خاص الاجتهاد: في الخامس عشر من شهر نوفمبر في التقويم الرسمي الإيراني، سُجّل كيوم لتخليد ذكرى العلامة آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي.
كان العلامة الطباطبائي من أقطاب الحوزة العلمية في قم في العصر الحاضر، واشتُهر بتفسيره الجليل “الميزان في تفسير القرآن”؛ غير أن آثاره وخدماته تتجاوز “الميزان”، رغم أن مكانة هذا التفسير لا يمكن إنكارها.
لقد خرّجت الحوزة العلمية في قم على مدى حياتها المباركة علماء بارزين، ولكن قليلون هم الذين اتصفوا بالأبعاد الشاملة، وقد كان العلامة الطباطبائي إلى جانب الإمام الخميني (رضوان الله عليه) متميزًا ورائدًا في مختلف الجوانب:
كان من أهل الفلسفة في زمن شهد فيه هذا العلم هجرانًا وتهميشًا.
وفي ذلك الزمن ذاته، كان قلبه متعلّقًا بالعِرْفان والسير والسلوك.
طالب علم من ديار آذربيجان:
وُلد العلامة الطباطبائي في تبريز عام 1902م، وودّع دار الفناء في مدينة قم المقدسة بتاريخ 14 نوفمبر 1981م. كان العلامة الطباطبائي متبحراً في عالم التفسير والأصول والفقه والعرفان. ومن أشهر آثاره يمكن الإشارة إلى تفسير الميزان، نهاية الحكمة، الشيعة في الإسلام، وأصول الفلسفة والمنهج الواقعي.
يمكن تقسيم حياة العلامة الطباطبائي إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى هي طفولته في تبريز. المرحلة التالية هي فترة دراسته في النجف.
والمرحلة التي تليها هي عودته إلى تبريز. والمرحلة الأخيرة من حياته الدنيوية كانت إقامته في قم.
تحدث العلامة الطباطبائي عن فترة دراسته قائلاً: «في أوائل تحصيلي، عندما كنت مشتغلاً بالصرف والنحو، لم تكن لدي رغبة كبيرة في مواصلة الدراسة، ولهذا لم أكن أفهم ما أقرأه، وأمضيت أربع سنوات على هذا المنوال. بعدها، شملتني عناية إلهية على نحو مفاجئ، فغيّرتني، وأحسست في داخلي بنوع من الشغف والقلق لطلب الكمال، بحيث أنني منذ ذلك اليوم وحتى نهاية أيام الدراسة التي استمرت حوالي سبعة عشر عاماً، لم أشعر أبداً بالإرهاق أو اليأس من التعليم والتفكر. ونسيت جمال وقبح الدنيا، وكنت أعتبر حلو ومر الأحداث سواءً. قطعت بساط معاشرة غير أهل العلم كلياً. واكتفيت بالحد الأدنى الضروري من الأكل والنوم ولوازم الحياة الأخرى، وكرست الباقي للمطالعة. تكرر كثيراً، خاصة في الربيع والصيف، أن أقضي الليل في المطالعة حتى طلوع الشمس. وكنت دائماً أطالع درس الغد في الليلة السابقة، وإذا واجهتني مشكلة، كنت أحلّها بأي جهد كان، وعندما كنت أحضر الدرس، كنت مسبقاً على بصيرة بما سيقوله الأستاذ، ولم أُشكل أو أخطئ في الدرس أمام الأستاذ أبداً.»
كان أستاذه في الفلسفة هو المتألّه السيد حسين البادكوبي، حيث درس لديه لسنوات طويلة في النجف الأشرف إلى جانب شقيقه السيد محمد حسن الإلهي الطباطبائي. كما تلقى المعارف الإلهية، وتفسير القرآن بالقرآن، والحكمة والفلسفة، والأخلاق، وفقه الحديث لدى السيد علي القاضي الطباطبائي، وتحت إشرافه وتعليمه وتربيته ترعرع ونما في ميدان العرفان.
أهمية المدرسة الفكرية للعّلامة الطباطبائي
تكمن أهمية السيد محمد حسين الطباطبائي في إحيائه للحكمة والفلسفة والتفسير في الحوزات الشيعية بعد فترة حكم الأسرة الصفوية. لم يكتفِ العلامة بإعادة شرح الحكمة الصدرائية (فلسفة الملا صدرا)، بل أسّس لنظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) ضمن هذا المذهب الفكري.
