادي الاسلامى ، فقد اتخذ موقفا ايجابيا من الدعم الاقتصادي الحكومي ، مضمونه وجوب الدعم الاقتصادي الحكومي، و ينطلق في موقفه الايجابي هذا من العديد من الأسس العقدية ومنها:

المفاهيم الكلية للفلسفة ألاقتصاديه الاسلاميه: فالفلسفة ألاقتصاديه الاسلاميه تستند إلى جمله من المفاهيم الكلية، التي تؤسس لاتخاذ موقف ايجابي من الدعم الاقتصادي الحكومي ومن هذه المفاهيم:

أولا: ملكيه المال لله تعالى: أن الله تعالى هو المالك الأصلي للمال قال تعالى﴿ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾(النور: 33) .والمقصود بالملكية هنا حق التصرف المطلق في المال ” اى ما يقابل مصطلح “ملكيه الرقبة “

ثانيا:استخلاف ألجماعه في الانتفاع بالمال: أن الله تعالى (مالك المال) استخلف الجماعة في الانتفاع بالمال، أما الفرد فنائب ووكيل عنها في الانتفاع به،قال تعالى ( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)،وهذا المبدأ يترتب عليه ثلاث قواعد هي:

ا/ أن للجماعة حق الانتفاع بمصادر الثروة الرئيسية دون الفرد ، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم ) (الناس شركاء في ثلاثة الماء و الكلأ والنار) (روه احمد وأبو داود).

ب/ وهو ما يكون بان تتولى الدولة إدارة إنتاج هذه المصادر باعتبارها وكيل للجماعة ونائب عنها ، يقول عمر بن الخطاب( رضي الله عنه) (لو أن عناقا ” عنزا ” ذهب بشاطئ العراق لأخذ بها عمر يوم القيامة).

ج/ أن للجماعة أن تترك ما دون مصادر الثروة الرئيسية حقا ينتفع به الفرد “القطاع الخاص” بشرط أن لا يتعارض ذلك مع مصلحتها.

إقرار الملكية الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية ورفض الملكية الخاصة: كما أن موقف المنظور الاقتصادي الاسلامى من الملكية يؤسس لموقف ايجابي من الدعم الاقتصادي الحكومي،حيث أن مضمون هذا الموقف هو إقرار الملكية الفردية كشكل القانوني للملكية، مضمونه حق الفرد في التصرف بالمال مقيدا بضوابط المالك الاصلى للمال (الله تعالى)، ومصلحه المستخلف فيه أصلا
(الجماعة) ،أما الملكية الخاصة (ملكية الرقبة)،والتي تخول للفرد التصرف المطلق في المال ، كما في الفلسفة الاقتصادية الليبرالية (الراسماليه)، فهي تتعارض مع المنظور الاقتصادي الاسلامى،على مستوى أصوله النصية الثابتة، التي تسند ملكيه المال لله تعالى وحده.

إقرار المنظور الاقتصادي الاسلامى الوظيفة ألاقتصاديه للدولة: كذلك يؤسس المنظور الاقتصادي الاسلامى لموقف ايجابي من الدعم الاقتصادي الحكومي، من خلال إقراره الوظيفة الاقتصادية للدولة الاسلاميه ،والتي تتمثل في أن احد الغايات الاساسيه للدولة الاسلاميه ، هو إشباع الحاجات المتجددة للجماعة،وهو ما يتجسد في كون وظيفة الدولة في مجال الاقتصاد ، هو توفير الحاجات الأساسية للجماعة من مأكل وملبس ومسكن وتكوين الاسره وتعليم وعمل… ضروري.

اتساقا مع هذا أكد علماء الإسلام على هذه الوظيفة ،في معرض إشارتهم للوظائف الدينية والدنيوية المتعددة والمتفاعلة للدولة الاسلاميه، والتي عبروا عنها على وجه الإجمال لمصطلح” حراسه الدين وسياسة الدنيا” ، يقول الإمام الماوردي (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا).