كما عمل على إعطاء حياة جديدة للفكر الديني في فترة المواجهة مع الأفكار الغربية، مثل الماركسية، وذلك عبر نشر العديد من الكتب وتربية الأجيال من التلامذة، بل وسعى أيضاً إلى نشر هذا الفكر في العالم الغربي.
لقاءاته مع هنري كوربان وتأسيس حلقة فلسفية
من الأحداث البارزة في الحياة الفكرية للطباطبائي أثناء إقامته في قم، كان قدوم المستشرق الفرنسي هنري كوربان إلى إيران ولقائه بالطباطبائي في قم وطهران. وأدّت هذه اللقاءات إلى تشكيل حلقة فلسفية مهمة في تلك الفترة، وبفضل جهود كوربان، حضر العديد من فلاسفة إيران المعاصرين اللاحقين إلى جانب كوربان للتعلم والمناقشة في المباحث الفلسفية العميقة عند الطباطبائي.
كان كوربان فيلسوفاً متأثراً بهايدغر، وقد انتهى به البحث عن أسئلته التي لم يجد لها إجابة إلى إيران، ليجد في حضور الطباطبائي – بصفته فيلسوفاً شيعياً – إجابات لتلك التساؤلات المعلقة. وقد أقرّ كوربان بنفسه بأن الطباطبائي كان يقدّم له إجابات دقيقة ومقنعة.
أبرز إنجازاته: “تفسير الميزان” و”أصول الفلسفة”
1. تفسير الميزان في تفسير القرآن
أول هذه الإنجازات هو تفسير الميزان، الذي أُلِّف في عشرين مجلداً واستغرق تأليفه عشرين عاماً باللغة العربية واستخدم العلامة الطباطبائي في هذا التفسير منهج “تفسير القرآن بالقرآن”، وبالإضافة إلى تفسير الآيات والمباحث اللغوية، يشتمل التفسير في أقسام منفصلة – تبعاً لموضوع الآيات – على مباحث روائية، وتاريخية، وكلامية، وفلسفية، واجتماعية.
نُشر هذا الأثر في البداية في أربعين مجلداً، ثم في عشرين مجلداً، وقد قام بترجمته إلى الفارسية السيد محمد باقر الموسوي الهمداني.
2. في مواجهة المعرفيات الغربية
يُعدّ العلامة الطباطبائي أول مفكر في العصر المعاصر يتصدى لبحث المسائل المعرفية (الإبستمولوجيا).
“أصول الفلسفة والمنهج الواقعي”: في كتابه هذا، قام بالرد على شبهات مدارس السفسطة، والشكاكية، والتجريبية المتطرفة (التي تشكك في قدرة العقل على إدراك الحقيقة)، وقدم الفلسفة الإسلامية كنظام واقعي يقوم على أساس العقلانية. كما أولى العلامة اهتماماً بالغاً للدور الذي لا غنى عنه للعقل في فهم الحقائق الدينية، ونبّه إلى نقاط هامة في هذا الصدد.
3. الدفاع عن التعقّل
يمكن القول بأن العلامة دافع عن مبدأ التعقّل واستخدام العقل في جبهتين:
في مواجهة الحِسّيّة: ضد النزعة الحِسّيّة والتجريبية المتطرفة التي ظهرت في الغرب، والتي أدّت إلى الشك والنسبية في جميع المجالات الاعتقادية والأخلاقية.
في مواجهة الظاهريين: ضد الظاهريين والأخباريين الذين أفرطوا في إسقاط حجية العقل، وهو ما أدّى بدوره إلى إسقاط حجية الوحي أيضاً، ووصلوا إلى حالة من تعطيل الدين والعقل معاً. يُمثل بحث موقف العلامة من هذه المسألة موضوعاً لهذا المقال.
4. الدعم النظري للثورة الإسلامية
وفي سياق متصل، يشير حجة الإسلام بارسانيا في إحدى كلماته إلى مكانة فلاسفة القرن الأخير، ومن ضمنهم العلامة الطباطبائي، وقام بتقديمهم “كداعم نظري للثورة الإسلامية”.ومع الأسف، لم يتم الالتفات إلى هذا الدعم الفكري بالقدر الكافي، ولا تزال أهميته غير مكتشفة حتى الآن.
نظرة على سورة الإسراء:
بالنظر إلى الأوضاع الراهنة في منطقة غزة والطبيعة الوحشية للكيان الصهيوني هذه الأيام، فمن المناسب أن نلقي نظرة على تفسير سورة الإسراء التي تتحدث عن قوم بني إسرائيل، والتي تناولها العلامة الطباطبائي أيضاً بشكل جيد.
إن دراسة الوعد القرآني بالفساد وكيفية ظهوره وتجليه في الفضاء التاريخي والحضاري لقوم بني إسرائيل، يمكن أن تقدم صورة وتحليلاً أكثر وضوحاً لطبيعة وموقع ومآل دولة إسرائيل الصهيونية، وتُعزز من الخلفية العلمية لجبهة المقاومة.
إن الآيات وتبيان كيفية وقوع قمع فساد بني إسرائيل في آخر الزمان، يتم على يد “أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ”، وهو ما يجعل احتمال وقوع أحد الفسادين المذكورين لهذا القوم في العصر المعاصر أقوى من الاحتمالات الأخرى. ووفقاً للروايات والأدلة المطروحة في هذا المقال، فإن السلسلة المتوالية لأحداث فساد بني إسرائيل و”علوّهم الكبير” في آخر الزمان، ستكون في أواخر فترة الغيبة الكبرى، وتؤدي إلى ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف). ومصداق “أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ” هم أنصار الإمام المهدي (عج) الذين يحققون هذا الوعد الإلهي في سياق قمع فساد بني إسرائيل.
تلامذة العلامة الطباطبائي
ربّى العلامة الطباطبائي تلامذة بارزين تولى جزء كبير منهم مسؤوليات كبرى في الثورة الإسلامية بعد انتصارها. ويُعد آية الله محمد إمامي الكاشاني، ومحمد مؤمن القمي، ومحمد محمدي الكيلاني، ومحمد مفتح، والشهيد مرتضى مطهري جزءاً من هؤلاء التلامذة المهمين للعلامة، الذين لعب كل منهم دوراً أساسياً في تحولات المجتمع الإيراني في السبعينيات والثمانينيات. لقد تحول الشهيد مطهري، بصفته أحد أبرز تلامذة العلامة الطباطبائي، إلى المنظّر للثورة والشخص الأكثر موثوقية لدى الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، بحيث كان مؤثراً في العديد من قرارات فترة الثورة. وفي الواقع، يمثل الشهيد مطهري امتداداً للخط الفكري للعلامة الطباطبائي في الثورة الإسلامية. على الرغم من أن العلامة لم يكن من أهل المواقف السياسية الحادة والصريحة، إلا أن المسلك والخطاب الذي أرساه قد سقى شجرة كانت ثمرتها هي الثورة الإسلامية.
إن اهتمام العلامة بالفلسفة في زمن كانت فيه قوة المعارضين للفلسفة في الحوزة متزايدة، يعد من أهم النقاط الفاصلة في حياته العلمية. ولكن إرث العلامة الطباطبائي في مجتمعنا الحالي قُدِّم بشكل أقل للجيل الجديد والجمهور المتعطش للمعارف. إن حياة العلامة العلمية والشخصية تمتلك القدرة على أن تُعرَّف للمجتمع كنموذج ونخبة ثقافية وفكرية، وأن تكون قدوة للعاملين في هذا المجال؛ ولكن للأسف، هذه مشكلة تُطوّق عنق بلدنا، وهي قلة اهتمامنا بممتلكاتنا ورؤوس أموالنا الثقافية والفكرية. وقد أدّى هذا النهج إلى عدم توفير إمكانية استفادة الناس في البلاد من هذه الكنوز العلمية، الثقافية، والدينية.
يجب أن نتحسّر ونتمنى أن تكون تسمية هذا اليوم باسم العلامة (يوم تخليد ذكراه) محاولة مؤثرة وجديرة للتخفيف من هذا التهميش الذي يعاني منه علامَتُنا صاحب المنهج.
الاجتهاد موقع فقهي