إقرار المنظور الاقتصادي الاسلامى ضوابط للسوق : ومما يؤسس لموقف ايجابي من الدعم الاقتصادي الحكومي تقرير المنظور الاقتصادي الاسلامى ، وجوب خضوع حركه السوق لجمله من الضوابط والقانونية الاخلاقيه والدينية للسوق والتي يعمل على ضمان الالتزام بها كل من الدولة والمجتمع معا – خلافا للموقف الليبرالي – الراسمالى من ضوابط السوق قائم – على المستوى النظري الافتراضي وليس المستوى العملي الفعلي- والقائم على عدم فرض اى ضوابط أخلاقيه أو قانونيه على السوق ، اتكالا على أن ثمة قانون طبيعي بنظم تلك السوق، ويحملها على وجه يجعلها تؤدى وظيفتها تلقائيا.

ومن هذه الضوابط:
ا/ أن الضابط “الاساسى” للنشاط الاقتصادي للأفراد والجماعات في المنظور الاقتصادي الإسلامي هو طلب الرزق الحلال وتجنب أكل الحرام، وليس مجرد السعي للربح وتجنب الخسارة، بصرف النظر عن قيميه الوسائل، كما في النظام الاقتصادي الراسمالى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ )(سنن النسائي . كِتَاب الْبُيُوعِ. حديث رقم 4454) .

ب/ النهى عن الغش : قال الرسول(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ) .ج/ تحريم الاحتكار :عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )( مَنْ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِئٌ ) (مسند أحمد . بَاقِي مُسْنَدِ الْمُكْثِرِينَ . حديث رقم 8403) .

من مظاهر الدعم الاقتصادي الحكومي في المنظور الاقتصادي الإسلامي: وعلى المستوى العملي التطبيقي، فإننا نجد الكثير من مظاهر الدعم الاقتصادي الحكومي في المنظور الاقتصادي الاسلامى،ومنها:

أولا: العطاء: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)(والله ما احد أحق بهذا المال من احد ،وما من احد إلا وله نصيب في هذا المال نصيب أعطيته أو منعته،فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وعناؤه وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليصلن الرجل حقه من المال وهو في مكانه يرعى).

كفاله الدولة للفقراء: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن الرسول (صلى الها عليه وسلم ) قال ( أنا أوْلى بالمؤمنين في كتاب الله, فأيكم ماَّ ترك دينا وضيعة “عيالاً” فادعوني فأنا وليه )( رواه مسلم, ج/3041)

توفر الدولة العمل المناسب لكل فرد حسب مقدرته: روى البخاري وغيرة أن رجلا جاء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم) يطلب إليه أن يدبر حاله لأنه خال من الكسب، وان الرسول دعا بقدوم وسواة بيده ، وجعل له يدا خشبية وضعها فيه، ثم دفعه للرجل وكلفه بالعمل لكسب قوته في مكان اختاره له ،وأوجب الإمام الغزالي في الإحياء أخذا بهذا الحديث ان على ولي الأمر إن يزود العامل بالة العمل .
إقراض الدولة للمحتاج: ينقل ابن عابدين عن أبو يوسف (يدفع للعاجز – أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجيه لفقره – كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل ويستغل أرضه ).

توفير الدولة العلاج: ورد في السيرة إن نفرا من عيينة قدموا على الرسول(صلى الله عليه وسلم) فاسلموا واستوباؤا المدينة، وشكوا الم الطحال ، فأمر بهم الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلى لقاحة، وكان سرح المسلمين بذي الجدر ناحية قباء قريبا من عير ترعي هنالك، فكانوا فيها حتى صحوا وسمنوا وكانوا استاذنوة أن يشربوا من ألبانها و ابوالها (علي عادة القوم في التداوي في زمنهم) فأذن لهم ، وكان عمر(رضي الله عنه) يسأل عن واليه وأحواله مع رعيته ،وكان مما يسأل عنه عيادته المرضى جميعا أحرارهم وعبيدهم ، فان أجاب رعية الوالي عن خصلة من الخصال بانتفائها من واليهم عزل الوالي لعدم قيامه بحق رعايته، ومر عمر(رضي الله عنه) عند مجزئيه الشام علي قوم من المجزومين ففرض لهم شيئا من بيت المال.

توفير التعليم الضروري: روى أبى داود عن أبى شيبة انه قال لرسول الله( صلى الله عليه وسلم) ( يا رسول الله رجل اهدي لي قوسا ، ممن كنت اعلمه الكتاب والقران، وليس بمال وارمي عليهما في سبيل الله. فقال: إن كنت تحب إن تكون طوقا من النار فاقبلها). قال الامام بن حزم( وفرض على الإمام أن يأخذ بذلك ، وان يرتب أقواما لتعليم الجهال).

تسعير السلع الضرورية: هناك ثلاثة مذاهب في الفقه الاقتصادي الاسلامى حول حكم التسعير، المذهب الأول هو مذهب المنع الذي يرى انه لا يجوز للحاكم أن يسعر على الناس مطلقاً ، وإن فعل ذلك يكون فعله هذا إكراهاً يكره معه البيع والشراء (الكراهه)، ويمنع صحة البيع عند بعضهم (التحريم)، وقد استدل أنصار هذا المذهب بأدلة ، منها قوله (صلى الله عليه وسلم)( إن الله هو المسعِّر ، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ).

غير ان هذا الحديث – وغيره من النصوص المماثلة- لا يدل على المنع المطلق للتسعير، ولكنه يدل على المنع من التسعير في الأحوال التي يكون التسعير فيها مجحفاً بحق البائع أو العامل الذي يقوم بما يجب عليه من امتناع عن الاحتكار أو التواطؤ لإغلاء الأسعار ورفعها ، يقول ابن تيميه(من احتج على منع التسعير مطلقاً بقول النبي (صلى الله عليه وسلم-)« إن الله هو المسعر… » قيل له
: هذه قضية معينة، وليست لفظاً عاماً ، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه ، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه ، فإذا بذله صاحبه ، كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه – فهنا لا يسعر عليهم ).

وبناءا على ما سبق فان الراى القائل بعدم تدخل الدولة في التسعير مطلقا، وترك الأسعار طبقا لقانون العرض والطلب، لا يتسق مع هذا المذهب، ولا مع التصور الاسلامى للمال، بل يعبر عن التصور الاقتصادي الراسمالى الليبرالي والقائم على عدم تدخل الدولة كممثل للمجتمع ،استنادا إلى مفهوم القانون الطبيعي.

أما المذهب الثانى فهو مذهب الإيجاب: فقد ذهب بعض العلماء، كسعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن : إلى جواز التسعير مطلقاً (الوجوب)،و ذهب المالكية إلى جواز التسعير في الأقوات مع الغلاء .

أما المذهب الثالث فهو مذهب الجمع بين المنع والإيجاب: فقد ذهب كثير من متأخري الحنفية وبعض الحنابلة ، كابن تيمية وابن القيم إلى منع التسعير في أحوال و إيجابه (جوازا او وجوبا ) أحياناً أخرى،يقول ابن تيمية: (التسعير منه ما هو ظلم , ومنه ما هو عدل جائز بل واجب) ويقول (إذا تضمن العدل بين الناس , مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل, ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل, فهو جائز بل واجب)،و يقول ابن القيم ( فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه, أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام, وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل, ومنعهم مما يحرم عليهم, من أخذ الزيادة على عوض المثل, فهو جائز, بل واجب) .

والمذهب الذى نرجحه، والذي يتسق مع مضمون مذهب الجمع بين المنع والإيجاب، ان التسعير يختلف الحكم علية طبقا لمصلحة الجماعة، يقول ابن القيم (وجماع الأمر أن مصلحة الناس, إذا لم تتم إلا بالتسعير, سعر عليهم تسعير عدل لا وكس فيه ولا شطط , وإذا اندفعت حاجتهم بدونه, لم يفعل)، فان كان التسعير في سلعة معينة في ظرف معين لا يحقق مصالحها ويلحق بها الضرر كان المنع، أما إذا كان التسعير يحقق مصلحة الجماعة كان الإيجاب بشرط أن لا يتضمن السعر الذى تضعه الدولة الضرر للبائع والمشتري .
وللجماعة مصلحه دائمة فى وجوب تسعير السلع الضرورية ، دفعا لضرر دائم يتمثل فى وقوع الناس في عبودية فئة تحتكر أرزاقهم ، وهو ما يناقض مع جوهر التصور الإسلامي للمال .

د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفة القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

المصدر: http://www.sudanile.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky